تعد منطقة الشرق الأوسط بمنزلة ثقل جيواستراتيجى بالنسبة لمختلف القوى الكبرى فى العالم، ويرجع هذا الاهتمام الكبير والمتنامى من قبل القوى الكبرى بمنطقة الشرق الأوسط إلى العديد من العوامل التى يأتى على رأسها الموقع الجغرافى المتميز للشرق الأوسط الذى يعد قلب العالم، والتنوع فى التضاريس، والغنى بالعديد من المسطحات المائية والممرات الملاحية المهمة، فضلا عن الثروات الطبيعية والبشرية الهائلة التى تتركز معظمها فى هذه المنطقة، وامتلاكها للثروة الأكبر من النفط والغاز الطبيعى الذى يعد محط اهتمام كل القوى الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا يمكن الحديث أن العراق كانت تمثل أهمية استراتيجية كبرى لدى الولايات المتحدة، وأن الواقع العراقى الآن ما هو إلا محصلة للتدخل الأمريكى لأكثر من 30 عاما والذى كانت له عوامله ومحدداته. فضلا عن أن الدور المتعاظم للعراق كقوة إقليمية كان بمنزلة تهديد للنفوذ الأمريكى منذ بداية عهد صدام حسين، ولكن منذ أن تولى اليمين المتطرف (جورج بوش) الحكم فى الولايات المتحدة تغيرت السياسة الأمريكية وتراجع ارتباط مفهوم الاستقرار الإقليمى بعملية السلام، فبدت فكرة الغزو العراقى تبرز فى قمة الأولويات الأمريكية خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر التى مثلت منعطفا رئيسيا للاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط بوجه عام والعراق بوجه خاص بوصفه الملف الأكثر إلحاحا لدى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى استدعى اتخاذ ترتيبات أمنية تتناسب مع المخططات والمشروعات المخطط لها حتى من قبل وقوع الحادث، وإدارتا جورج بوش وأوباما كانتا فى حرب ضد العراق، ولكن الأمر اختلف باختلاف السياق والمجالات ودرجة الصراع وحدته الذى سيتم توضيحه من خلال تقديم مقارنة بين الإدارتين على المستويين الأمنى والاستراتيجى، وكذلك تسليط الضوء على إدارتى دونالد ترامب وجو بايدن لاستيضاح التغير فى الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والعراق خاصة.ومن هنا تكمنالمشكلة البحثية لهذه الدراسة حول ماهية الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق وإلى ماذا أفضت هذه الاستراتيجية؟ والتي سينتج عنها عدة تساؤلات فرعية:
· ما هي الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط؟
· ما هو الواقع العراقي قبل الحرب؟ وما هي الأسباب التي استدعته؟
· كيف كانت العراق تحت الإدارة الأمريكية؟
· ما هو رد فعل المنظمات الدولية والإقليمية على الغزو الأمريكي للعراق وما هي التداعيات التي أثرت عليها ؟
· ما هي الاستراتيجية التي تم إتباعها تجاه الشرق الأوسط، خاصة العراق في كل من إدارة الرؤساء جورج بوش الابن وبارك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن ؟
· ما هي التداعيات والنتائج للاستراتيجية الأمريكية على الواقع العراقي فى 2023 ؟
· الانسحاب الأمريكي من العراق .. ما هي الآلية والأسباب والنتائج ؟
تعد دراسة الموضوعات ذات البعد الاستراتيجي أحد أهم الدراسات التي تتيح للباحث تتبع الاستراتيجية الخاصة بالدولة محل الدراسة ومعرفة تأثير هذه الاستراتيجية على مواقفها تجاه القضايا الحالة عليها داخليًا وإقليميًا ودوليًا، لذلك فقد مثلت دراسة الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ودولة العراق خاصة، أهمية قصوى للباحث.
الإطار المفاهيمي للدراسة:
استراتيجية:
التحليل الكلاسیكي لأصل مصطلح استراتیجیة[1] یقود إلى وجوده في مختلف اللغات الأوربیة أو الإغریقیة أو اللاتینیة، ففي الألمانیة نجدstrategie وفي الروسیة نجدstrategija ، ومصطلح الاستراتیجیة ذاته مقسم إلى جزأين
-:Stratosونعني به الجیش أو الجیوش في حالة حرب أي الجیوش التي تعسكر في منطقة ما
– :Ageinونعني بها الدفع إلى الأمام. وتركیب الجزأين یعطینا مفهوم لغوي یتمثل في الجیش الذي تدفع به إلى الأمام أیضًا اشتقت منها كلمةstrategema ولها معنى آخر في اللاتینیة حیث تعني الحیلة أو الوسیلة في الحرب كما یرجع العدید من المفكرین أصل كلمة إستراتیجیة إلى الكلمة الیونانیة« strategos « التي تعني الأمن العسكري في عهد الدیمقراطیة الیونانیة، لكن ذلك كله لا یمنع من إحصاء العدید من التعريفات التي حاولت إیجاد دلالة لهذا المصطلح ومن أبرز التعريفات المتداولة ھناك: المدرسة الغربية
– كالوزفيتز: یعرف الاستراتيجية بأنها فن استخدام الاشتباك من أجل ھدف الحرب.
– ليتريه :ھي فن إعداد خطة الحرب وتوجیه الجیش في المناطق الحاسمة والتعرف على النقاط التي یجب تحشید أكبر عدد من القطاعات فیها لضمان النجاح في المعارك.
– فون درجولتز : ھي التدابیر الواسعة التي تستخدم في تحریك القوات إلى الجهة الحاسمة في أكثر الظروف ملائمة ویمكن أن یسمى علم القیادة.
– ليدل هارت: ھي فن توزیع واستخدام مختلف الوسائط العسكریة لتحقیق ھدف السیاسة
ريمون أرون: ھي قیادة وتوجیه مجمل العملیات العسكریة، أما الدبلوماسیة فهي توجیه العلاقات مع الدول الأخرى على أن تكون الاستراتیجیة والدبلوماسیة تابعتین للسیاسة.
-المفهوم الأمريكي[2]: عرف دلیل ضباط أركان القوات المسلحة الأمریكیة لعام 1959 الاستراتیجیة بأنها “فن وعلم استخدام القوات المسلحة للدولة لغرض تحقیق أھداف السیاسة العامة عن طریق استخدام القوة أو التهدید باستخدامها”
وأما بالنسبة للتعريف الحالي للاستراتيجية في قاموس المصطلحات العسكرية الأمريكية يثبت أن معنى كلمة استراتيجية ابتعد كثيرا وتوسع في محيطه عن معناه ومفهومه الأصليين الذي سبق وأشرنا إليه في بداية تعريف المفهوم، لكن على الرغم من ذلك كله لازال مضمون المعنى والمفهوم الأساسيين يشكلان جزءًا من التعريف الحالي والذي ينص على أن الاستراتيجية ”هي فن وعلم إعداد واستخدام القوى السياسية والاقتصادية والنفسية و العسكرية حسب الحاجة في السلم والحرب، لتحقيق أقصى دعم ممكن للسياسات.
المدرسة الشرقية:
یقول لينين في توضیح مصطلح الاستراتیجیة: “الاستراتیجیة الصحیحة ھي التي تتضمن تأخیر العملیات إلى الوقت الذي یسمح فیه الانهیار المعنوي للضربة الممیتة بأن تكون سهلة وممكننة،أما كوزلوف فیعرفها على أنها: عملیة خلق الوسائل العسكریة التي تمكن من الحصول على أھداف، كما یعرفها “كرازيلفكوف” –ضابط سوفيتي سابق- بأن: “الاستراتیجیة العسكریة تعتمد مباشرة على السیاسة وتخضع لها، وخطط الحرب الاستراتیجیة یتم تصمیمها على أساس الأھداف التي تحددھا السیاسة
ماوتسي تونج: ھي دراسة قوانین الوضع الكلي للحرب.
وأما المدرسة العربية:
– المدرسة المصرية: تعرف الاستراتیجیة على أنها أعلى مجال في فن الحرب، وتدرس طبیعة وتخطیط وإعداد وإدارة الصراع المسلح، وھي أسلوب علمي نظري وعملي یبحث في مسائل إعداد القوات المسلحة للدولة واستخدامها في الحرب معتمدا على أسس السیاسة العسكریة، كما أنها تشمل نشاط القیادة العسكریة العلیا بهدف تحقیق المهام الاستراتیجیة للصراع المسلح لهزیمة العدو.
– المدرسة العراقية : تعرفها على أنها فن إعداد وتوزیع القوات المسلحة واستخدامها أو التهدید باستخدامها ضمن إطار الاستراتيجية العامة لتحقیق أھداف السیاسة.
