لا أعرف لماذا يحتاج المرء إلى أن يعود، بعد نحو سبعة شهور، إلى الحديث عن حزب الله اللبناني، والأسباب التي دعته إلى فتح ما سماها “جبهة إسناد” لغزّة بعد يوم فقط من عملية طوفان الأقصى. في كل الأحوال، من الصعب أن يفهم المرء حسابات حزب الله وسياساته ومواقفه بمعزل عن العلاقة التي تربطه بإيران. فحزب الله بتسميته (آية الله الخميني هو من أطلق عليه اسمه) وبنيته، وفكره وعقيدته جزءٌ من نظام الجمهورية في إيران، تم إنشاؤه عام 1982 على يد علي أكبر محتشمي (1947-2021)، سفير إيران غير العادي حينها في دمشق، والذي كان محسوباً على المتشدّدين قبل أن يتحوّل إصلاحياً أواخر عمره.
يؤمن حزب الله بولاية الفقيه، ويأتمر، بحسب تصريحات زعيمه، حسن نصر الله، بأوامر الولي الفقيه (علي خامنئي). لا تموّل إيران حزب الله وتسليحه ودفع رواتب عناصره فحسب، بل تموّل شبكة خدماته التي تخدم حاضنته الاجتماعية، وهي جزءٌ معتبر من شيعة لبنان. بناء عليه، يُرسّخ حزب الله في عقل جمهوره أن الدفاع عن إيران إنما هو دفاع عن شيعة لبنان ومكتسباتهم، والتي ما كانت لتتحقّق لولا الدعم السخي الذي قدمته إيران، وهذا صحيح، أخذاً في الاعتبار الطبيعة الطائفية للنظام السياسي اللبناني وغياب مفهوم الدولة والمواطنة، حال أكثر الدول العربية، حيث تستقوي الطوائف على بعضها بتحالفاتٍ وامتداداتٍ خارجية. هذا يعني أن شيعة لبنان مدينون، بحسب سردية حزب الله، بالفضل لنظام الولي الفقيه، وبقاؤه هو تمكين لهم وسقوطُه إضعافٌ لهم. والحال كذلك، يصبح الدفاع عن الجمهورية الإسلامية ونظامها وتجسيد مشروعها هو “علّة” وجود حزب الله (raison d’état)، ويدخل في هذا الإطار ردع إسرائيل و/أو الولايات المتحدة عن مهاجمة إيران بهدف إطاحة نظامها، أو تدمير برنامجها النووي، الذي صار يُنظر إليه، خصوصاً بعد التصعيد أخيراً مع إسرائيل، باعتباره بوليصة تأمين للنظام الإيراني وأداة رئيسة في خدمة مشروعه الإقليمي. وعليه، لن يستخدم حزب الله قوّته العسكرية بكليتها إلا في حال تعرّض هو نفسه أو إيران لهجوم.
دخل حزب الله في عام 2006 في حرب مع إسرائيل، نتيجة خطأ حسابات أقرّ بها زعيمه، تجنّب بعدها أي صداماتٍ فعلية معها، حتى وقعت “طوفان الأقصى”. هنا يبرُز السؤال الذي يجتهد كثيرون في محاولة الإجابة عليه: إذا كانت علّة وجود حزب الله الدفاع عن مكتسبات شيعة لبنان ونظام ولاية الفقيه ومشروعه، لماذا قرّر الحزب أن يتدخّل في حرب غزّة، ولو بشكل مقيّد أو محدود؟ لا بأس من الإشارة، أولاً، إلى أن حزب الله فوجئ، شأنُه شأن إيران، بعملية طوفان الأقصى، ولم يُبد ارتياحا لها وسط مفاوضات “واعدة” بين إيران والولايات المتحدة. مع ذلك، قرّر أن يساندها، رغم أن حاضنته الاجتماعية لم تكن متحمّسة لذلك. الأكيد أن حسابات واقعية بالمطلق تحكّمت هنا بقرارات حزب الله، منها أن إسرائيل إذا تمكّنت من تحقيق هدفها في القضاء على حكم “حماس” في غزّة، فهذا يعني إضعافًا لـ”محور المقاومة”، والأهم أن حزب الله سيكون الهدف التالي، ما يمهّد الطريق لضرب إيران نفسها. وتقديراً منه أن إسرائيل ستُهاجمه تالياً إذا فرغت من “حماس”، قرّر حزب الله فتح “جبهة إسناد” لغزّة، إنما من دون أن يخاطر بحرب شاملة تدمر قدراته العسكرية، وهو أمرٌ ما كانت لتسمح به إيران، التي تحتفظ بقدرات الحزب الرئيسة لردع إسرائيل وأميركا عن مهاجمتها. قد يكون الحزب فكّر أيضا في تحقيق مكسب آخر مهم، وهو استعادة صورته حركة مقاومة بعد تورّطه في سورية (whitewash)، فليس كفلسطين مخلّصاً من الآثام والخطايا؟ طبعا، في هذا مخاطرة كبيرة يقوم بها الحزب، لكن المخاطرة أكبر لو قرّر عدم فعل شيء. خلاصة الكلام، عندما قرّر حزب الله “مساندة” غزّة، إنما كان، في حقيقة الأمر، يساند نفسه، ويدافع عن مكتسباته في لبنان، وعن نظام ايران ومشروعها في المنطقة، وليس انتصارا “لخطابه المقاوم من أجل فلسطين”، أو تلبية لتوقّعاتٍ من هنا أو هناك، كما يزعم بعضهم.