الحديث في كثير من الاجتماعات والمؤتمرات خلال الأشهر الأخيرة عن تحولات النظام الدولي واستقراره، في ضوء حرب أوكرانيا، والأوضاع في الشرق الأوسط ومحاولات الإبادة الجماعية التي نشهدها في غزة. وأتابع من خلال المشاركة والاطلاع تجاوزاً خطراً للمحظورات وتناقضات صارخة وغريبة في مواقف دول كانت في الكتلة الشرقية والغربية على حد سواء، مما أثار لديَّ شعوراً حقيقياً بأن أسس وقواعد النظام الدولي لا تحظى حتى بالحد الأدنى من الاحترام والاهتمام من حيث المضمون أو الشكل، وأننا على أبواب مرحلة من الاضطرابات الشديدة والأخطار الجسيمة.
وعلى رغم يقيني أن النظام الدولي يتجاوز الساحتين الأوروبية والشرق أوسطية، ومراعاة دائماً تجنب تعميم الخلاصات أو المبالغة في التقديرات، أشعر بقلق عميق بأن تطورات أحداث أوكرانيا وغزة تحمل في طياتها مؤشرات، وأننا على وشك السقوط في منزلق بالغ الخطورة والاضطراب، ومن أهم تلك المؤشرات العودة اتجاه العلاقات بين الدول إلى ما يسمى لعبة ومعادلات محصلتهما صفر “zero sum game”، تسعى فيها الأطراف إلى الفوز الكامل على الطرف الآخر.
أخطأت روسيا في غزو أوكرانيا كرد فعل للجنوحات الغربية، وتصرفت بمفهوم الدول العظمى وتجاوزاتها، وأخطأ الغرب في تغليب الصدام العسكري على الدبلوماسية التي توقفت كلية، ويرفض التحاور مع روسيا أو حتى الوجود مع ممثليها في غالب المحافل، ويعد كلاهما أن الصراع الغربي – الروسي أصبح وجودياً، يرفض فيه الغرب التعايش مع روسيا كدولة رئيسة في المجتمع الدولي، ويريد تركيعها وقبولها دور الدولة المتوسطة سياسياً واقتصادياً، وفي المقابل ترى روسيا أن كل التحركات الغربية تقع في إطار خطة متكاملة لتحقيق هذا الهدف وتأمين الهيمنة الغربية، وأصبحنا الآن في صدام يحكمه تناقض واضح في رؤية كل طرف للآخر، وتضاؤل الرغبة في التعايش والتنافس السياسي السلمي مع الآخر.
وقد يسرع البعض للتنويه بأن العلاقات الدولية دائماً فيها غالب ومغلوب منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا أن هذه خلاصة غير مكتملة، فحتى أثناء الحرب الباردة افترضت نظريات توازن القوة بقاء وتعايش الدول المتنافسة، وعندما انتهت لمصلحة التجمع الغربي تم احترام ساحات النفوذ المتعارف عليها ومصالح الغير في الأقل موقتاً، حتى انهار توازن القوة كلية لمصلحة الدول الغربية على حساب الكتلة الأخرى، بل ظل التعايش قائماً في الأقل شكلياً، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأحد الدلائل على ذلك دعوة روسيا إلى استضافة مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، على رغم انكماش نفوذه إلى أقصى درجة، وظل التعايش النسبي قائماً إلى أن سقطت الحواجز غير الرسمية حول مناطق النفوذ، وزرعت بوادر نزاع أوكرانيا، ومن أخطر المؤشرات الدولية الأخيرة كذلك العسكرة المتزايدة في العلاقات الدولية، بما في ذلك تبرير حيازة واستخدام الأسلحة النووية أخطر الأسلحة وأكثرها فتكاً، باعتبارها ليست سلاحاً رادعاً فحسب، وإنما سلاح قابل للاستخدام عملياتياً بحسب متطلبات العمليات العسكرية، يهدد طرف باستخدامه، ويرد الآخر بأنه سينشر تلك الأسلحة قرب حدود الآخر.