النشأة والتطور:
ولقد تطور مفهوم وتعریف كلمة استراتیجیة عبر مختلف عصور التاریخ العسكري وفقًا لاختلاف وتطور التقنیة العسكریة في كل عصر عن الآخر، ووفقًا لتباین[3] المدارس الفكریة والسیاسیة لكل قائد ومفكر، ومن ھنا ترجع الصعوبة في تقدیم تعریف جامع ومانع لكلمة إستراتیجیة، إلى أنهلا یوجد تعریف موحد متفق علیه ودقیق لهذا المصطلح،ویعد مصطلح الاستراتیجیة من أكثر المصطلحات الشائعة والمتداولة. إلا أن الكثیر ممن تداولوا ھذه الكلمة كانوا یجهلون معناھا الحقیقي، فقد اشتقت كلمة استراتیجیة أصلا من الكلمة الیونانیة ” Strategos” ومعناھا الحرفي قائد، وكانت تعني أیضا فن قیادة القوات، وعرفت لمدة طویلة من الزمن على أنها فن كبار القادة العسكریین، ثم انتقلت معرفتها من جیل إلى آخر بحدود ضیقة، فكان فن قیادة القوات العسكریة ھو المعنى الذي انسجم مع مفهوم الاستراتیجیة في العصور القدیمة، ويعود تاریخ الاستراتیجیة إلى كتابات المفكر الصیني سان تزو الذي أرشد القادة العسكریین من خلال كتابه فن الحرب إلى التخطیطفي الحرب من أجل النصر، وقد صاغ رأیه في الاستراتیجیة بعبارة ذات دلالات ھي ”تظاھر في الشرق واضرب في الغرب”، كما یقول أیضا ” إن الأكثر تمیزا من القادة بیننا ھم ھؤلاء الأكثر حكمة والأكثر استشرافا ورؤیة” ، وبعد عشرین قرنا من مقولته یأتي القانون العسكري الیاباني متأثرا بشكل عمیق بهذه المقولة لیفرض على العسكریین أنهم” یجب أن یعرفوا في نفس الوقت الفنون والنظریات العسكریة”، ثم يأتي”فریدریك الثاني ” في أوربا ليؤكد أن قراءة الأدب والرسائل الجميلة هي ضرورية لأولئك الذين في الحياة العسكرية.
مصطلح السياسة الخارجية الأمريكية:
تعرف السياسة الخارجية[4] بأنها سلوك دوله واحدة على الصعيد الدولي يتبناه صانعو القرار في هذه الدولة لتحقيق أهداف محدودة ومن ثم فهي لا تنطوي على تفاعل مع أطراف دولية أخرى على عكس العلاقات الدولية التي تنطوي على عملية مستمرة من الفعل ورد الفعل، صحيح أن موقف الدولة وسلوكها يأتي كرد فعل لموقف أو مؤثر خارجي إلا أن الأصل في السياسة الخارجية هو المبادرة من جانب الدولة المعنية لتحقيق أهداف محدودة وفق أجندة أو برنامج عمل محدد سلفً، ويعرفها كلا من بلانو وأولتون بأنها عبارة عن منهاج مخطط للعمل يطوره صانع القرار في الدولة تجاه الدول أو الوحدات الدولية الأخرى بهدف تحقيق أهداف محددة في أطار المصلحة الوطنية،ووفقًا لمجله السياسة الخارجية الأمريكية تعرف السياسة الخارجية الأمريكية بأنها “مجموعه الأهداف السياسية التي توضح كيف أن هذا البلد سوف تتفاعل مع سائر بلدان العالم وهى تصميم لمساعدة الدول على حماية مصالحها الوطنية وأمنها القومي وخدمة الأهداف الأيديولوجية والازدهار الاقتصادي وتحدث نتيجة التعاون السلمي مع الدول الأخرى أو من خلال العنف والحرب.
الأداة العسكرية:
تعتبر القدرات العسكرية[5] محدد أساسي لمكانه الدولة على الصعيدين الإقليمي والدولي وهى تعتبر أيضا أداة هامة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية، فقد تستخدم الأداة العسكرية استخداما تقليديًا متمثلًا في شن هجوم عسكري للتوسع والسيطرة على موارد وقدرات دوله ما وكان هذا النموذج شائعًا حتى الحرب العالمية الثانية عندما اتجهت الدول لتجريم الحرب وأصبح اللجوء أليها انتهاكًا للقانون الدولي، ولكن مازالت بعض الدول تلجأ للهجوم والحرب باعتباره أفضل وسيله للدفاع وتحقيق الأهداف القومية.
الحرب:
تعرف الحرب لغة كما ورد في معجم المعاني الجامع أنها قتال بين فئتين، وجمعها حروب وعكسها سلم، وإذا قيل وفي القانون الدولي العام فإن التعريف التقليدي للحرب هو أنها عبارة عن نزاع مسلح بين فريقين من دولتين مختلفتين؛ إذ تدافع فيها الدول المتحاربة عن مصالحها وأهدافها وحقوقها، ولا تكون الحرب إلا بين الدول، أما النزاع الذي يقع ين جماعتين من نفس الدولة، أو النزاع الذي يقوم به مجموعة من الأشخاص ضد دولة أجنبية ما، أو ثورة مجموعة من الأشخاص ضد حكومة الدولة التي يقيمون فيها، فلا يعد حربًا ولا علاقة للقانون الدولي به وإنما يخضع للقانون الجنائي، أما التعريف الحديث للحرب فقد تم توسيعه ليشتمل على أي نزاع مسلح ولو تم تتوافر فيه عناصر التعريف التقليدي من امتلاك الجماعة المسلحة لصفة الدولة، وإن كان النزاع قائم من قِبَل دولة لحسابها الخاص وليس لغرض جماعي، كما أصبحت النزاعات الأهلية التي تحدث في نفس الدولة تندرج تحت مسمى الحرب، والحرب اليوم هي وضع نتيجة حاسمة للخلافات الدولية المرتبطة بالكيانات الاقتصادية والاجتماعية للدول المشاركة في الحرب؛ وذلك عن طريق الإجبار والقتال بعد أن يتعثّر حل الخلاف بالطرق السلمية؛ الأمر الذي يدعو كل دولة مشاركة في النزاع لأن تعطي لنفسها الحق في أن تكون الحكم الأول وصاحبة السلطة العليا في أي نزاع بهدف الدفاع عن مصالحها القومية وأهدافها، إذن فإن كلمة حرب تشير بمعناها اللغوي إلى القتال، وليس شرطًا أن تكون عادلة وإنما قد تكون لوقوع العدوان من طرف على طرف آخر؛ وهي عبارة عن صراع بين طرفين يسعى كلٌّ منهما للتغلب على الطرف الآخر وتدمير قوته وكيانه، وتأخذ الحروب أشكالًا مختلفة ومتباينة:
الحرب الخاطفة:
وعادة تكون ذات طابع هجومي حيث توجه الدولة ضربه خاطفة لمركز تجمع العدو عن طريق استخدامها أسلحة سريعة ومتحركة.
حرب الاستنزاف:
وهذا النوع لا يركز فقط على الجانب العسكري ولكن يشمل أيضا الجوانب الأخرى الاقتصادية السياسية، وتتميز بطول المدة واختلاف نوعية الأسلحة المستخدمة وتكتيكات القتال على عكس الحرب الخاطفة.
الحرب الاستباقية:
وتعرف بأنها التحول من الرد على هجوم فعلى إلى المبادرة [6]بالهجوم لمنع هجوم محتمل أذا تمكنت أجهزة المخابرات من اكتشاف نوايا مبكرة للخصم لشن عمليات عدائيه لذا يجرى الخصم بتوجيه ضربات إجهاضية ضد القوات لتفشل هجومها المتوقع، يرى الرئيس الأمريكي بوش الابن بأنه لا بديل عن الحرب الاستباقية وقد شكلت الحرب على العراق الاختبار الأول لهذه العقيدة الاستراتيجية الجديدة بعد فشل سلاح الردع والاحتواء . وهناك تعريف أخر له ويعرف بأنه تدمير قوة الخصم والقضاء عليها قبل أن يكتمل نموها حيث أن الدولة المعتدية تقضى على أمل امتلاك الدولة المعادية أسلحه متطورة.
