يرابطون في صفاقس بالآلاف.. مهاجرو جنوب الصحراء يعدلون البوصلة نحو سواحل أوروبا

يرابطون في صفاقس بالآلاف.. مهاجرو جنوب الصحراء يعدلون البوصلة نحو سواحل أوروبا

صفاقس (تونس)- استمرت رحلتي البریة سبعة أشهر دون توقف.. عانيت فيها الويلات.. العطش والجوع والخوف والمخاطر.. انطلقت من الكوديفوار نحو مالي ثم النيجر أين تجمعنا قبل عبور الصحراء الجزائرية في اتجاه صفاقس التونسية”، هكذا تحدث “فانسون” الإيفواري عن رحلته ورفاقه الأربعين باتجاه أوروبا بعد أن أحبطتها السلطات التونسية نهاية الأسبوع في عرض البحر.

ومحاولة “فانسون” الهجرة سرا عبر البحر نحو “لمبادوزا” الإيطالية انطلقت من أحد شواطئ العوابد التابعة لولاية صفاقس الساحلية الواقعة في جنوب شرق تونس.

ويتابع “فانسون” حديثه، لفريق وكالة الأنباء الرسمية في تونس، على متن خافرة تونسية تابعة للحرس الحدود البحري لإقليم الوسط، سويعات قليلة بعد إفشال عملية الهجرة، ” لن أتراجع مهما كلفني الأمر.. سأعود وأكرر المحاولة..”.

ويضيف قوله وقد استشاط غضبا، “غايتي الذهاب إلى أوروبا بكل الطرق الممكنة ولن يثنيني عن ذلك غير الموت”.

أكثر من 9 آلاف لاجئ وطالب لجوء من المسجلين حاليا لدى مكتب المفوضية في تونس ينحدرون من جنوب الصحراء والقرن الأفريقي وبعض دول الشرق الأوسط

وتجمع على الأرض بصفاقس، الآلاف من المهاجرين غير النظاميين في مناطق مختلفة وتوزعوا في مخيمات وبات وجودهم محل جدل وطرح أكثر من نقطة استفهام لدى أبناء المنطقة، وكذلك لدى الرأي العام في تونس.

وتحدث “حاجي” السيراليوني، المقيم بمخيم بـ”هنشير بن فرحات” غرب معتمدية العامرة، لفريق (وات) بلغة عربية تجمع بين لهجات مغاربية مختلفة، قائلا “تونس بلد إفريقي، ونحن لا نريد البقاء هنا”.

و”حاجي”، الناطق باسم المخيم الذي يأوي آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وأغلبهم من المهاجرين غير النظاميين، وجه النداء إلى السلطات التونسية بقوله “دعونا نغادر نحو أوروبا.. افتحوا البحر أمامنا”.

وأصبحت صفاقس، المنطقة الهادئة المعروفة بحركيتها الاقتصادية وبسواحلها الممتدة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، من أشهر المناطق لدى سكان مدن وقرى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء.

وبلغ صداها الصومال والسودان، شرقا، والكامرون، غربا، ومن هناك انتشر في أحزمة معتمديتي “العامرة” و”جبنيانة” 17 مخيما للمهاجرين غير النظاميين من جنوب الصحراء، يضم أصغرها قرابة 700 شخص وأكبرها الآلاف.

وأضحت منطقتا “العامرة” و”جبنيانة”كلمة السر ونقطة الانطلاق للعبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط.

في الليلة الفاصلة بين يومي الجمعة والسبت 10 و11 مايو الحالي، كان البحر “طياب” بلغة البحارة، والأجواء تشجع على الإبحار.

وتتوغل خافرة الحرس الوطني البحري في عرض البحر بعد أن انطلقت رحلتها من سواحل مدينة صفاقس، في أجواء هادئة لا تنبئ بأي طارئ.

وفي النقطة صفر في عرض البحر، تمركزت الخافرة، التي یقودها ضابط شاب من الحرس الوطني خريج الجامعة التونسية وملاح مهندس لا يعرف نوما ليلا ولا غفلة نهارا.

وعلى الساعة الثالثة إلا ربع فجرا دبت على متن الخافرة حركة غير عادية وتسارعت الخطوات وانتظم الجميع من ضباط وأعوان متأهبين، كل في مكانه وكل في مهمته.

ولم تمر دقائق قليلة حتى “استقبلت” الخافرة 41 مهاجرا غير نظامي من جنوب الصحراء، بينهم “فانسون” الإيفواري.. جلبهم زورق سريع تابع للحرس الوطني البحري للاحتفاظ بهم على متن الخافرة.

وفي الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، تمكن الحرس الوطني البحري الحدودي من إنقاذ ومنع أكثر من 21 ألفا و500 مهاجر حاولوا اجتياز الحدود البحرية خلسة نحو سواحل إيطاليا، وفق ما أكده الناطق باسم الإدارة العامة للحرس الوطني، حسام الدين الجبابلي، في لقاء خاص مع (وات).

وأحبط الحرس البحري 751 محاولة إبحار غير نظامية نحو سواحل أوروبا.. أرقام قال ذات المصدر إنها فاقت، في زمن وجيز، أرقام جهود حماية الحدود البحرية على امتداد العام الماضي.

وظهر السبت الماضي، تحركت الخافرة بسرعة قصوى متوغلة في عرض البحر بحوالي أكثر من 30 ميلا.