يعلم الجميع أن السلاح النووي استخدم ضد اليابان، وأن الدول النووية كانت تتباهى دائماً بأن السلاح النووي يشكل رادعاً ضد قيام الصدامات العسكرية والحروب، إلا أن التطورات والأحداث منذ إنشاء الأمم المتحدة في المجال النووي كانت في عكس هذا الاتجاه مع استثناءات محدودة، أوضحها الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل وبعض التحفظات حول البرنامج النووي الإيراني.
وحتى في أثناء الحرب الباردة تجنبت روسيا وأميركا التهديد جزافاً باستخدام الأسلحة النووية، وعقدت مفاوضات عدة للحد الأسلحة الاستراتيجية، بل إن الدول النووية أصدرت بياناً في الثالث من يونيو (حزيران) 2022 أكدت فيه أن “تجنب الحرب النووية وتخفيض الأخطار الاستراتيجية من أهم مسؤولياتها”، واستطردت أن “الحرب النووية لا يمكن الفوز فيها ويجب تجنب نشوبها”.
إلا أنه يتكرر الآن التهديد باستخدام السلاح النووي كأداة مشروعة للدفاع عن النفس، ويتجاوز الحديث نظريات هلامية شبه جنونية بأن “أخطار الفناء المتبادل” هي أفضل رادع ضد استخدام تلك الأسلحة، وتكرر الإشارة في إطار حرب أوكرانيا إلى إمكانية استخدام الأسلحة النووية التكتيكية إزاء التهديدات المتنامية على روسيا ومكانتها كدولة مهمة على الساحة الدولية، كما صرحت متحدثة روسيا أخيراً بأن بلادها تستهدف أي أسلحة نووية للحلف الأطلسي يتم نشرها في بولندا.
للأسف، امتدت تلك المؤشرات الخطرة إلى الشرق الأوسط برفض التعايش السياسي مع الغير، وتعكسها محاولات واضحة من الجانب الإسرائيلي للقضاء على الهوية الفلسطينية، وليس فيما يتعلق بالهوية السياسية فحسب، بل كذلك فيما يتعلق بالهوية المجتمعية، وذلك بالتهجير الفلسطيني القسري والتوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية، وصدور عديد من التصريحات من مسؤولين إسرائيليين عن أفضلية تهجير الفلسطينيين، وأخرى من مستوطنين عن رغبتهم في التوسع الاستيطاني مستقبلاً في غزة، إضافة إلى ما يتم في الضفة الغربية لنهر الأردن، والهدف هنا ليس ترجيح دفة التفاوض لمصلحة إسرائيل في مفاوضاتهم مع الفلسطينيين، ولا حتى القضاء على فكرة إقامة دولة فلسطينية بجوار إسرائيل فحسب، بل القضاء كلية على الهوية وطمس الشخصية الفلسطينية، لعدم قبول التعايش مع مجتمع فلسطيني مستقل أو محتل.
كما تشهد المنطقة ارتفاع نبرة التهديد باستخدام الأسلحة النووية والتكنولوجيات الحديثة، وتبرير حيازة الأسلحة النووية وإدخالها في المعادلة العسكرية عملياتياً، للحد من خسائر الطرف الأقوى، على حساب مجتمعات لا تحظى بأي صورة كانت للأسلحة الفتاكة النووية أو غيرها، واستمعنا إلى مطالبات علنية من مسؤولين إسرائيليين باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية في غزة، وقد يستغرب أن بعض المتخصصين حتى في دول الكتلة الشرقية سابقاً يدفعون علناً أن حيازة إسرائيل لقدرات نووية كانت رادعاً فعالاً ومفيداً ودفاعاً أمنها ضد احتمالات تعرضها لهجمات خطرة من “حزب الله” وسوريا وإيران، وبالفعل فوجئت شخصياً بذلك أخيراً في أحد الاجتماعات التي حضرتها، مما جعلني أعقب بأن هذا الطرح الخطر يقر ضمنياً بإمكانية استخدام الأسلحة النووي ضد دول غير نووية، ويشجع الدول لاستخدام تلك الأسلحة، وسيخلق دافعاً إضافياً لانتشار الأسلحة النووية بكل ما تحمله من تداعيات.
أختتم هذه السطور بتحذير مقلق من أن الأوضاع الدولية والشرق أوسطية أصبحت على حافة الهاوية وخطرة جداً.