ما زالت نتائج الانتخابات البلدية في تركيا التي جرت في شهر آذار الماضي تثير تفاعلات لم يكن من الممكن تصورها قبل ذلك. فالانقلاب الذي حدث في ترتيب القوى السياسية من حيث الكتلة الناخبة لكل منها، بحيث انتزع حزب الشعب الجمهوري المعارض المركز الأول من حزب السلطة، العدالة والتنمية، للمرة الأولى منذ وصول الأخير إلى السلطة في العام 2002، قد فعل فعله في كلا الحزبين أولاً وفي بعض الأحزاب الأخرى أيضاً.
وكان اعتراف رئيس الجمهورية أردوغان الذي يتزعم العدالة والتنمية في الوقت نفسه، بخسارة حزبه، منذ اللحظات الأولى لظهور النتائج غير الرسمية، بمثابة إشارة البدء بنقد ذاتي داخل الحزب بدلاً من البحث عن أعذار وتبريرات لا جدوى منها. وقد بدأ أردوغان بنفسه هذا النقد الذاتي حين رد تراجع شعبية الحزب إلى أن كوادره قد «بنوا أسواراً بينهم وبين الشعب» وأن ذلك أدى ويؤدي إلى «نزيفٍ في دماء الحزب وتآكلاً في روحه» محدداً المهمة الأكثر إلحاحاً وهي العمل منذ اليوم على تلافي تلك الأخطاء واستعادة مكانة الحزب في قلوب الناس.
وإذا بدت أجواء النصر الانتخابي المفاجئ مسيطرة على بيئة حزب الشعب الجمهوري التقليدية ووسائل إعلامه بعد عقود من الخسارات المتواصلة، وبخاصة خسارته في الانتخابات الرئاسية والنيابية العام الماضي، فلم تستسلم قيادته لهذا الإغراء، بل بادرت ممثلة برئيسها الجديد أوزغور أوزال إلى إطلاق مرحلة جديدة أبرز ما فيها فتح صفحة جديدة مع الحزب الحاكم والرئيس أردوغان بالذات بهدف «تطبيع الحياة السياسية» في تركيا بعد عقدين من الاستقطاب والتوتر الدائم بين الحزبين انعكسا في استقطاب اجتماعي حاد بين أنصار السلطة ومعارضيهم بما ألغى لغة الحوار والتفاهمات الممكنة في بعض الجزئيات على الأقل. ولا يعني ذلك تخلي الحزب المعارض عن معارضته للحكم أو التوقف عن انتقاد ما يراه خاطئاً في مسالك الحكومة وسياساتها، بل التخلي عن جعل النقد السلبي محور نشاطه الوحيد، والعمل على فتح قنوات الحوار الإيجابي أيضاً بين السلطة والمعارضة والبحث عن التفاهمات حيثما أمكن ذلك من غير التخلي عن سياسة الحزب ومنظوراته.
وهكذا تقدم أوزال بطلب رسمي للقاء مع أردوغان بوصفه زعيم الحزب الحاكم. وتلقى أردوغان هذه المبادرة بصورة إيجابية وحدد موعداً للقاء الذي تم في أوائل شهر أيار الجاري في مقر الحزب وليس في القصر الرئاسي، بحيث يكون بين ندين هما رئيسا أكبر حزبين في البلاد. وطرح أوزال مجموعة من الملفات الإشكالية على طاولة حواره مع أردوغان كامتناع القضاء عن تنفيذ قرارات المحكمة الدستورية العليا بما خص وجوب إطلاق سراح النائب جان آتلاي ورجل الأعمال عثمان كفالا المتهمين فيما يطلق عليه «قضية تمرد منتزه غيزي» ووجوب التوقف عن تعيين رؤساء بلديات يحلون محل رؤساء منتخبين، وإطلاق سراح جنرالات متقاعدين كانوا قد اتهموا بالمشاركة في التخطيط لعمليات انقلابية، بسبب أوضاعهم الصحية المقلقة في السجون وأعمارهم المتقدمة، إضافة إلى الموضوعات الاقتصادية وعلى رأسها مشكلة التضخم المؤلمة للطبقات الأدنى في السلم الاجتماعي وتتفاقم آثارها الاجتماعية باطراد.
