يبدأ الرئيس الصيني شي جين بينغ، اليوم الأحد، جولة أوروبية تستمر خمسة أيام (حتى 10 مايو/أيار الحالي)، وتشمل فرنسا وصربيا والمجر. وتأتي زيارة شي جين بينغ الأوروبية وسط توترات تجارية متزايدة بين الصين والاتحاد الأوروبي بشأن الممارسات التجارية، بما في ذلك الوصول المحدود إلى السوق الصينية والخلل التجاري الضخم، بالإضافة إلى الاضطرابات المرتبطة بالتقارب الصيني الروسي وموقف بكين من الحرب الأوكرانية. ومن المقرر أن يستهل الرئيس شي جولته بزيارة فرنسا، محطته الأولى، حيث سيلتقي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، وستكون هذه الزيارة الأولى له إلى باريس منذ خمس سنوات. وخلال زيارته إلى المجر، من المتوقع أن يجري الرئيس الصيني محادثات مع الرئيس المجري تاماس سوليوك، ورئيس الوزراء فيكتور أوربان.
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية لين جيان قد صرح في إفادة صحافية، بأن “الصين تتطلع إلى العمل مع فرنسا لزيادة تحسين الثقة السياسية المتبادلة والتعاون من خلال زيارة شي جين بينغ والتي يمكن أن تضخ الاستقرار في تنمية العلاقات بين الصين وأوروبا، وتقدّم مساهمات جديدة لتعزيز العلاقات الثنائية والسلام والاستقرار في العالم”. وأضاف أن بكين تتطلع إلى العمل مع صربيا، واستغلال هذه الزيارة كفرصة لتوطيد الصداقة القوية وتوسيع التعاون العملي بين البلدين.
كثّفت بروكسل أخيراً إجراءاتها التجارية ضد الصين، بينما وصفت بكين هذه التحركات بأنها حمائية مكشوفة
وكان الاتحاد الأوروبي قد أطلق سلسلة من التحقيقات في الدعم الحكومي (دعم التكنولوجيا الخضراء في الصين) الذي يساعد الشركات الصينية على تقويض منافسيها الأوروبيين. وشدّدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، مراراً على أن إعانات دعم التكنولوجيا الخضراء في الصين، والتي يُزعم أنها تغطي مجموعة واسعة من الصناعات مثل السيارات الكهربائية وبطاريات أيونات الليثيوم، تشكل منافسة غير عادلة. وكثّفت بروكسل أخيراً إجراءاتها التجارية ضد الصين، بينما انتقدت بكين هذه التحركات ووصفتها بأنها “حمائية مكشوفة”. كما أطلقت بروكسل تحقيقاً هذا العام في المشتريات العامة للصين للأجهزة الطبية والألواح الشمسية وتوربينات الرياح. وبدأ تحقيق آخر في قطاع السيارات الكهربائية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وقد اعترضت بكين مراراً على هذه الإجراءات، وحثّت البلدان على ممارسة استقلالها الاستراتيجي بعيداً عن الإجراءات الحمائية.
ملفات زيارة شي جين بينغ الأوروبية
ورأى الباحث في العلاقات الدولية في مركز النجمة الحمراء في العاصمة الصينية بكين، جيانغ قوه، أن زيارة شي جين بينغ الأوروبية تستمد أهميتها من الظرف الدولي واضطرابات العلاقات السياسية والتجارية بين الدول بسبب الأزمة الأوكرانية. وتوقع جيانغ قوه، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن تستحوذ زيارة شي إلى باريس على مركز الاهتمام الدولي نظراً للملفات التي سيتم طرحها ومناقشتها مع ماكرون. وعن أبرز هذه الملفات، أوضح أن موقف الصين من الأزمة الأوكرانية وعلاقتها بروسيا ستحتل مكانة كبيرة في محادثات شي الأوروبية. وكذلك مسألة الحوكمة العالمية تعتبر أهم ما سيتم مناقشته بين شي وماكرون، مضيفاً أن الرئيس الصيني سيدعو إلى وضع حد لتدخلات الجغرافيا السياسية والأيديولوجية، وممارسة التعددية بشكل مشترك، وإفساح المجال كاملاً لمسؤولية ونفوذ القوى الكبرى في الحوكمة العالمية. وهو أمر ينسجم، بحسب قوله، مع دعوة الرئيس الفرنسي إلى بناء اتحاد أوروبي مستقل من حيث الأيديولوجيا والأفكار والعلاقات التجارية والاقتصادية.
