تسعى واشنطن وباريس إلى بذل جهود متقاربة لتجنب اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و”حزب الله”، ولكن من المستحسن إجراء المزيد من التنسيق ويبدو أنه مرجح بشكل متزايد في أعقاب التصعيد الأخير بين الجانبين.
شهدت المساعي الدبلوماسية الفرنسية حركة كبيرة بشأن الملف اللبناني خلال الأسبوع الماضي. ففي 18 نيسان/أبريل، تبنى قادة الاتحاد الأوروبي موقفاً مشتركاً بشأن لبنان بعد الضغوط القوية التي مارستها باريس. وفي اليوم التالي، استضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، وقائد الجيش اللبناني، جوزف عون. وكانت الحكومة الفرنسية قد اقترحت في وقت سابق ترتيباً أمنياً جديداً بين لبنان وإسرائيل في شهر آذار/مارس لتتلقى بالنتيجة رسالة رسمية غامضة بل إيجابية من بيروت، بموافقة من “حزب الله” على الأرجح.
تنسجم هذه الأنشطة مع الدعم الشامل الذي تقدمه فرنسا للبنان ونهجها الدبلوماسي منذ بدء الجولة الحالية من الأعمال العدائية بين “حزب الله” وإسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وتبذل باريس على غرار واشنطن مساعِ حثيثة لإيجاد حل دبلوماسي يمنع اندلاع حرب شاملة، وأرسلت عدة مرات وزير خارجيتها ووزير دفاعها ومسؤولين آخرين رفيعي المستوى إلى إسرائيل ولبنان. كما كثف المسؤولون الفرنسيون والأمريكيون من اتصالاتهم في الآونة الأخيرة، مما يشير إلى أن المزيد من التعاون يلوح في الأفق أو أنه قد بدأ بالفعل. ومن بين الأسئلة التي تطرح نفسها هنا ما هي معالم هذا التنسيق وما هي الأهداف التي يسعى كل حليف إلى إعطائها الأولوية في المرحلة القادمة؟
مقارنة بين الخطط الفرنسية والأمريكية
سبق أن وضعت كل من الحكومتين الفرنسية والأمريكية خطة خاصة بها لحل الأزمة الحالية في لبنان وتبدو القواسم المشتركة بينهما لافتة. فكلاهما تنمان عن شعور بالقلق من التصعيد الإقليمي وكلاهما تسعيان إلى الاستناد إلى “قرار مجلس الأمن رقم 1701” وتنفيذه ولو جزئياً، وهو قرار تم اعتماده للمرة الأولى في الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل عام 2006 ولكنه لم يطبق يوماً كما يجب. كما أنهما تطالبان على وجه التحديد بما يلي:
- انسحاب مسلحي “حزب الله” وبعض من قدراته العسكرية بعيداً عن الحدود.
- انتشار واسع النطاق للجيش اللبناني في الجنوب مدعوماً من “القوة المؤقتة للأمم المتحدة في لبنان” (“اليونيفيل”).
- وقف الطلعات العسكرية الجوية فوق الأراضي اللبنانية.
- مفاوضات جديدة بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم حدودهما البرية.
ولا تختلف معايير باريس وواشنطن بشأن هذه البنود سوى ببضعة تفاصيل بسيطة، على سبيل المثال، تدعو الخطة الفرنسية إلى تراجع “حزب الله” عن الحدود مسافة عشرة كيلومترات بينما تدعو الخطة الأمريكية إلى سبعة كيلومترات. علاوة على ذلك، تبدو الخطة الأمريكية أكثر شمولاً إذ تجمع، وفقاً لبعض التقارير، العناصر أعلاه بحوافز اقتصادية، بينما تواصل فرنسا تركيزها على المسائل الأمنية. وتنقسم الخطتان إلى ثلاث مراحل، إلا أن الخطة الفرنسية تتناول مرحلة خفض التصعيد بمزيد من التفاصيل وتعطي مهلة قصيرة لإنجاز ما يلي:
- وقف فوري لإطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله”.
- انسحاب “حزب الله” خلال ثلاثة أيام إلى مسافة عشرة كيلومترات شمال “الخط الأزرق” الذي رسمته الأمم المتحدة، وبعد ذلك يبدأ الجيش اللبناني بالانتشار جنوباً، وتوقف القوات الإسرائيلية طلعاتها الجوية فوق لبنان.
- بدء المحادثات بشأن الحدود خلال 10 أيام. ومن الجدير بالذكر أن هذه المحادثات لن تشمل على الأرجح مزارع شبعا لأن ذلك سيتطلب التعامل مع سوريا وهذا ليس وارداً في الوقت الحالي، علماً بأن “حزب الله” استخدم هذه المنطقة المتنازع عليها كذريعة لمواصلة الأعمال العدائية.