واستمرت رحلة المهاجرين السودانيين لنحو 12 ساعة.. كان القارب الحديدي البدائي يحمل على متنه 61 مهاجرا، بينهم امرأتان ورضيعان.. تمكن منهم الإعياء وبدأت المياه تغمر القارب ووقع تكليف عدد منهم بإفراغها بكل الوسائل المتاحة.

واستمرت المطاردة في عرض البحر لمسافة طويلة، وتمكن طاقما الزورقين السريعين للحرس من السيطرة على هؤلاء المهاجرين بعد مفاوضات عسيرة، بعد رشقهم بحجارة كان يحملها المجتازون معهم، وتهديدات بإلقاء الرضيعين في البحر في صورة الاقتراب منهم ومنعهم من مواصلة الرحلة. يحتل السودانيون المرتبة الأولى بنسب تفوق الـ65 في المئة من بين الجنسيات العربية الممتطية لقوارب “الموت” انطلاقا من سواحل صفاقس.

ويحتل المجتازون الغينيون المرتبة الأولى بنسبة 18 في المئة، يليهم الغمبيون فالماليون والبوركينيون ثم الإيفواريون.

وتمكنت فرق الحرس البحري من السيطرة على القارب وإنقاذ الرضيعين، قبل بقية طاقم القارب الحديدي. يعلق الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني على الحادثة بقوله “أفراد الحرس الوطني البحري التونسي يتميزون بالكفاءة والحرفية والتكوين الاستثنائي”.

وكانت خيبة الأمل والحسرة بادييْن على الأعين والإعياء ماثلا على الوجوه الشاحبة لهؤلاء المهاجرين .. لقد أبحروا لأكثر من 12 ساعة وتمكنوا من التوغل بنحو 60 كلم في عرض البحر في اتجاه “لمبادوزا” الإيطالية انطلاقا من شواطئ العوابد.

وفي قرية “الحمايزية” القريبة من شاطئ العوابد، التي يقطنها نحو 700 ساكن، تزحف المخيمات المحيطة بالقرية يوما بعد يوم نحو الشواطئ، تاركة وراءها خرابا في غابات الزيتون والمحاصيل الفلاحية ورعبا لدى أصحاب الأرض.

وحمل أحد أصحاب هذه الأراضي في يده غصن زيتون مزهر وقع كسره، قائلا “أين السلط المعنية؟ أرضنا يتم احتلالها ولم نعد قادرين حتى على الوصول إليها والتجوال فيها”.

ويقول الناشط بالمجتمع المدني في معتمدية العامرة محمد بن فرح، “نحن نبحث عن حلول بكل السبل حتى تعود العامرة وجبنيانة لأهلها”.

ويتابع “بعض الإخوة من جنوب الصحراء متعاونون، ولكن البقية لا يكترثون ولا يأبهون بما يمكن أن يتسببوا فيه من أوضاع مزرية.. فلا هم لهم سوى التحضير لحرقة (هجرة سرية) نحو سواحل إيطاليا”.

مدينة صفاقس الساحلية، المنطقة الهادئة أصبحت من أشهر المناطق لدى سكان مدن وقرى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء

ووفق إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، هناك أكثر من 9 آلاف لاجئ وطالب لجوء من المسجلين حاليا لدى مكتب المفوضية في تونس ينحدرون من جنوب الصحراء والقرن الأفريقي وبعض دول الشرق الأوسط. ويصل أغلبهم إلى تونس برا أو جوا من البلدان المجاورة.

في المقابل، يقول الخبير في الدراسات الإستراتيجية والأمن الشامل نورالدين النيفر “على أرض الواقع، يتجمهر الآلاف من أفارقة جنوب الصحراء أغلبيتهم الساحقة من المهاجرين غير النظاميين من المطلوبين للعدالة في بلدانهم ومن الفارين من دول في غير وضعية حرب، على غرار غينيا وكوت ديفوار”.

ويرابط آلاف المهاجرين غير النظاميين بـ”العامرة” و”جبنيانة” على أهبة الاستعداد لاقتناص اللحظة للمرور إلى الضفة الأخرى للبحر المتوسط، إلى أوروبا، أرض أحلامهم.

وتأقلم البعض منهم مع البيئة المحيطة، فمنهم من اتخذ له عملا وتعاونا مع بعض “المتمعشين” من وجودهم، إذ تكلف الرحلة القصيرة عبر دراجة نارية عشرين دينارا وأحيانا أكثر من ذلك، في حين يجني البعض الآخر آلاف الدينارات عبر توفير الحديد والمحركات المعدة لصناعة القوارب الحديدية.. أما المواد الغذائية فتباع في مخيمات المهاجرين بأضعاف أضعاف أثمانها.

وفي هذا السياق، قال نورالدين النيفر “إن عددا من طلائع أفارقة جنوب الصحراء اكتسبوا دهاء كبيرا وأصبحوا يتعاملون مباشرة مع المنظمات الإنسانية، في مخططات إجرامية ترمي إلى تنظيم عمليات تهريب المهاجرين انطلاقا من بلدانهم، وتوفير كلفة عمليات الهجرة غير النظامية التي تنطلق من صفاقس”.

ومساء الأحد الماضي، هاتف “حاجي” أحد سكان “العامرة” الناشط بالمجتمع المدني المحلي، داعيا إياه للمساعدة والتدخل من أجل توفير سيارة إسعاف لإحدى النساء بالمخيم بعد أن داهمها مخاض الولادة.

العرب