من جهته، قال أستاذ الدراسات السياسية في معهد قوانغ دونغ، لين تشين، في حديث مع “العربي الجديد”، إنه من المرجح أن تركز القمّة الرئاسية الصينية الفرنسية، على محاولة إقناع بكين بتقليص علاقاتها التجارية والصناعية المتنامية مع موسكو، خصوصاً في ظل الاتهامات الغربية للصين بأن هذه المساعدات قد تسهم في تعزيز قدرات الصناعة العسكرية الروسية في حرب الأخيرة على أوكرانيا. ولفت إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ستتابع أي تطورات في هذا الشأن، وأي مؤشر على أن الصين تتجه نحو تقليص دعمها لموسكو مقابل الحفاظ على علاقات تجارية ودّية مع القارة الأوروبية. لكنه أشار إلى أن موقف بكين لا يزال واضحاً في هذا الخصوص، وهو السماح للأحداث بالتطور من دون الانخراط بشكل كبير من خلال الدعم المباشر للمجهود الحربي الروسي في أوكرانيا، إلى جانب الامتناع عن إدانة موسكو في مجلس الأمن الدولي.
موازنة سياسية واقتصادية
في تعليقه على زيارة شي جين بينغ الأوروبية، رأى الباحث الاقتصادي تشي جيانغ، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه على الرغم من التركيز على زيارة شي إلى فرنسا وأبعادها السياسية، فإن رحلته إلى دول وسط وشرق أوروبا (المجر وصربيا) لن تكون أقل أهمية بالنسبة لديناميكيات العلاقة بين الصين والدول الأوروبية. ولفت إلى أن قادة البلدين من بين أكثر المدافعين الأوروبيين حماساً عن مبادرة الحزام والطريق الصينية. وكان رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، الرئيسين الأوروبيين الوحيدين في قمة الحزام والطريق الثالثة التي عقدتها الصين العام الماضي، والتي حضرها أيضاً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما أشار تشي إلى أن المجر وصربيا قريبتان أيضاً من روسيا، حيث رفض أوربان مراراً الدعوات داخل الاتحاد الأوروبي لقطع العلاقات الاقتصادية مع موسكو التي تعتمد عليها المجر في إمدادات النفط والغاز.
وأوضح الباحث الصيني، أن المجر تعد الوجهة الأوروبية الرئيسية للاستثمارات الصينية في بطاريات السيارات الكهربائية. وتقوم العديد من شركات تصنيع البطاريات المملوكة للصين بإنشاء عملياتها الصناعية هناك. ولفت إلى أن الاستثمارات الصينية في المجر تنطوي على نقل قدرة البطاريات الصينية إلى الداخل الأوروبي بدلاً من الاعتماد على الواردات، ولا تزال المصادر البديلة لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية في الاتحاد الأوروبي محدودة وأكثر تكلفة، الأمر الذي يخدم المصالح الصينية، على اعتبار أن المجر جزء من الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، برأيه، فإن صانعي السيارات الكهربائية في الصين الذين يعملون داخل البلاد يمكنهم البيع مباشرة من داخل السوق الأوروبية الموحدة. واعتبر في هذا السياق، أن هذا الأمر من شأنه أن يجنبهم أي تعريفات جمركية محتملة قد تنشأ عن تحقيقات الاتحاد الأوروبي لمكافحة الدعم في واردات السيارات الكهربائية الصينية. أيضاً بالنسبة لصربيا، فإن التدفقات الاستثمارية الصينية في الأعوام الأخيرة تفوقت على لاعبين أوروبيين كبار مثل ألمانيا وفرنسا، فقد أصبحت الصين المستثمر الأكبر والرئيسي في صربيا.
تشي جيانغ: المجر وصربيا من بين أكثر المدافعين الأوروبيين عن مبادرة الحزام والطريق الصينية
وعلى الرغم من أن صربيا دولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وليست عضوا، فقد مُنحت حق الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة من دون رسوم جمركية لجميع منتجاتها، الأمر الذي جذب الاستثمارات الصينية في مجال صناعة السيارات. وبالتالي، حسب تشي جيانغ، فإن زيارة شي جين بينغ إلى هاتين الدولتين تحمل تأكيداً على أهميتهما ومكانتهما في سلم الأولويات الصينية، فضلاً عن أنها تأتي في إطار موازنة بكين علاقاتها التجارية والسياسية داخل القارة الأوروبية.