تدور التوقعات حول فكرة التعديلات التي يريد الحزب الحاكم إدخالها على الدستور الساري يتصدرها موضوع عدد الولايات المسموح بها للترشح لرئاسة الجمهورية
ومن الأمور اللافتة أن أوزال تقدم إلى أردوغان بطلب أن تقدم له وزارة الخارجية إحاطات سياسية حين يكون وفد من الحزب الجمهوري بصدد القيام بزيارة إلى دولة أجنبية، على أن يقدم الحزب بدوره إحاطة عن مجريات الزيارة إلى المؤسسات المعنية. هذا يعني رغبة من الحزب في نوع من التنسيق مع الحكومة حين يتعلق الأمر بعلاقاته الخارجية، أي نوعاً من المشاركة في السياسة الخارجية للدولة بدلاً من اقتصار نشاطه على الشؤون المحلية. وقال أوزال إن رئيس الجمهورية تلقى هذا الطلب بإيجابية ووعد بالاستجابة له من خلال توجيه الخارجية في هذا الاتجاه.
وقد خرج الزعيمان من اللقاء وأطلقا تصريحات إيجابية بشأنه، وربما كان أبرزها إعلان أردوغان أنه تقدم بطلب من نظيره أوزال لتحديد موعد لـ«رد الزيارة» في مقر حزب الشعب الجمهوري في أقرب وقت، وما يعنيه ذلك من استمرار الحوار بين قيادتي الحزبين في مقبل الأيام بدلاً من لغة الهجوم الحاد المتبادل التي كانت سائدة في المراحل السابقة بين أردوغان وكمال كلجدار أوغلو.
وانعكست هذه الأجواء الإيجابية على وسائل الإعلام أيضاً فغابت اللغة العدائية من الطرفين وغلبت لغة الحوار الهادئ، وإن كانت بعض الأقلام تجد صعوبة في التخلي عن عاداتها القديمة. وتقدم النقد الذاتي في الصحف الموالية للحكومة بشأن أسباب خسارة الحزب للانتخابات المحلية، فكتب ياسين آكتاي، وهو قيادي في حزب العدالة والتنمية وأحد مستشاري الرئيس أردوغان، مقالة بعنوان «كيف يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يوقف نزيف الدم والروح الذي تحدث عنهما الرئيس؟» طرح فيها أفكاراً نقدية بصيغة أسئلة: «ما هي الأهداف التي انطلق الحزب من أجلها حين تم تأسيسه، وإلى أين وصل؟ مع من بدأت رحلته، وبرفقة من هو الآن؟ الحزب الذي بدأ كحركة شعبية في مواجهة بؤر الوصاية التي كانت تحكم تركيا، هل اختار في نهاية المطاف التصالح مع تلك البؤر وأيديولوجياتها بدلاً من تصفية الحساب معها؟» في إشارة ضمنية إلى تخلي الحزب عن منطلقاته الشعبية والإصلاحية وتصالحه مع مرتكزات النظام القديم، وإلى تخليه عن حلفائه السابقين وارتباطه مع التيار القومي. ولم يكن لآكتاي أن يتحدث بصراحة عن ذلك بحكم موقعه الحزبي وكمستشار مقرب من الرئيس.
ولم تقتصر آثار نتائج الانتخابات المحلية على الحزبين الرئيسيين، فهناك الحزب الجيد (أو الخيّر) أيضاً الذي تخلت فيه زعيمته المؤسسة مرال آكشنر عن موقعها في مؤتمره الأخير الذي انتخب رئيساً جديداً للحزب هو مساواة درويش أوغلو. وذلك بعد فشلها في إدارة معركة الانتخابات المحلية التي تخلت فيها عن حلفائها السابقين فخاض حزبها الانتخابات بقوائمه الخاصة. يشكك العارفون بالحزب في إمكانية استمراره بعد آكشنر وهو الذي تأسس أصلاً حول زعيمته السابقة.
من المحتمل أن يشكل موضوع صياغة دستور جديد بؤرة النقاشات بين الأحزاب السياسية في المرحلة القادمة، بعدما بدأ رئيس البرلمان نعمان كورتلموش مشاوراته مع القوى السياسية الممثلة في البرلمان بهذا الشأن. وتدور التوقعات الرائجة حول فكرة أن التعديلات التي يريد الحزب الحاكم إدخالها على الدستور الساري يتصدرها موضوع عدد الولايات المسموح بها للترشح لرئاسة الجمهورية، لفتح الطريق أمام استمرار أردوغان في هذا الموقع بعد انتهاء ولايته الحالية في العام 2028، أو إيجاد أي صيغة أخرى لتحقيق ذلك.