معركة القرار (1701) تبدو سوريالية، والحيلة هي التصرف وكأنه جرى تطبيق القرار من دون أن يكون مطبقاً بالفعل،
وحين صدر القرار عن مجلس الأمن الدولي في أعقاب حرب عام 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، ودفع لبنان الثمن في صيف سبقه وعد بالهدوء على طاولة الحوار الوطني في البرلمان ببيروت، قيل إن اللعبة تغيرت لا فقط قواعدها، فالوطن الصغير الذي حرر أرضه بالمقاومة عام 2000 انضم إلى أشقائه العرب في الهدوء على الجبهة والتمسك بـ “المبادرة العربية للسلام” التي خرجت من القمة العربية في بيروت عام 2002.
تيري رود لارسن أشرف بتكليف من الأمين العام للأمم المتحدة على رسم “الخط الأزرق” الذي حدد خطوط الإنسحاب الإسرائيلي بعد حرب الصيف من دون أن يكون مطابقاً تماماً للحدود الدولية المرسومة منذ عام 1923 بين لبنان وفلسطين أيام الانتداب والمعترف بها دولياً، بحيث تحفظت بيروت ولا تزال عن 13 نقطة بدءاً من النقطة “B1” في الناقورة.
القوات الدولية المعززة “يونيفيل” انتشرت مع الجيش اللبناني على طول الخط الأزرق وفي عمقه، والمنطقة الممتدة من نهر الليطاني شمالاً إلى الخط الأزرق جنوباً سميت “منطقة عمليات دولية” لا مكان فيها لسلاح ومسلحين خارج الشرعية، ومختصر ذلك هو الإيحاء بأن المرحلة الأولى من تنفيذ القرار (1701) اكتملت تحت عنوان “وقف العمليات العدائية” في انتظار التقدم إلى المرحلة النهائية، وهي مرحلة “وقف النار التام” وتكريس بسط السلطة عبر الجيش اللبناني للسيادة على الحدود بمساعدة قوات “يونيفيل”.
وكلما قدم الأمين العام للأمم المتحدة تقريراً عن حال القرار إلى مجلس الأمن كل ستة أشهر، وقبل التمديد السنوي للقوات الدولية، ذكّر بتفاصيل الخروق ودعا إلى التقيد بالقرار، وكلما جاء ضيف دولي إلى بيروت كرر المسؤولون اللبنانيون خطاب الدعوة إلى “تطبيق القرار بكل مندرجاته”، ولا أحد يصدق ذلك.
في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وبعد عملية “طوفان الأقصى” على غلاف غزة التي نفذتها “حماس”، أعلن “حزب الله” فتح الجبهة الجنوبية لإسناد الحركة الفلسطينية في حرب غزة، وما تكشف بعد الإعلان هو أن المرحلة الأولى من القرار الدولي لم تكن مطبقة بعد 18 عاماً من الدعوات في لبنان والمنطقة والعالم إلى تطبيق المرحلة النهائية، فإسرائيل لم توقف خروقها الجوية و”حزب الله” لم يغادر منطقة العمليات الدولية بل أقام مزيداً من البنى التحتية تحت غطاء الاهتمام بالبيئة، وحجته أن مقاتليه من أبناء القرى في المنطقة ومن الطبيعي أن يبقوا في قراهم وبيوتهم.
ومنذ أكتوبر 2023 والبلد في حرب كاملة الأوصاف، بصرف النظر عن الحرص على ألا تقود إلى حرب شاملة مفتوحة لا تريدها أميركا ولا تريد إيران التورط فيها، ولا يريدها بالتالي “حزب الله”، لكن حكومة بنيامين نتنياهو تريدها. قصف صاروخي ومدفعي، وغارات بالطيران وقصف بالمسيرات، والحصيلة حتى الآن هي تهجير 100 ألف مواطن من قراهم في الجنوب وتدمير آلاف المنازل وإحراق الغابات والحقول المشجرة، في مقابل تهجير 100 ألف مستوطن إسرائيلي من المستوطنات في الجليل وإلحاق دمار بالبنى العسكرية الإسرائيلية.
وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه جاء مرتين إلى بيروت مع ورقة للتهدئة وتطبيق القرار (1701) على ثلاث مراحل، وكبير مستشاري البيت الأبيض للطاقة عاموس هوكشتاين جاء إلى بيروت وقدم اقتراحات بينها فصل الجبهة في لبنان عن حرب غزة للمضي في تحقيق اتفاق لإظهار الحدود الدولية المعترف بها، لكن المسؤولين الذين استقبلوا الموفدين الفرنسي والأميركي، وهم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس البرلمان نبيه بري ووزير الخارجية عبدالله بو حبيب، ليسوا أصحاب القرار بل مجرد عناوين بريدية لإيصال الرسائل إلى صاحب القرار وهو “حزب الله”، وصاحب القرار يرفض البحث في أي شيء قبل أن تنتهي حرب غزة، وأكثر من ذلك فإن فتح الجبهة أمام “الجماعة الإسلامية” و”كتائب القسام” و”الجهاد الإسلامي” للمشاركة في القصف معه ومع حركة “أمل”، عودة إلى تجربة السبعينيات المرة خلال القرن الماضي.
والمفارقة أن المطلوب اليوم أقل مما يفرضه تطبيق المرحلة الأولى من القرار الدولي، شيء من العودة إلى “تفاهم نيسان” عام 1996، وشيء من النزول عند رغبة القوى الميليشياوية المطلوب منها الإنسحاب من منطقة العمليات الدولية عبر تعبير “إعادة التموضع” بدلاً من “الانسحاب”، والكل متواطئ من مجلس الأمن والقوى الكبرى إلى المسؤوليين وأهل الميليشيات في لبنان، تطبيق بلا تطبيق.
إنه قرار في حكم الميت من دون قبر وسط قوى معارضة تدعو إلى التطبيق الكامل للقرار لأنه مفتاح الإنقاذ للبلد، وفي مقابل الأكثرية اللبنانية التي تقول إن لبنان لا علاقة له بحرب غزة، وعليه أن يكون مثل أشقائه العرب، يقول “حزب الله” إن حرب غزة تعنيه ويتصرف على أساس أن الجنوب اللبناني هو “جنوب إقليمي” وعملياً جنوب “إيراني” وجبهة أمامية في صراع جيوسياسي في المنطقة وعليها، ولا تأثير للنقاش والخلافات على الموقف، فالأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله الذي قال بعدما رأى خسائر لبنان حرب 2006 “لو كنت أعلم”، بمعنى لما قمنا بخطف جنود إسرائيليين مما قاد إلى الحرب، عاد لتوصيف نتيجة المعارك بأنها “نصر إلهي”، وكل ضغوط الناس والأزمات العميقة والقوى الخائفة من الانهيار الكامل للبنان، كما من حرب مفتوحة، لا تؤثر في قرار الاستمرار في الحرب والحديث عن “نصر إلهي” جديد على مستوى المنطقة، لكن اللعبة أكبر من الذين يعتبرون أنفسهم أكبر من لبنان.