الحرب الوقائية:
فهي تعتمد على النوايا المحتملة لدى العدو حيث لا يكون التهديد مؤكدًا أو وشيكًا إنما يبقى احتمال حدوثه في المستقبل، وحول مفهوم الإدارة الأمريكية للضربات الوقائية تعمل الولايات المتحدة على نقل المعركة إلى العدو قبل ظهورها. والفرق بين الحرب الاستباقية والوقائية هي أن الأولى تحدث في حاله الحرب الحقيقية أي أن يكون العدو واضحا ومحددا ويبقى فقط من يقوم بتوجيه الضربة الأولى للخصم ,أما الأخيرة فهي تعتمد على فكرة أن حربا ستحدث في المستقبل وبالتالي يجب المبادرة بالضربة الأولى قبل حدوث ذلك.
الردع:
يعتبر الردع من أبرز استخدامات الأداة العسكرية وعادة ما يكون التلويح باستخدامها كافية لتحقيق الأهداف المرجوة وقد يستخدم أيضا للضغط وما يترتب عليه من رضوخ الأطراف الأخرى لمطالب الدولة دون الاستخدام الفعلي للقوة ولذلك يبرر أهمية امتلاك الدولة قدرات عسكريه ضخمه دون استخدامها فعليًا، فعدم استخدام القدرات العسكرية في حرب دفاعية أو هجومية لا يعنى توقف فاعليتها بل أن استخدامها في السلم للضغط والردع يفوق استخدامها فعليًا في الحرب.
مفهوم الشرق الأوسط:
يعد مصطلح الشرق الأوسط من أكثر المصطلحات إثارةً للجدل والخلاف بين المتخصصين في العلاقات الدولية بصفة عامة، والمختصين بدراسة منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، فهذا المصطلح غربي النشأة ارتبط بمصالح المخططات الاستعمارية الغربية، التي التقت مصالحها مع مصالح الحركة الصهيونية، التي تطالب بوطن لها في فلسطين، استخدم مصطلح الشرق الأوسط كبديل لمصطلح الوطن العربي، الذي يساعد على إذكاء الهوية العربية، والدفع بالوحدة العربية للأمام، بالتالي فمصطلح الشرق الأوسط مصطلح سياسي استراتيجي النشأة والاستخدام، فهذه التسمية ليست مستمدة من طبيعة المنطقة نفسها، وإنما من علاقة المنطقة بالغير، فالشرق الأوسط يعتبر شرق أوسط بالنسبة لأوروبا، لقد استخدم مصطلح الشرق الأوسط لأول مرة عام 1902 م، من قبل ضابط البحرية الأمريكية ألفريد ماهان دون أن يذكر الدول التي يشملها المفهوم.
الإطار النظري للدراسة:
المدرسة الواقعية:
-ظهرت الواقعية[7] في الأوساط الأمريكية بين الحرب العالمية الأولي والثانية بالإضافة إلي أن الفكر الواقعي له جذور في الفكر اليوناني عند توسيديد من خلال كتاباته عن الحرب البيلوبونيزية هناك العديد من المنظرين الواقعيين من أبرزهم (هانز مورجانثو، ونيكولاس سيبكمان، وكينيث والتز وميكافيلي وجيمس دورتي) وغيرهم.
-يري الواقعيين أن النظام الدولي نظام فوضوي وذلك بسب غياب السلطة العليا التي تنظم العلاقات بين الدول ومن هذا المنطلق يري الواقعيون أن الصراع والتنافس حالة طبيعية، وهذا ما يفسر أن الغزو الأمريكي للعراق جاء نتاجًا لطبيعة نظام دولي فوضوي غابت فيه السلطة العليا التي تستطيع أن تنظم العلاقات بين عناصر هذا النظام في إطار سلمي آمن.
-بالإضافة[8] أنهم يروا أن السياسة الدولية هي صراع من أجل القوة يتضمن ذلك الحفاظ على قوة الدولة القائمة، والسعي لتعظيم هذه القوة وزيادتها وإن التنافس بين الدول لزيادة قوتها يجعل منهم أعداء محتملين إن لم يكونوا فعليين.
-يري الواقعيون أن الدولة هي الفاعل الأساسي والرئيسي في العلاقات الدولية حيث قللت من دور المنظمات الدولية والمؤسسات الدولية وبتطبيق على حالة الأزمة السورية نجد صحة هذا الافتراض حيث نجد أن الأمم المتحدة تراجع دور في حفظ السلام في سوريا وذلك بسبب هيمنة الدول الكبرى على قراراتها حيث ظهر ذلك من خلال استخدام روسيا وأمريكا منظمة الأمم المتحدة لكي تطفي طابع الشرعية على مواقفهم في سوريا، وأيضًا بالتطبيق على حالة الدراسة وجدنا تضاءلًا كبيرًا في دور الأمم المتحدة في أزمة العراق 2003.
-تري الواقعية السياسية أن فهم وتفسير العلاقات الدولية مرتبط بالقوانين التي ترجع إلى الطبيعة البشرية والتي هي صالحة لكل زمان ومكان، في هذا الصدد يرى الواقعيون أن الطبيعة البشرية تتسم بالأنانية وأن البشر مخلوقات معيبة وغير مثالية وهذه الطبيعة تؤثر على السياسة والعلاقات الدولية، وأكدوا أيضا على حتمية الصراع وأن السياسة هي أداة الصراع.
-المصلحة الوطنية من وجهة نظر الواقعيين تتمثل جوهر السياسة حيث أعتبر “هانز مورجانثو” أن المصلحة الوطنية هي التي تحدد سلوك الدول، فالدولة لا تتصرف في محيطها الدولي والإقليمي إلا بغرض تحقيق مصالحها الوطنية حيث رفض الواقعيون ما ذهب إليه المثاليون بوجود تناسق بين مصالح الدول، حيث أن المصلحة الوطنية تختلف من دولة إلى أخرى فهناك دول لم تتخطى الحد الأدنى من الاستقرار والأمن وحماية سيادتها لذلك يكون مصلحتها الأولى هي تحقيق الاستقرار والأمن وحماية أراضيها، وهناك من الدول التي استطاعت أن تتخطى ذلك فيكون تحقيق مصالحها عن طريق فرض هيمنتها ونفوذها على العالم، كما هو الحال في حالة الدراسة حيث تناولت الدراسة الاستراتيجية الأمريكية ونظرتها تجاه منطقة الشرق الأوسط باعتبارها منطقة نفوذ استراتيجي لها.
إذن فإن تعريف المصلحة الوطنية من وجهة نظر “مورجانثو” هي القوة، وإن المفهوم لا يفترض عالمًا يسوده السلام، ولا يفترض أيضا حتمية الحرب، وإنما يفترض أيضا صراع مستمر وسلوك دبلوماسي فعال يقلص التهديد بالحرب”
-يري الواقعيون أن الدولة تسعي باستمرار نحو تعزيز قواتها الذاتية من خلال تطوير موارد القوة لديها، فالدول تسعى لاكتساب القوة أو التظاهر بها أو الاحتفاظ بالقوة والوضع القائم، وهذا يفسر أحيانًا بعض الصراعات الموجودة في العالم الآن فعلى سبيل المثال في حالة التنافس بين أمريكا، نجد أن روسيا تحاول جاهدة استعادة قوتها ودورها المحوري في المنطقة بالمقابل تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على مكانتها وسيطرتها على المنطقة، وأيضًا يشكل هذا الافتراض الذي افترضته الواقعية أساسًا لتحليل الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق لفترة طويلة، حيث أـن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العراق كان مظهرًا من مظاهر اكتساب القوة والحفاظ على الوضع القائم في المنطقة دون السماح ببروز قوة إقليمية جديدة في المنطقة متمثلة في العراق.
-يري الواقعيون أن القوة وسيلة لتحقيق المصلحة الوطنية وتحديدًا القوة العسكرية حيث تعتبر القوة العسكرية من وجهة نظر الواقعيين أداة لممارسة التأثير الإقليمي والدولي وحماية لمصالح الوطنية للدول.
خلاصة القول إن المنظور الواقعي يطرح تصورات عديدة يمكن أن تفسر كثيرًا مما تناولته الدراسة خصوصًا فيما يتعلق ببناء وهيكلة الاستراتيجيات الأمريكية المختلفة تجاه منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا العراق أو سواء ما يفسر المنعرج الأهم في هذه الاستراتيجية وهو الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
الإطار المنهجي للدراسة:
المنهج التاريخي:
يهدف إلى البحث في الأحداث التاريخية الماضية وتحليل الحقائق المتعلقة بها لمعرفة الظروف التي أحاطت بتطور الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة ، وتجاه العراق بصفة خاصة ، فلدراسة طبيعة العلاقات لا بد من العودة إلى الأحداث والحقائق الماضية وعرضها وتحليلها وتفسيرها فذلك يساعد في تفسير الأحداث و المشاكل الجارية والتعرف على مختلف التطورات.
