ربما كان قرار خامنئي بالرد على الاعتداء الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق بمثابة كأس السم الثانية التي يضطر لتجرعها بعد سلفه الخميني حين وافق على وقف الحرب مع العراق. ذلك أن الامتناع عن الرد كان سيحوّل إيران «العظمى» إلى «ملطشة» تتلقى الصفعات من كل حدب وصوب، وتجعل من مزاعمها الإمبراطورية من جهة والمقاومة والممانعة من جهة أخرى مجرد أضحوكة لا يمكنها مداراتها وراء ترهات «الصبر الاستراتيجي». أما الرد بما يتناسب مع مستوى الاعتداء الإسرائيلي فثمنه سيكون باهظاً كما يعرف الولي الفقيه. فما هو الحل أمام هذه الورطة الكبيرة؟
كانت إيران إذن مضطرة للرد حفظاً لماء وجهها، على أن يكون الرد محسوباً لا يوقع ضحايا ولا أضراراً بالمنشآت الإسرائيلية، ومعلناً بتفاصيله من توقيت وحجم الوسائل وخط سيرها، من خلال عواصم إقليمية معروفة بعلاقاتها الوثيقة مع واشنطن، لم تخف طهران أنها أعلمتها مسبقاً بتلك التفاصيل، وهو ما يعني عملياً اتخاذ إسرائيل لاحتياطاتها الكاملة لاستقبال هدايا إيران. والحال أن حلفاء تل أبيب، واشنطن ولندن وباريس، قد أدوا القسم الأساسي من مهمة التصدي للصواريخ والمسيرات الإيرانية، فأسقطوا أكثر من تسعين في المئة منها قبل وصولها إلى إسرائيل. بالمقابل تفتقر إيران إلى حلفاء أقوياء كهؤلاء، بل تعاني من عزلة دولية معززة بمختلف أنواع العقوبات، لا يعوضها عن ذلك تمددها الإقليمي من خلال وكلائها من ميليشيات مصنفة كمنظمات إرهابية، ولا نفوذها في البيئات الشيعية في المجتمعات العربية.
أما إسرائيل فهي محمية ضد أي مساءلة دولية أو أممية على جرائمها وانتهاكاتها للقوانين والأعراف الدولية، وتضمن واشنطن تفوقها العسكري الدائم على محيطها العربي كعقيدة هي من ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية، وتتحمل الدول الحليفة لها معظم تكاليف حروبها المتواترة وغير المتكافئة مع الفلسطينيين والدول المحيطة بها. في معادلة قوى بهذا الاختلال الفاحش تقتضي الحصافة التي لا يفتقر إليها الإيرانيون ألا يردوا على إسرائيل إلا وفقاً لـ«قواعد الاشتباك» الثابتة منذ سنوات، أي من خلال «حزب الله» أو الحوثيين أو الميليشيات العراقية، وليس مباشرة من أراضيها كما فعلت ليلة الأحد الماضي. غير أن من شأن هذه الحصافة، أي التصرف وكأن إسرائيل لم تقصف قنصليتها في دمشق، أن تصيب هيبة الدولة الإقليمية «العظمى» التي تتنافس على الهيمنة مع كل من تركيا وإسرائيل، وتواصل تلقي الهجمات الإسرائيلية على مواقع الميليشيات التابعة لها وقادة الحرس الثوري وضباطه المهمين حيثما تواجدوا على الأراضي السورية.
أما الخسائر الإيرانية من هذا الرد فهي لا تقتصر على كلفة الصواريخ والمسيرات التي تم استهلاكها بلا أي مردود، بل تتجاوز ذلك إلى خسائر سياسية تضاف إلى خسارتها المعنوية
أثار الرد الاستعراضي بالصواريخ والمسيّرات الكثير من التعليقات الساخرة بسبب وضوح هزاله الشديد بالقياس إلى الاعتداء الإسرائيلي، كما بالقياس إلى التهديدات التي أطلقها القادة الإيرانيون وإعلام النظام السوري. أما الخسائر الإيرانية من هذا الرد فهي لا تقتصر على كلفة الصواريخ والمسيرات التي تم استهلاكها بلا أي مردود، بل تتجاوز ذلك إلى خسائر سياسية تضاف إلى خسارتها المعنوية. فقد تلقت الإدانات من الدول الغربية، وارتفعت دعوات أوروبية لفرض مزيد من العقوبات عليها، ومن المحتمل أن تتعرض لرد إسرائيلي مباشر على أراضيها هذه المرة، قد تستهدف منشآتها النووية أو مواقعها العسكرية، من غير أن تخشى إسرائيل إدانات أو عقوبات، ناهيكم من تلقي المزيد من الدعم من حلفائها.
على أي حال حققت إسرائيل مكاسب كبيرة من الرد الإيراني من خلال استعادتها موقع «الضحية» المزعومة بعدما بلغ الأمر بها اتهامها بارتكاب الإبادة الجماعية في قطاع غزة من قبل مسؤولي دول وشخصيات عامة عبر العالم، واشتد الضغط عليها لوقف الحرب على قطاع غزة وإجراء صفقة مع حركة حماس لتبادل الأسرى، وللامتناع عن اقتحام رفح الذي ظلت تهدد به وتخشى تنفيذه بسبب الثمن السياسي المرتفع الذي من المحتمل أن تدفعه إذا فعلت. وفر الرد الإيراني لإسرائيل، إلى ذلك، تمريناً عملياً لانخراط حلفائها في الدفاع عنها أمام أي هجوم كبير قد يستهدفها.
لكن الثمن الأكبر الذي من المرجح أن تدفعه إيران لم يستحق بعد، وهو الرد الإسرائيلي الذي يبدو أنه قادم بالنظر إلى تصريحات أركان الحكومة والقادة العسكريين، وسيريد له الإسرائيليون أن يكون موجعاً ومكلفاً بحيث تستعيد إسرائيل قدرتها على الردع بما لا يترك لإيران أي هامش للتفكير برد جديد. فإذا حدث ذلك على هذه الصورة، فهذا لا يعني أن «قواعد الاشتباك» ستعود إلى ما كانت عليها قبل الأول من نيسان، أي ضربات إسرائيلية متكررة لمواقع تابعة للميليشيات الإيرانية في سوريا ولمواقع «حزب الله» في لبنان مقابل الهجمات الدعائية عليها من قبل تلك الميليشيات. بل من المحتمل أن تتغير هذه المعادلة لتصبح استئناف الضربات الإسرائيلية من طرف واحد للأهداف الإيرانية خارج إيران إلى أن تضطر إيران لإبعاد وكلائها عن الحدود الإسرائيلية.
الإدارة الأمريكية ما زالت تسعى لعدم توسيع نطاق الحرب، وقد طالبت إسرائيل بإنهاء التصعيد من خلال عدم الرد على الرد الإيراني، ولكن من المستبعد أن تتمكن من لجم حكومة نتنياهو عن الرد. ذلك أن تلك الحكومة ترى في الهجوم الإيراني اختراقاً هو الأول من نوعه، مهما بلغت نتائجه العسكرية من هزال، متشجعة في غطرستها من الدعم الغربي غير المحدود والحماية التي يوفرها لها الحلفاء في المحافل الدولية.