علاوةً على ذلك، تبدو فرنسا حريصة على محاكاة “تفاهم نيسان” من عام 1996 الذي أوجد آلية مراقبة بإشراف الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان وإسرائيل وسوريا (ولكن مجدداً، من غير المتوقع أن تؤدي سوريا دوراً في الظروف الحالية كما أن الطرف الدولي الآخر الوحيد القادر على التأثير في “حزب الله”، أي إيران، لا يمكنه أيضاً تأدية مثل هذا الدور). وقد يثير هذا النوع من الترتيبات الشكوك حول مستقبل الاجتماعات الثلاثية التي تقيمها “اليونيفيل” مع مسؤولين من إسرائيل والجيش اللبناني، علماً بأن هذه الاجتماعات متوقفة منذ بدء حرب غزة ولكنها شكلت سابقاً منتدى مفيداً لتبادل المعلومات وتفادي النزاعات حول مسائل ذات صلة “بالقرار 1701”. ومع ذلك، نظراً لما تتعرض له “اليونيفيل” من ضغوط وانتقادات، من شأن صياغة نظام مماثل لآلية عام 1996 أن تأتي بمزيد من الجهات الضامنة وقد تحسّن الثقة في نهاية المطاف.
من التنافس إلى التعاون
لا يوجد تفسير واضح للسبب الذي يمنع باريس وواشنطن من طرح مبادرة مشتركة، ولكن لطالما كانت علاقة العمل بين الحليفين في لبنان متسمة بالتعقيدات.
ولم تتلاقَ رؤية البلدَين في بعض الأحيان. ففي أربعينيات القرن المنصرم اضطرت واشنطن إلى الضغط على باريس لمنح لبنان استقلاله. وفي الآونة الأخيرة، أدت استراتيجية “الضغط الأقصى” التي اعتمدتها إدارة ترامب ضد “حزب الله” وغيره من وكلاء إيران إلى إثارة قلق واشنطن من مساعي فرنسا في لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت في عام 2020.
وحتى عندما تلاقت رؤيتاهما، بقي التعاون صعباً بينهما. وكما يرويوزير الخارجية الفرنسي السابق، هيرفي دو شاريت، تَقدم البلدان بمبادرات منافسة خلال الحملة العسكرية التي شنتها إسرائيل على لبنان في عام 1996. وقد وافقت الولايات المتحدة وإسرائيل على فحوى الجهود الفرنسية ولكنهما أصرتا على حصر العمل الدبلوماسي بقناة واحدة. ونتيجة لذلك، قادت واشنطن المبادرة غير أن باريس أدت دوراً أساسياً في صياغة محتوى الاتفاق النهائي.
وفي المقابل، فإن النجاحات الدبلوماسية (النادرة) في لبنان على مدى العقدين الماضيين، بما في ذلك الانسحاب السوري عام 2005، كانت في كثير من الأحيان نتيجة للتعاون الوثيق بين فرنسا وأمريكا، ويبدو واضحاً أن الحليفين ينسقان بشأن الأزمة الحالية أيضاً. وفي هذا الإطار، أشار وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، خلال مؤتمر صحفي عُقد في باريس في 2 نيسان/أبريل مع نظيره الفرنسي إلى أن “فرنسا قدمت مقترحات لاقت استحسان شركائنا اللبنانيين”، مما يعني أن واشنطن على اطلاع دائم على الجهود الفرنسية. وبعد أيام، زار المبعوث الفرنسي، جان إيف لو دريان، واشنطن لمناقشة الوضع مع بلينكن والمبعوث الأمريكي، آموس هوكستين، الذي عمل بشكل وثيق مع باريس على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في عام 2022.
وفي الواقع قد تعتمد واشنطن على المساعدة الفرنسية فيما يخص لبنان، وذلك لعدة أسباب. فبالإضافة إلى علاقات فرنسا التاريخية الوطيدة مع لبنان، فإنها تسهم في قوات “اليونيفيل” بنشرها 700 جندي على الأرض كما أنها الطرف المعني بالقضايا اللبنانية في مجلس الأمن الدولي. علاوة على ذلك، يمكنها التعامل مباشرة مع مختلف الجهات الفاعلة على الساحة السياسية اللبنانية، من بينها “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” الذي فرضت الولايات المتحدة على قائده عقوبات في عام 2020، وينطبق الأمر نفسه فيما يخص التعامل مع إيران. وكثيراً ما استخدمت واشنطن هذه “القناة الفرنسية” سابقاً وقد تكون أكثر كفاءة في حالات الأزمات من الاعتماد على الوسطاء اللبنانيين.
وبالنسبة لباريس، من الواضح أن النفوذ الأمريكي على إسرائيل لا غنى عنه. كما أن النفوذ الأمريكي ضروري في لبنان إذ يمكن أن تتقلص نتائج الدبلوماسية الفرنسية بشكل كبير إذا فترت همة الولايات المتحدة.
آفاق لمزيد من التنسيق
إذا تم التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل ولبنان، سيتعين على المسؤولين الأمريكيين والفرنسيين العمل بشكل وثيق في مجلس الأمن، ليس بسبب الدور الذي تؤديه “اليونيفيل” و”هيئة مراقبة الهدنة التابعة للأمم المتحدة” على الأرض فحسب، بل أيضاً نظراً للمشقة التي واجهها تجديد ولاية “اليونيفيل” العام الماضي والذي شهد امتناع روسيا والصين عن التصويت دعماً لطلب بيروت و”حزب الله” تعزيز التدقيق في مهمة حفظ السلام. ومن المرجح أن تستمر بكين، وبدرجة أكبر موسكو، في هذه العرقلة في المستقبل، لا سيما وأن روسيا عززت علاقاتها مع إيران خلال حرب أوكرانيا.