منهج صنع القرار
ويشير صنع القرار إلي عملية التفاعل بين كافة المشاركين بصفة رسمية وغير رسمية في رسم السياسيات العامة، فإعداد القرارات هو بمنزلة جزء رئيسي من سلوك المؤسسات السياسية، هذه المؤسسات تختار أحد التصورات البديلة لحل المشكلات المثارة علي أساس تقييم كل منها بما يتضمنه ذلك من مناقشة ومفاضلة.[9]
منهج المصلحة الوطنية
يعد منهج المصلحة الوطنية أحد أهم المناهج البحثية في حقل العلاقات الدولية، لأن الهدف الأسمى لأي دولة هو تحقيق مصلحتها الوطنية، وبالتالي فإنه يمكن إجمال التفاعلات الدولية المختلفة وفهمها في ضوء تحليل المصلحة الوطنية للفواعل في هذه التفاعلات، ونظرًا لتركيز الدراسة على تناول الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والعراق فقد تم اختيار منهج المصلحة الوطنية منهجًا للدراسة نظرًا لأن جميع الاستراتيجيات الأمريكية التي تم تبنيها تجاه الشرق الأوسط والعراق كانت قائمة بالأساس على مبدأ المصلحة الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية.
أولا – السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط:
تشهدمنطقة الشرق الأوسط تطورات كبيرة فى المشهد الاستراتيجى تعكسه التحولات الجيوسياسية فى البيئة الإقليمية، وما نتج عنها من تغيرات فى المشهد السياسى فى المنطقة، بشكل استرعى اهتمام الإدارة الأمريكية الحالية، وأصبح يشكل حيزا مهما لإعادة ترتيب الأولويات الأمريكية تجاه التطورات فى منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يسهم فى تطوير موقف الولايات المتحدة لأداء دور رئيسى وقوى بشأن كيفية ردع التحديات ومواجهتها.
إضافة إلى ما سبق فإن منطقة الشرق الأوسط كانت، ولا تزال وستظل، نطاقا استراتيجيا مهما للأمن القومى الأمريكى؛ حيث بدأت الإدارة الأمريكية مع وصول جو بايدن إعادة النظر فى سياستها الخارجية تجاه المنطقة، وأصبحت قائمة على نمط المبادئ التى تبرز فى طياتها أبعادا عدة ذات توجهات مثالية وقيمية، وتوثيق علاقاتها مع حلفائها الاستراتيجيين، ورفع مستوى الالتزام الأمريكى بشكل أساسى لإثبات دورها، والتكيف مع المتغيرات التى شهدتها البيئة الإقليمية، والتركيز على آليات فاعلة لتجاوز القصور فى مواجهة التحولات التى أفرزتها ممارسات القوى الإقليمية والدولية فى المنطقة، وترجع هذه الأهمية الكبيرة التى يمتلكها إقليم الشرق الأوسط بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية بوصفه موردا رئيسيا للطاقة الأمريكية، وحلقة من حلقات التنافس الاستراتيجى بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
1- المحددات الداخلية للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط:
– المحددات الداخلية الرسمية:
تنقسم المحددات الداخلية للسياسة الخارجية الأمريكية بطبيعة النظام السياسى الأمريكى إلى شقين: الشق الأول هو “الكونجرس” الأمريكى، والشق الثانى هو “الرئاسة الأمريكية” – كمؤسسة وليس كرئيس- والقارئ الجيد للدستور الأمريكى نجد أنه قد أعطى لكل مؤسسة من المؤسسات السالف ذكرها مجموعة من الخصائص والسلطات التى تستطيع من خلالها أن تباشر مهامها فى رسم السياسات العامة التى يأتى من ضمنها السياسة الخارجية، لكن الأمر المهم فى الحديث عن الدستور الأمريكى هو الموازنة الكبيرة فى توزيع السلطات بين كلتا المؤسستين[10]، وتعود هذه الموازنة إلى اتسام الدستور الأمريكى بسمة “المرونة” التى تؤدى فى العديد من الأحيان دورا مهما فى الخروج بسياسات أكثر إيجابية، وعند الحديث عن مؤسسة الرئاسة الأمريكية نجد أن مهمة صنع السياسة الخارجية للدولة تتوزع على كل من (الرئيس – وزارة الخارجية – وزارة الأمن القومى – وزارة الدفاع)، ومن المتعارف عليه فيما يخص صناعة السياسة الخارجية بالنسبة للكونجرس الأمريكى أن الدستور قد نظم ذلك عن طريق إعطائه الحق فى تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية، وإعلان الحرب، والتفويض برد الاعتداء، وإقرار الميزانية الخاصة بالدولة، وتقييد سلطة الرئيس فى عقد المعاهدات مع الدول الأخرى بضرورة موافقة ثلثى أعضاء مجلس الشيوخ الحاضرين[11].
– المحددات الداخلية غير الرسمية:
تؤدى القوى غير الرسمية دورا مهما فى النظام السياسى الأمريكى بوجه عام، وتعد محددا بالغ الأهمية فيما يخص السياسة الخارجية الأمريكية، فعندما نتحدث عن محددات غير رسمية يجب أن يتراءى إلى ذهننا فى المقام الأول الحديث عن الدور الكبير الذى تقوم (جماعات المصالح – وسائل الإعلام – الرأى العام الأمريكى)، ويعد حصر المحددات الداخلية غير الرسمية فى القوى السابقة محاولةً للوقوف على أبرز الفواعل فى التأثير فى السياسة الخارجية بالولايات المتحدة الأمريكية، لكن بلا أدنى شك فإن كل قوة من الثلاثة السابقة ينتج عنها العديد من الفاعلين الأصغر، فعلى سبيل المثال نجد أن جماعات المصالح[12] ينتج عنها نقابات واتحادات وجماعات ذات عضوية اختيارية.. إلخ وجميعها كيانات بالغة التأثير فى السياسة الخارجية الأمريكية، وبلا أدنى شك فإنه عند الحديث عن وسائل الإعلام[13] فيكفى القول بأنها الوسيلة الأسرع والأهم فى مخاطبة الجماهير، وهى بدورها تؤثر وتتأثر ببقية القوى الأخرى داخل النظام السياسى الأمريكى، وأيضا يشكل الرأى العام[14] الأمريكى مكونا رئيسيا فى صنع السياسات العامة، وقد كشفت هذه الدراسة عن أن الرأى العام الأمريكى كان له دور كبير فى تغير الاستراتيجية الأمريكية شكلا وموضوعا تجاه العراق خلال فترة الرئيس السابق “بارك أوباما”.
2-المحددات الخارجية للسياسة الخارجية الأمريكية:
تتمثل المحددات الخارجية فى العوامل والمتغيرات التى يكون لها دور وتأثير فى صناعة السياسات الخاصة بالدولة سواء كان هذا التأثير مباشرا أو غير مباشر، ويمكن إجمال المحددات الخارجية للسياسة الخارجية الأمريكية فى نقاط رئيسية منها:
– النظام الدولى:الذى أكدنا فى الإطار النظرى للدراسة فوضويته، وتعقيده وتقلباته المستمرة بحيث تسعى كل دولة إلى تحقيق مصالحها الخاصة، وتعد الولايات المتحدة الأمريكية من أبرز الفاعلين فى هذا النظام الدولى بسياساتها التى تختلف باختلاف إدارتها بين الإدارة الديمقراطية والإدارة الجمهورية، فالملاحظ أن الحزب الديمقراطى دائما يميل إلى تغليب عناصر الحوار والتعاون من أجل تحقيق المصلحة الأمريكية، فيما يميل الحزب الجمهورى إلى مبدأ تحقيق المصلحة عن طريق القوة، وهذا هو المبدأ الذى سلكه دونالد ترامب، وقد أوضحنا أدوات هذا المبدأ باستخدامه أسلوب الهيمنة الاقتصادية وتحجيم الدول المعادية ـ وفرض الوجود الصهيونى.. إلخ.