وإلى جانب الشقّ التجاري والاقتصادي، تحمل زيارة شي إلى فرنسا والمجر وصربيا، بعدين سياسي ودبلوماسي، دفعا الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني أولاف شولتز، إلى الالتقاء على عشاء يوم الخميس الماضي، ظلّت أجندته “سرّية” بحسب الإعلام الفرنسي والأوروبي، الذي شدّد رغم ذلك، على أن هذا اللقاء تناول محاولة تنسيق الموقفين الفرنسي والألماني، بالقدر الأكبر الممكن، من الصين. وكان شولتز زار الصين في منتصف إبريل/نيسان الماضي، في زيارة هي الأولى له بعدما وضعت برلين العام الماضي أول استراتيجية لها تجاه الصين، والتي اعتبرها متابعون متشدّدة، وانتقدتها بكين، بعدما وصفت ألمانيا الصين بأنها “شريك ومنافس منهجي” في الوقت ذاته. وحملت أجندة الزيارة الألماني لبكين، ملفات العلاقة الصينية مع روسيا، والممارسات الصينية التجارية، والتحذيرات الألمانية الاستخبارية من خطر تطبيق “تيك توك” الصيني، والاهتمام الألماني بالتكنولوجيا الخضراء الصينية، علماً أن الصين هي أكبر شريك تجاري لألمانيا.
ويريد ماكرون أن يكون على ذات الموجة مع ألمانيا، في ما خصّ العلاقة بالصين، رغم أن الزيارة الصينية تأتي بمناسبة مرور 60 عاماً على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بحسب الإليزيه. وبحسب الإعلام الفرنسي (لا تريبون)، فإن ماكرون اقترح على شولتز الانضمام إلى الاجتماع الذي سيجمعه غداً الإثنين، بشي، بحضور رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، لكن المستشار الألماني رفض لالتزامات أخرى. وقالت مصادر الإليزيه إن العشاء سيسمح لماكرون بإدارة لقائه مع شي “من وجهة نظر أوروبية وليست فرنسية”، علماً أن زيارة شي إلى فرنسا، تأتي في وقت يرى الغرب، وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، أن الصين تغذي الحرب الأوكرانية، بدعمها التكنولوجي لآلة الحرب الروسية، فيما تلوّح باريس بتدخل عسكري مباشر إلى جانب قوات كييف.
التقى ماكرون وشولتز الخميس حول عشاء في باريس لتنسيق الموقف قبل زيارة شي
من جهتها، نقلت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، في 30 إبريل الماضي، عن “محيط الرئيس الفرنسي”، أن زيارة شي جين بينغ “هذه المرة، سياسية بامتياز”، مستعرضة الأحداث التي يمر بها العالم، من الحرب الأوكرانية إلى التوترات الأميركية الصينية، إلى التصعيد الصيني في تايوان وبحر الصين الجنوبي، فضلاً عن الحرب في الشرق الأوسط، والتوتر مع إيران. وبحسب الإليزيه، فإن ماكرون “سيحاول دفع الصين التي تمتلك الرافعة اللازمة للانخراط أكثر لتبديل حسابات موسكو”.
يذكر أن الرئيس الفرنسي كان استبق بدء شي زيارته إلى باريس (والبيرينيه الفرنسية)، بمقابلة مع مجلة “ذا إيكونوميست” نشرت الخميس الماضي، أكد فيها أن “أوروبا يجب أن تحمي مصالحها الاستراتيجية” في علاقاتها الاقتصادية مع الصين، داعياً إلى “صحوة” في هذا الشأن، حيث قال إن الصين لا تحترم قواعد التجارة العالمية، وأن الولايات المتحدة توقفت عن وضع هذه القواعد، ما ترك أوروبا غير جاهزة لحماية مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي. كما دافع عن فتح المفوضية الأوروبية العام الماضي، تحقيقاً في الدعم الصيني للسيارات الكهربائية، علماً أن المفوضية أعلنت أيضاً الشهر الماضي، فتحها تحقيقاً في المشتريات العامة الصينية للأجهزة الطبية، لتحديد ما إذا كان الموردون الأوروبيون قد حصلوا على فرصة عادلة للوصول إلى تلك السوق.