لبنان ليس بلد لجوء، بحسب الخطاب الرسمي والشعبي، وليس طرفاً في اتفاق اللاجئين العالمي الموقع عام 1951 ولا في البروتوكول التابع للاتفاق الصادر عام 1967. هو من زمان بلد اغتراب، إلى حد القول، إن في البرازيل وحدها من المغتربين اللبنانيين وأبنائهم وأحفادهم نحو 10 ملايين برازيلي من أصل لبناني، وصل أحدهم إلى الرئاسة، وصار آخر حاكماً لساو باولو. وهو اليوم، وسط الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية الضاغطة، بلد تصدير شباب ومتخرجين من الجامعات وأطباء بارعين ومهندسين ومحامين إلى بلدان المنطقة والعالم للحصول على فرص عمل، بحيث يرسل هؤلاء نحو سبعة مليارات دولار إلى أهاليهم. وكان خلال الحرب التي دامت 15 عاماً في الربع الأخير من القرن الـ20، بلد محاربين وبلد هاربين من الحرب، لاجئين إلى بلدان الجوار والعالم.
لكن سلطته الرخوة والحسابات الضيقة للأفرقاء السياسيين لعبت دوراً في اللجوء الفلسطيني إليه، ثم في تعاظم اللجوء الذي صار مسلحاً وقاد إلى تحكم الفصائل الفلسطينية بلبنان، كما إلى الدخول العسكري السوري والاجتياح الإسرائيلي واقتراب الجبارين الدوليين من الصدام على شاطئ بيروت وقمم الجبال. ولم يندم الذين راهنوا على السلاح الفلسطيني، ثم السوري، ثم الإسرائيلي، ثم الأميركي ثم السوفياتي لتغيير النظام في لبنان إلا بعد فوات الأوان ودمار البلد وتعميق الخصومات والصراعات. وهذا نفسه ما رافق وتلا موجات النزوح السوري خلال حرب سوريا، بحيث يضم لبنان أكثر من مليوني نازح. والمشكلة معقدة ومركبة وكبرت كثيراً من دون قدرة على المعالجة، لا مع النظام في دمشق، ولا مع الأمم المتحدة والدول الكبرى، ولا عبر تطبيق القانون. مشكلة في البيئة، مشكلة في الاقتصاد “الموازي” وأخذ فرص العمل من أمام اللبنانيين، مشكلة في التعليم والاكتظاظ في المدارس، مشكلة في كثافة الولادات ونشوء جيل جديد من سوريين في لبنان لا يعرفون سوريا، مشكلة ديموغرافية في بلد توازنه الديموغرافي مختل أصلاً، وبالطبع مشكلة تتعلق بزيادة الجرائم التي يرتكبها سوريون على أمل الإفلات من العقاب.
والغريب أن السلطة لا تعرف العدد الحقيقي للنازحين، وقد انتظرت طويلاً لكي تقدم لها المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة “الداتا” ناقصة. هي عاجزة عن تطبيق القانون الذي يميّز بين ثلاثة أنواع من النازحين: أولهم الهاربون من القتال، وثانيهم الهاربون من الخدمة العسكرية واللاجئون لأسباب سياسية من معارضي النظام، وثالثهم النازحون لأسباب اقتصادية والباحثون عن فرصة لركوب زوارق الموت عبر البحر المتوسط إلى قبرص أو اليونان أو إيطاليا للوصول إلى قلب أوروبا. السلطة رفضت من البداية الدعوات إلى وضع مخيمات على الحدود كما فعل الأردن. وما تمكنت من إقناع مفوضية اللاجئين والدول المانحة بأنه في سوريا أمكنة آمنة ويمكن نقل النازحين إليها وتقديم المساعدات لهم هناك بدل إغرائهم بالبقاء في لبنان من أجل المساعدات. ولا هي في السعي مع دمشق وجدت باباً للعودة الكريمة لأن الوضع السوري صعب والنظام ليس مستعجلاً على عودة مواطنيه، وهناك من يتهمه بعدم الرغبة في عودتهم. ولا كانت قادرة على إحداث تغيير في موقف الدول الكبرى الرافضة لعودة النازحين من دون التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا تمهيداً لحل الأزمة وإعادة الإعمار.
ومن الصعب الأخذ بقول السلطة إنها وجدت أخيراً “مرونة” في الموقف الأوروبي خلال المحادثات في بيروت مع الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. ما قالته دير لاين بصراحة هو: نعوّل على تعاونكم الجيد في منع الهجرة غير النظامية ومكافحة تهريب اللاجئين. لكن مختصر الموقف الأوروبي المصحوب أخيراً بمساعدات لبنان تبلغ مليار يورو حتى عام 2027 هو: لا ترسلوا النازحين إلى أوروبا، ولا تعيدوهم إلى سوريا. وهذا ما دفع كثيرين إلى التحذير من “شراء” الموقف اللبناني بمليار يورو للتسليم ببقاء النازحين وتقديم المساعدات لهم.
لكن لبنان مغلوب على أمره، بمليار يورو أو من دونه. من الصعب عليه حتى إرسال النازحين المحكومين بجرائم من سجون لبنان المكتظة إلى سجون سوريا. الأمن العام عاجز عن إعادة النازحين غير الشرعيين لأن أعدادهم كبيرة. البلديات في حال مزرية إلى حد أن كل ما تستطيعه هو تسجيل أمكنة سكن النازحين. وليس في سوريا ما يغري النازحين بالعودة. ولا أحد يعرف مدى الصدق في الدعوات الرسمية وغير الرسمية إلى إيجاد حل جذري لمشكلة النازحين. ففي لبنان من راهن على النازحين لتعديل الميزان الديموغرافي. ومن أسهم في دفعهم إلى لبنان عبر قتاله في سوريا، سواء إلى جانب النظام أو إلى جانب معارضيه. ومن عارض منذ البدء، لكن صوته غير مسموع ولا مؤثر. ومن الوهم اتخاذ قرار كبير في جمهورية رأسها مقطوع، ومؤسساتها مفرغة، وإدارتها متحللة ينخرها الفساد، وجنوبها في حرب يقررها طرف من خارج الشرعية ويربط بها كل شيء في لبنان.
في محاضرة أخيرة ألقاها ريمون آرون عام 1978 قبل رحيله، وصدرت في كتاب “الحرية والمساواة”، قال المفكر الفرنسي: “الحرية في مجتمعات مفتوحة تسمح للناس بالنضال من أجل طريقها الخاص، ولكن كيف تستطيع هذه المجتمعات الحرة أن تبقى مستقرة وشرعية إن لم تجد وسائل لتجديد حسها بالهدف المشترك وفهمها لمسؤوليات المواطن؟”. ولبنان عملياً يفتقد إلى الهدف المشترك. أما الهرب من المسؤوليات، فإنه “الرياضة الوطنية” للسلطة كما للمواطن. والواقع أن في لبنان “سوريا ثانية”.