– النفط: أدى النفط دورا محوريا ومحددا رئيسيا[15] فى رسم السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط على أساس أن الشرق الأوسط هو المنتج الأكبر فى العالم للنفط، وعلى أساس أن الولايات المتحدة الأمريكية هى المستهلك الأكبر فى العالم للنفط، وقد شكل النفط فى الولايات المتحدة الأمريكية قضية أمن قومى، وأصبحت الاستراتيجية الأمريكية تتجه للشرق الأوسط بوصفه يحتوى على أحد أولويات الأمن القومى الأمريكى، لذلك فإن النفط كان أهم محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
– الإرهاب الدولى وتأثيره فى الولايات المتحدة الأمريكية
مثَّل حادث 11 سبتمبر صدمة كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية حكومةً وشعبا، فقد زعزع هذا الحادث عقيدة الشعب والحكومة الأمريكية حول اعتقادهم بأنهم دولة آمنة مؤمَنة[16]، وقد ترتب على هذا الحادث فرض الولايات المتحدة الأمريكية لحالة الطوارئ القصوى فى جميع أنحاء البلاد، وقيامها بالتنديد بالعمل الإرهابى، وإعلان الرئيس “بوش” أن الولايات المتحدة الأمريكية فى حالة حرب[17]، وأنه ثمة من يتآمر على الولايات المتحدة ويتعاون مع الإرهابى “أسامة بن لادن” قائد تنظيم القاعدة، الأمر الجديد أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت توجه اتهامات إلى أشخاص ودول بعينها فى خطاباتها الرسمية، فقد أعلنت أن تنظيم القاعدة وقائده “أسامة بن لادن” هو المسئول عن هذا الحادث الإرهابى، وأن الدول التى تتعاون معه هى: أفغانستان، واليمن، والسودان، الصومال، والعراق. والمتابع الجيد لمسيرة هذه الدول، وكذلك لمسيرة تنظيم القاعدة عقب أحداث 11 سبتمبر سيجد أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تترك أيا منها دون أن توجه لها صفعات قاسية سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ثانيا- الواقع العراقى قبل الاحتلال الأمريكى 2003:
دامت عملية استنزاف العراق لأكثر من 12 عاما؛ حيث سيطرت الولايات المتحدة على هذه العملية بالكامل من جميع النواحى سواء كانت سياسية أو اقتصادية، ونجد فى العامل الاقتصادى منذ 1990 أن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بإضعاف العراق من خلال عملية الحصار الاقتصادى تبعا لقرار مجلس الأمن 661 (باستثناء الإمدادات الطبية والمواد الغذائية ذات الظروف الإنسانية) وحرصت على إعداد لجنة تابعة لمجلس الأمن هدفها الحرص على تطبيق نظام العقوبات، ولكن أصدر مجلس الأمن قرار 670 سبتمبر 1990 تطبيق الحظر على جميع وسائل النقل الجوية والبحرية، وبهذا القرار أصبح العراق فى حصار اقتصادى من جميع الجوانب، لم يكن من سياسة الولايات المتحدة تحقيق الحصار الاقتصادى بوصفه “هدفا”، بل الأمر ما هو إلا وسيلة استراتيجية لتحقيق هدف على المدى الطويل، وبالسيطرة على النفط العراقى بحضورها العسكرى المهيمن فى الجزيرة العربية، وفى عام 1995 صدر قرار 986 من أجل التخفيف من آثار الحصار وهو “النفط مقابل الغذاء”، وكانت سياسة هذا القرار ما هى إلا وسيلة ضغط للسيطرة على الشعب العراقى والسيطرة الكاملة على النفط وتحريك مسار الأمور فى المنطقة تبعا لمصالحها[18].
– الحصار الأمريكى – البريطانى على العراق:
بعد الغزو العراقى للكويت ونتيجة لانتشار القوات العراقية على الحدود السعودية، قامت الولايات المتحدة بنشر قواتها فى المملكة العربية السعودية وطرد القوات العراقية من الكويت نتيجة عن عملية درع الصحراء 1991، ونتيجة أن صدام استخدم أسلحة “كيمائية” لقمع انتفاضات الأكراد فى شمال العراق والشيعة فى الجنوب، واعتقاد المجتمع الدولى أن العراق يملك “أسلحة دمار شامل”، فبموجب قرار مجلس الأمن الدولى فرض على العراق تدمير جميع الأسلحة الكيميائية، وعدم تطوير الأسلحة النووية، وتدمير الصواريخ الباليستية التى تزيد مداها على 150 كيلو مترا. وفى أعقاب القمع أقامت الأمم المتحدة “مناطق حظر الطيران” وهذا فوق الثلثين الشمالى والجنوبى، ومنعت القوات الجوية العراقية العمل إلى جانب أنه تم تسيير دوريات جوية أمريكية وبريطانية فى هذه المناطق، وتعرضت للهجوم من قوات الدفاع الجوى العراقى ما أدى إلى شن القوات الأمريكية البريطانية عملية ثعلب الصحراء عام 1998 (هى عبارة عن حملة قصف مستمر ضد الدفاعات الجوية العراقية) وكانت تلك العملية من أخطر التهديدات للقوة العسكرية العراقية، وكان هدفها إضعاف قدرة العراق العسكرية وإجبار صدام على الالتزام بالقرارات الدولية، وكانت تلك العملية بدون هدف سياسى محدد بل هى عبارة عن إضعاف الطرف المقابل؛ لأن إضعاف الخصم يزيد من قوة الآخر، وهكذا كان مجمل سياسة الولايات المتحدة للسيطرة البطيئة على العراق التى دامت 13 عاما من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها الإستراتيجية حتى الغزو الأمريكى للعراق 2003[19].
ثالثا – إرهاصات الغزو الأمريكى للعراق 2003:
يعد الغزو الأمريكى للعراق فى تاريخ العلاقات الدولية محل جدال اختبئت أمريكا فيه وراء ستار الحقوق الإنسانية والحرب على الإرهاب؛ حيث إن الحرب كانت تطبيقا فعليا للاستراتيجية الاستباقية الأمريكية، فقد عمدت إلى محاولة تقديم تبريرات للمجتمع الدولى وللشارع الأمريكى والرأى العام حول شرعنة تلك الحرب وحتميتها، ويأتى على رأس هذه الأسباب:
1- الأسباب المباشرة:
– أسلحة الدمار الشامل:
كانت استراتيجية إدارة بوش هى السعى لإضعاف العراق من خلال اتهام نظام حسين بامتلاك أسلحة الدمار الشامل خاصةً الأسلحة الكيميائية البيولوجية والذى كان سببا لقرار 687 من مجلس الأمن بتدمير الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والصواريخ، فتم تشكيل لجنة تفتيش (أونسكوم) ودوريات جوية فرنسية – بريطانية – أمريكية من أجل استكشاف ومراقبة نزع السلاح. وفى 1998 -1991 تم تشكيل لجنة أخرى جديدة (UNMOVIC) بموجب قرار 1284 الذى كان هدف تلك اللجنة هو تشغيل نظام معزز ليتم الرصد والتحقيق ومعالجة مسائل نزع السلاح، ولكن رفض العراق الأمر، ما أدى إلى اتخاذ أمريكا القرار باستخدام القوة العسكرية المسلحة من أجل تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، ومع هذا الضغط الأمريكى اضطر مجلس الأمن إلى إصدار قرار 1441 الذى يقضى باستخدام الوسائل الضرورية من أجل الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، واستجاب العراق للقرار مع وسائل الضغط من أمريكا ومجلس الأمن إلا أنه كان هناك اعتقاد عام بأن هذا السبب لا يعد حقيقيا، وما هو إلا أكذوبة وسبب من أجل منع العراق من إعادة بناء قدرته العسكرية، وكانت العقوبات وسيلة ناجحة من أجل الاحتواء العسكرى، ومن أجل منع العراق من الوصول إلى الإيرادات النفطية التى كانت تسيطر عليها الأمم المتحدة، إلى جانب التقرير الذى كان مقدما من مركز استخباراتى لوزارة الخارجية يفيد بأنه لا يوجد دليل قاطع على امتلاك العراق لأسلحة نووية، لكن لم ترحب وزارة الخارجية بهذا التقرير نظرا لأنه قد يكون سببا مانعا لشن الحرب[20]، فضلا عن:
– أحداث 11 سبتمبر 2001:
تعد أحداث 11 سبتمبر من أهم الأحداث فى القرن الحادى والعشرين نتيجة للتغير الكبير الذى لحق بالسياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث كانت الاستراتيجية الأمريكية هى (تصدير الصدمة للخارج) ولا بد من “عدو” تُلقى عليه المسئولية، فنجد أنه قد سُلط الضوء على العراق ووجهت سياسة “الحرب على الإرهاب” لتدمير نظام صدام حسين. ونجد المفارقة هنا، حين اتهمت الولايات المتحدة أسامة بن لادن بأنه المسئول عن هذا الحادث، الذى تم تقديم اتهام لصدام حسين بالتعاون معه، ولكن فى محاكمته 2005 تم نفى هذا الاتهام.