دعم الجيش اللبناني. يبدو أن فرنسا بدأت بالضغط على دول أوروبا والشرق الأوسط لتوفير تمويل إضافي للجيش اللبناني، بما ينسجم مع الموقف المشترك للاتحاد الأوروبي المذكور أعلاه والذي يؤكد التزام الاتحاد الأوروبي بـ”تعزيز دعمه” للجيش. وفي السياق عينه، عندما زار أمير قطر، تميم، فرنسا في شباط/فبراير، تعهدت الحكومتان “بمواصلة دعمهما للجيش اللبناني، وتحديداً عبر تنظيم مؤتمر دولي في باريس”.
المساعدات الإنسانية والتنموية. بإمكان باريس وواشنطن الاستناد إلى مؤتمرات الجهات المانحة السابقة والصندوق الإنساني المشترك الفرنسي السعودي الذي تم إنشاؤه بعد انفجار مرفأ بيروت (انضمت إليه الإمارات العربية المتحدة لاحقاً). وإذا تم أخذ الحوافز الاقتصادية في قطاع النفط والغاز في الاعتبار، فمن الممكن أن تؤدي شركة “توتال إنرجيز” الفرنسية دوراً مفيداً نظراً لمشاركتها السابقة في التنقيب عن احتياطيات البلاد.
الشغور الرئاسي. من الضروري على باريس وواشنطن أيضاً أن تظلا منخرطتين في العملية السياسية في لبنان في إطار “التحالف الخماسي” مع مصر والأردن والسعودية، ويعني ذلك إيجاد توازن دقيق بين أهدافهما قصيرة المدى (منع الحرب الشاملة) وأهدافهما طويلة المدى (إصلاح الحكم). ولكن ثمة مسألة واحدة على وجه التحديد سيصعب جداً على بيروت التفاوض بشأنها، وهي الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة عام ونصف والذي يتوق معسكر “حزب الله” لملئه، ولذلك قد يتجه المسؤولون الأمريكيون والفرنسيون إلى تحويل المنصب إلى ورقة مساومة. ومع ذلك، قد يكون من الأفضل لهم اتخاذ موقف حازم وموحد بشأن ضرورة وجود “مرشح ثالث” يتم تحديده والاتفاق عليه بين الأطراف اللبنانية. ولم يُجنِ التأييد المؤقت الذي خلفته الأزمات الأخيرة مع إسرائيل المزيد من رأس المال السياسي المحلي لـ”حزب الله”، الذي لا يزال غير قادر على تأمين ائتلاف أغلبية. وحتى شريكه المسيحي السابق، “التيار الوطني الحر”، رفض مراراً وتكراراً مرشحه المفضل للرئاسة، سليمان فرنجية.
الخاتمة
لا يزال من غير الواضح ما الأثر الذي سيخلفه تبادل إطلاق النار المباشر الأخير بين إيران وإسرائيل على المشهد اللبناني دبلوماسسياً أو عسكرياً. فقد تجاوزت الاشتباكات مع “حزب الله” عتبات جديدة منذ الأسبوع الماضي ويتصاعد إطلاق النار عبر الحدود بشكل مستمر. وفي الواقع، تبدو إسرائيل عازمة على مواصلة عملياتها ضد الحزب حتى تغيير الوضع الراهن، وهو الهدف الذي ربما تسعى إلى تحقيقه حتى لو استمر وقف التصعيد مع إيران وتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار البعيد المنال في غزة (من الجدير بالذكر أن “حزب الله” يعتبر وقف إطلاق النار في غزة شرطاً أساسياً لا غنى عنه لأي اتفاق بشأن وقف العمليات في لبنان).
ووفقاً لتقييم آخرين، لا يريد “حزب الله” حرباً شاملة في الوقت الراهن، إلا أن الهجوم الإيراني على إسرائيل أظهر أن الاستمرار في خسارة قادة بارزين يمكن أن يدفع “محور المقاومة” إلى تغيير حساباته. ويعني ذلك أن الجهود الدبلوماسية الفرنسية والأمريكية محفوفة بالمخاطر وقد تفشل في أي لحظة إذا تصاعدت الأعمال العدائية، وحتى إذا أدت إلى اتفاق، فقد يستخدم الطرفان ببساطة الهدوء الناجم عن ذلك للاستعداد بشكل أفضل للصراع المستقبلي الذي يعتبرانه حتمياً. ولكن على الرغم من هذه المخاوف، ليس هناك بديل عن السعي بجدية لإيجاد ترتيب آخر يؤدي إلى تأخير وقوع حرب مدمرة ومنع الانهيار الكامل للمؤسسات اللبنانية وتعزيز العناصر الإصلاحية على أمل إعدادها لتولي المسؤولية عندما تسمح المتغيرات الإقليمية بذلك.
سيلين أويسال