– الحرب على الإرهاب:
كانت إدارة بوش تعمل فى مخططها الإمبريالى على ربط صدام حسين بالإرهاب، وعلى قراره الخاص بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل؛ ففى سياساته، ولكى يؤثر فى الرأى العام وفى الكونجرس الأمريكى، كان دائم الربط بين نتائج أحداث 11 سبتمبر وبما قد تقوم به أسلحة الدمار الشامل، وقد قام بتوظيف مفهوم “الإرهاب” ليشمل محور الشر (العراق – إيران – كوريا الشمالية) وكان العراق على رأس هذا المحور بصفته المتهم الأول فيما لحق بالولايات المتحدة الأمريكية، وبعد حرب أفغانستان رأت إدارة جورج بوش أن الخطوة الثانية حتمية وهى غزو العراق، ولكن فى 2002 أعلن رئيس المخابرات الأمريكية عدم تورط العراق فى الحادث الإرهابى، ولكن هذا لم يكن سببا كافيا لمنع الغزو[21].
3- الأسباب غير المباشرة:
– الاستيلاء على النفط:
العراق كان يمتلك ثانى أكبر احتياطى نفطى فى العالم، ودولة ذات موقع استراتيجى، وموقع صحراوى يزخر بالثروات الطبيعية أهمها النفط، فمن البديهى أن يكون هدفا استراتيجيا لمصالح الدول الصناعية الكبرى التى يأتى على رأسها الولايات المتحدة؛ حيث إن وجودها فى الشرق الأوسط من الأصل كان بهدف السيطرة على التجارة النفطية فى المنطقة، وبما أن الولايات المتحدة هى أكبر قوة اقتصادية وصناعية فإن النفط سيكون هدفها الأول والرئيسى للغزو العراقى، فما مكسب الولايات المتحدة إذا خضع العراق وتخلص من أسلحة الدمار الشامل؟ إلى جانب مشروع الإمبريالية غير المحدودة الذى يرتبط بهدف تأكيد استمرارية دفع ثمن البترول بالدولار الأمريكى وليست اليورو فى السوق المفتوحة، وفضلا عن أن نائب جورج بوش “ديك شينى” قام بتكوين لجنة سرية حول الطاقة لم تكن أهدافها معروفة حتى للمشاركين بها حتى حكمت محكمة الاستئناف الفيدرالية بالإفصاح عن وثائق اللجنة التى كشفت خريطة العراق 2001 ومقسمة إلى أجزاء (والجدير بالذكر أن تلك اللجنة كانت قبل أحداث 11 سبتمبر)، وكانت بريطانيا حليفة أمريكا فى حرب الهيمنة من خلال تداخل مصلحة شركات بترولية فيما بينهما تسمى British petroleum، ثم اندماج 1999 فى مجال الصناعة العسكرية المعروف بالجسر العابر للمحيط الأطلسى، فمخطط احتلال العراق كان حتميا و”حجة” تخليص العراق من نظام صدام حسين ما هو إلا ساتر للنيات الاستراتيجية[22].
– مصالح إسرائيل:
التدخل الأمريكى للعراق كانت له علاقة مباشرة بالحفاظ على الأمن الاستراتيجى الإسرائيلى فى المنطقة، وهذا بالاعتماد على تصريح جورج بوش نفسه حين أعلن أن الولايات المتحدة تعيد التوازن الإقليمى لمصلحة إسرائيل، فالقوة العسكرية والاستراتيجية التى كان يتمتع بها العراق كانت عائقا أمام الوجود الطفيلى الإسرائيلى فى الشرق الأوسط، فاعتمد جورج بوش فى سياسته على ربط أمن الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، واعتقادهم بوجود “أسلحة دمار شامل” عمل على تعزيز ضرورة التحرك لحماية إسرائيل. ومن جانب آخر نرى أن إسرائيل هى العين الأمريكية الثالثة فى المنطقة وأداة دبلوماسية استراتيجية، فالعداء العراقى لإسرائيل هو بمنزلة عداء على أمريكا أيضا، فاعتمدت سياسة إضعاف الطرف الآخر مقابل تعزيز قوة الطرف المقصود حمايته، لذا فالمعادلة طرفاها متوازن (سيطرة الولايات المتحدة على العراق = الحفاظ على أمن إسرائيل)[23] .
-أسباب عقائدية:
كانت إدارة جورج بوش أساسها مبنى على أساس فكر دينى متشدد نوعا ما، فكان الجانب المسيطر الأكبر هو المحافظين الجدد، وبعد أحداث 11 سبتمبر نجد أنها زادت حدة، فكانت السياسية الأمريكية كالصراع بين الخير والشر، و”الإسلام المجاهد أو الجهادى” كان بمنزلة إرهاب لهم، فكان العراق نقطة بداية تطبيق هذا الفكر إلى جانب الخلفية الدينية لجورج بوش، الطائفة الميثودية (الصهيومسيحية) التى كانت تؤمن أن هناك بعض الأمور من الواجب حدوثها قبل عودة المسيح مثل إقامة دولة إسرائيل، وهدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل اليهودى مكانه، ووقوع معركة بين البروتستانت واليهود ضد المسلمين (معركة هرمجدون)، فتلك الأمور لا تغفل أيضا الأمر الخاص باعتقاد أن صدام حسين كان يمثل لهم رمز الشر، فتم اتخاذ الحرب الأمريكية فى العراق على أنها حرب ضد الإسلام كما جاء فى تصريح جورج بوش أنها حرب “صليبية” تحت حجة محاربة الإرهاب. لذا، فالدين كان مقوما أساسيا من مقومات اتخاذ القرار فى عهد الرئيس جورج بوش صاحب الأيديولوجية الدينية العسكرية المبنية على استخدام القوة.
رابعا – الفكر الاستراتيجى الأمريكى فى إدارة ملف العراق:
الفكر الاستراتيجى للبيت الأبيض “جورج بوش”:
كانت إدارة جورج بوش منذ البداية قد جاءت بتجديد الأفكار فى مجال الدفاع والأمن القومى وتغيير جذرى فى إستراتيجية الأمن القومى الأمريكى الذى جعله يتمحور حول ثلاثة مجالات (بناء القوة المسلحة – القوة العسكرية فى تحقيق أهداف الأمن القومى – تحديد مصادر التهديد)، فعلى هذا الأساس كانت السياسة “الدفاعية” تشهد تحولات فى مرتكزات استراتيجية الأمن القومى فى (التركيز على زيادة القدرات العسكرية للقوات المسلحة – التركيز على برنامج ” الدفاع الصاروخى” – توجيه الاهتمام للساحة الدولية فى آسيا – تعديل السياسة النووية) وإلى جانب استراتيجية وزارة الدفاع الأمريكية خاصة فى مجموعة تقييم سياسية مكافحة الإرهاب من أجل انتقاء معلومات استخبارية إلى جانب أن السياسة الخارجية الأمريكية كانت سياسة دفاعية، لكن الواقع عكس تلك الاستراتيجية لتوجيهها نحو السياسة الوقائية الاستباقية[24].
– الحرب الاستباقية:
سياسة الحرب الاستباقية الأمريكية خلال فترة جورج بوش ارتكزت على عدة ركائز كان من أهمها ركيزة الصدمة، فضمنيا هى تعمل على إلغاء الحدود الفاصلة بين الدفاع والهجوم، أى لا يمكن التمييز فى سلوك القوة المهيمنة، حول ما إذا كانت دفاعا أم هجوما؟ أو إذا كان دفاعا فتلك الإشكالية على المستوى السياسى تسبب خللا على مستوى السلوك دوليا، كما أن المستوى النظرى أيضا يتطلب البحث، والتطبيق إلى جانب المستوى العلمى الذى يحدد المستوى المطلوب من الردع واختيار الأدوات والأساليب الدبلوماسية المناسبة، وبرز فى هذه المرحلة مفهوم الدفاع الوقائى الذى يعد بمنزلة استراتيجية دفاعية ذات خطوط سياسية عسكرية، ومن ثم يعتمد على أدوات السياسة الخارجية فى الإدارات السياسية والاقتصادية والعسكرية، إلى جانب أن وزارة الدفاع الأمريكية لها دور محورى فى هذا الشأن، فبعد أحداث 11 سبتمبر نجد أن جورج بوش أعلن نظرية “الحرب الوقائية” التى بمضمونها سيتم استخدام القوة العسكرية ضد أى دولة أو منظمة إرهابية من المتوقع أن تخطو على مصالح الولايات المتحدة (نجد أنه فى أكتوبر 2002 صدر قرار من الكونجرس الأمريكى بالموافقة على تصريح جورج بوش باستخدام القوة العسكرية على أساس الضربات الاستباقية من أجل الدفاع عن الأمن القومى الأمريكى، ومن تلك النقطة أصبحت نظرية الحرب الوقائية جزءا أساسيا ومحوريا فى السياسة الخارجية الأمريكية)، فهى نظرية تستمد شرعيتها من منطلق الدفاع عن النفس ضد أى خطر أو حتى الحصول على ميزة استراتيجية فى حرب.
نجد أيضا أن المحافظين الجدد لهم دور مهم لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية من خلال تطبيقها، فتمت صياغتها تحت مسمى “استراتيجية الأمن القومى” التى تم إعلانها فى سبتمبر 2002 فبحسب تلك الاستراتيجية الجديدة، أصبحت العقيدة الدفاعية الأمريكية تقوم على أساس “الضربات الاستباقية” وتخلت عن سياسة الاحتواء[25].
– التفوق الاستراتيجى والعسكرى:
كانت هناك عناصر متشددة داخل إدارة البيت الأبيض تعمل بالضغط من أجل تغيير النظام الأمريكى، فمن أوائل الدعاة لشن الحرب كان “بول ولفوفيتز” نائب وزير الدفاع وعلى الوتيرة نفسها جورج بوش فى أثناء خطابه فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذى شدد فيه على الحاجة لاتخاذ قرار سريع من قبل مجلس الأمن الدولى من أجل الحسم فى ملف العراق فبدأت حملة تسويق “حرب العراق” بعد هذا الخطاب فى 19 سبتمبر 2002 (أشار إلى ضرورة تكثيف الجهود لكسب دعم شعبى واسع لمواجهة عسكرية محتملة) فاعتمد على توعية الجمهور بالتهديد خاصة الأسباب المزعومة سوف يسود مبدأ حتمية وشرعية الحرب حينما يأتى الأمر للأمن الأمريكى.
فسعى للحصول على أساس قانونى لغزو العراق يُعرف باسم “القرار المشترك لتفويض استخدام القوات المسلحة الأمريكية ضد العراق 2002” وتم بالفعل الأخذ به كما قيل سابقا بحسب الأسباب التالية (عدم امتثال العراق لقرارات الأمم المتحدة – حيازة أسلحة الدمار الشامل – الارتباط بالقاعدة – مساعدة وإيواء الجماعات الإرهابية) بالإضافة إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية متركزة على خلع صدام حسين من العراق، فإلى جانب هذا الأمر كانت استراتيجية البيت الأبيض متمحورة حول ثلاثة مبادئ، وهى الانتقال من الردع إلى العمل العسكرى الوقائى لمواجهة الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والانتقال من الاحتواء إلى تغير الأنظمة؛ حيث إن الحكومات الاستبدادية هى فى حد ذاتها خطر على المصالح القومية الأمريكية، إلى جانب ترسيخ العلاقة الارتباطية لدى الشارع بين الخطوة المراد اتخاذها من الضرورى وبين استقرار وأمن الدولة.
– دور وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”:
قبل 2002 كانت وكالة الاستخبارات المركزية هى الداعمة الرئيسية لإدارة جورج بوش فى ملف العراق لكن أُنشئت وحدة فى وزارة الدفاع الأمريكية تسمى مكتب الخطط الخاصة بقيادة “بول ولفويتز” “دجلاس فيث”، فكان الهدف منه فى البداية هو تأكيد علاقة صدام حسين بالقاعدة وأسلحة الدمار الشامل، فكان هناك بيان أهداف ينص على: إزالة أسلحة الدمار الشامل العراقية ومنع استخدامها لمنع العراق من التنصل من الاحتواء لإنهاء التهديد العراقى لمنطقة الشرق الأوسط، وإيقاف الحكومة العراقية عن الاستبداد بمواطنيها، وقطع روابط العراق مع الإرهاب الدولى، والحفاظ على وحدة العراق وسلامة أراضيه، وتحرير الشعب العراقى ودعمه من أجل خلق مجتمع مبنى على الاعتدال والتعددية والديمقراطية.
كان ذلك بيان الأهداف الذى يعمل على تشجيع التناغم بين المخططين فى مواقع الحكومة الأمريكية، أما الخطط الحربية فلا توضع فى البنتاجون بل من قبل ضباط القيادات القتالية، فبالنسبة لملف العراق كانت هذه القيادة هى Centcomفكان الرئيس ووزير الدفاع المدنيين الوحيدين فى سلسلة القيادة العسكرية، فكانت خطة الهجوم مقسمة إلى أربع مراحل (استعدادات لغزو محتمل – تهيئة مكان المعركة ابتداء من العمليات الجوية – عمليات هجومية وقتالية كبيرة – إعادة الإعمار وترسيخ الاستقرار) ، كان رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكى يرى أن المشكلة العراقية هى بسبب التراكمات عبر السنين، وهذا ما جعل التفكير مشوشا نوعًا ما حينما يأتى ذكر ملف العراق فى العلن، فبمجرد حدوث هذا ترى الاتهامات عما حدث وعما كان يجب حدوثه، ولكنه أراد أن يجد طريقة لتحليل لب وأصل المشكلة العراقية دون أن يقع فى المسائل الثانوية، فطلب طريقة مفاهيمية شاملة للتفكير فى المخاطر التى تنشأ من (روابط الجماعات الإرهابية والبلدان الداعمة لها – أسلحة الدمار الشامل)، وكان البنتاجون يوافق قرار الرئيس فى السياسة الاستباقية؛ إذ إنها تعدل النظرة التقليدية إلى السيادة؛ حيث إن الدولة لا تكون ممتثلة للقانون الدولى العرفى، وإنها تتمتع بحق سيادى لعمل ما تريد داخل حدودها، وكنتيجة طبيعية تستطيع الدولة أن توجه قوتها العسكرية ضد أى دولة تقوم بشن اعتداء عبر الحدود الدولية، إلى جانب أنه كانت هناك مدرستان منفصلتان فى الفترة التى سبقت غزو العراق داخل إدارة جورج بوش أولاهما: سياسة الاحتواء من خلال العقوبات القاسية التى تبناها وزير الخارجية آنذاك كولن باول – الثانية العمل من جانب واحد باستخدام القوة العظمى التى تبناها نائب الرئيس ووزير الدفاع الأمريكى والمحافظين الجدد ) وبهذه الأكثرية تم التحرك نحو الاستعداد والحشد العسكرى [26].
خامسا – الغزو الأمريكى للعراق 2003:
1- الغزو العسكرى للعراق:
اجتمع جورج بوش وتونى بلير رئيس الوزراء البريطانى فى البيت الأبيض لتحديد يوم لضرب العراق واحتلاله وانضم إلى صف الولايات المتحدة 20 دولة والمنظمات والقوات المعارضة لنظام صدام حسين مثل قوات البيشمركة الكردية بقيادة جلال طالبانى ومسعود برزانى ثم حضر جورج بوش مؤتمر القمة لحلف الناتو وأخذ موافقة 49 دولة بغزو العراق وسمى هذا الائتلاف “ائتلاف الراغبين” ثم تعاونت كل من الولايات المتحدة وطهران؛ حيث سمحت بعبور الطيارات الأمريكية عبر أراضيها بحسب ما قاله الرئيس محمد خاتمى “لولانا ما نجحت أمريكا باحتلال العراق”، وفى 17 مارس 2003 أعلن جورج بوش فى خطابه بأمر صدام حسين بمغادرة العراق خلال 48 ساعة، ولكن تلقى الرد بالرفض ومن بعدها تجهز العراق عسكريا بالإمكانات الموجودة بالتعاون مع وحدات عسكرية عربية تعدادهم ثمانية آلاف جندى، ثم بدأ الهجوم العسكرى على العراق جوا وبرا انطلاقا من قواعدها العسكرية فى قطر والكويت والبحرين، ودخلت العراق جنوبا من الكويت وشمالا من جنود البيشمركة الكردية وبدأت عملية الغزو من 20 مارس 2003 حتى سقوط بغداد يوم 6 إبريل عام 2003 ثم سقوط كركوك وتكريت، وتم الاحتلال الأمريكى فى بداية شهر مايو 2003[27].
2- العراق فى ظل الاحتلال الأمريكى:
انهارت الدولة العراقية فى مدة لا تتجاوز أسابيع بعد دخول أمريكا فيها منذ عام 2003 بمساعدة قوات التحالف الدولى التى كانت على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وبدخول أمريكا العراق فقد العراق استقلاله السياسى والاقتصادى أيضا، وتحول النظام السياسى فيها إلى نظام يقوم على الطائفية السياسية بهدف تقسيم العراق إلى دويلات ما أثر فى المنطقة العربية، كما أصبح الحديث عن التحويلات السياسية التى حدثت فى العراق منذ الاحتلال الأمريكى يتناوله الكثير من الباحثين خاصة الديمقراطية التى تتبعها العراق الذى نتج عن استخدام الأداة العسكرية التى أسقطت النظام، ولذلك سوف يتم تناول العراق فى ظل الاحتلال الامريكى من خلال محورين:
أولهما هو العراق فى ظل إدارة الحاكم المدنى بول بريمر[28]؛ حيث شهد المجتمع العراقى 2003 تحولات سياسية عدة وجديدة تختلف عن التحولات الماضية بشكل كبير، وكان المجتمع العراقى لا يتماشى مع هذا التحولات حتى حدثت التحولات الجذرية فى الحياة السياسية، وكان التحول إلى نظام جديد الأمر الذى أدى إلى حدوث تغيرات فى الحياة السياسية والاجتماعية، كما تم تطوير المؤسسات الديمقراطية وتم تعزيزها فى العراق، ولكن كان ذلك غير مألوف بالنسبة للمجتمع العراقى، وكان بول بريمر دبلوماسيا أمريكيا تم تعيينه من قبل الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن رئيس الإدارة الأمريكية فى العراق ٣ مايو 2003، ووصل إلى بغداد يوم 12 مايو 2003 حتى يشرف على الشئون الداخلية فى العراق، وتم إصدار قرار بحل الجيش فى كل المؤسسات التى تتصل بالأمن الوطنى، كما تم إنهاء خدمات الجيش العراقى، وأعلن إنشاء جيش عراقى جديد، وبعد أيام قليلة من تسلم بريمر الإدارة تم إحداث فراغ فى السلطة، وحدثت الفوضى فى العراق، وتحطم نظام صدام حسين الديكتاتورى، الأمر الذى كان يمثل نصف أهداف التحالف المعلنة، وكان العراق فى ظل الاحتلال الأمريكى فى حالة فوضى لا توجد بها سلطة أو الجيش أو شرطة، وأزيلت كل القوات الأمنية، وكانت تكثر أعمال النهب قبل الاحتلال الأمريكى. ومن الجدير ذكره، أن أمريكا فشلت فى توفير الحماية إلى المؤسسات المهمة فى بغداد، ولكنها نجحت فى توفير الحماية إلى مبنى وزارة النفط؛ حيث توجهت فى وقتها بالدبابات إلى هذه الوزارة لحمايتها، فنستنتج من ذلك أن من أكثر الأسباب أهمية بالنسبة للاحتلال الأمريكى للعراق كانت أسبابا اقتصادية واستراتيجية (الأهمية النفطية)، كما لقى الاحتلال الأمريكى مقاومة مسلحة خلال فترة حكم بريمر، وانتشرت الأعمال الإرهابية والمخربة ضد السكان المدنيين، ولكن كل المحاولات لصد الاحتلال الأمريكى لم تكن كافية حينها.
كما كان هناك خطاب قوى للصدر ضد أمريكا، ولكن رد عليه بريمر بإغلاق جريدة رجل الريف الشيعى، ولكن رد جيش المهدى بالاستيلاء على مدينة الصدر بغداد ومناطق كثيرة أخرى، وتم إعلان مقاومة القوات الأمريكية، ومن هنا دخلت الولايات المتحدة الأمريكية فى حرب شرسة فى مدينة النجف والفلوجة وتم استخدام أنواع كثيرة من الأسلحة، واعتقل فى هذه الحرب الكثير من المقاومين، وسجنوا وعذبوا بأبشع الطرق ما أشعل نار قلوب السياسيين العراقيين.
ومن الجدير بالذكر، أنه حدث تحول فارق عندما أمر بريمر بحل الجيش العراقى؛ حيث نتج عن ذلك نتائج كارثية على الدولة العراقية ما أدى إلى ظهور داعش كامتداد لتنظيم القاعدة بعد الحرب[29].
كما أسس بريمر مجلس الحكم الانتقالى من قبل الأحزاب السياسية السبعة؛ حيث كانت تلك الأحزاب تعارض النظام العراقى، وقامت سلطة الائتلاف بتحديد مهام هذا المجلس ومسئولياته، والهدف هو رسم السياسة العامة للدولة وتحديد الموازنة العامة، كما تم التخطيط لتغيير الدستور العراقى، وكانت مدة رئاسة المجلس شهرا واحدا لكل شخصية من الـ ٩ أعضاء، وأخيرا اعتمد مجلس الحكم إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية. ويعد هذا القانون بمنزلة أول دستور مؤقت بعد سقوط نظام صدام حسين، وتم إجراء اعتماده من قبل مجلس الحكم ليضع بذلك أساسا لنظام ديمقراطى اتحادى تعددى فى تاريخ العراق المعاصر، والاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان والمساواة بين العراقيين، والفصل بين السلطات، كما وضعت جدولا للقضايا السياسية والدستورية مثل انتخابات الجمعية الوطنية وغير ذلك، وبهذا أصبح الاحتلال أمرا واقعا بالنسبة للعراق، ولكن لا يمتلك الشرعية فى أن يقوم بإدارة المنطقة المحتلة، ولا صلاحيات محددة، وتم وضع القوانين فى العراق بواسطة الإدارة الأمريكية بعد صدور قرار من مجلس الأمن الدولى فى ذلك الشأن، بالإضافة إلى القيام بالتزاماتها فى حدود القانون الدولى، أى أن يلتزم المحتل بقوانين البلد القائمة. ومن ثم، أصبح العراق فى مواجهة وضع جديد، وشكلت مشكلة التمثيل لمكونات الشعب العراقى المشكلة الكبرى والأبرز التى واجهها الحكم المدنى فى إدارة الأمور العراقية الجديدة بسبب فقدان السيطرة على التعدد، بالإضافة إلى عدم الثقة فى تقديم الولاء للأمريكيين، فكل ذلك أثر فى القرارات الأمريكية التى عطلت الكثير من المصالح، وعملت على تعقيد المشهد السياسى العراقى، وحاولت قوات الاحتلال إدارة شئون العراق بصورة مباشرة فى الوقت التى أعلنت نيتها إقامة حكومة تساعدها على إدارة البلاد، ومن ثم أُسس مجلس الحكم الانتقالى بصلاحيات محددة، لكى يساعد السلطة ويمثل إدارة انتقالية بقيادة عراقية، ثم أصبحت السلطة منتقلة كاملة للعراقيين، وتشكيل حكومة بصلاحيات كاملة، وتم تشكيل صراع جديد بين المحتل والعراق. ومن الجدير بالذكر، أن مجلس الحكم الانتقالى كان إحدى خطوات التحول الديمقراطى فى العراق؛ حيث يشمل الطوائف العراقية والدينية والقومية والسياسية والوطنية، ولكن كان مجلسا شكليا؛ حيث يستمد وجوده من سلطات الاحتلال أى لا إرادى للشعب العراقى؛ حيث كان للمحتل الفرصة التى تمنحه حق الفيتو فى قراراته.
ويمكن إجمال كل ما عمل على تغييره بول بريمر فى فترة حكمه:
· قام بول بريمر بحل حزب البعث بقرار اتخذه فى 16 مايو 2003.
· تم تجريد ألف بعثى من الوظيفة العامة.
· تم حل الجيش العراقى والأجهزة الأمنية، كما حُرم الكثير من الشعب عن فرص العمل.
· ومن الجدير بالذكر، أن الشعب العراقى قد انقسم إلى فريقين: فريق تضرر من الاحتلال الأمريكى، وكان يدعو لمواجهة الاحتلال الأمريكى، وفريق آخر تمثل فى العناصر التى عارضت النظام السابق التى مثلت الشيعة والأكراد والأقليات التى تحالفت مع النظام الملكى قبل عام 1958، وبناء على ذلك فإن الاحتلال الأمريكى كان يعمل وفقا للتوجهات الخاصة لتحقيق المصالح الأمريكية دون النظر لمصلحة العراق وشعبه مثلما قامت الحكومة الانتقالية خلال عام 2004.
– نتائج الحرب الأمريكية على العراق:
1- سياسيا وأمنيا:منذ بداية الاحتلال الأمريكى فإن الإدارة الأمريكية سعت إلى استمالة الشيعة على حساب السنة، ولكن بعد انتهاء الحرب قامت سلطات الاحتلال الأمريكى بقيادة الحاكم المدنى بول بريمر الذى قام بتأسيس مجلس الحكم الانتقالى كما سبق وذكرنا[30].
· كما شُكلت ما سمت بحكومة ديمقراطية فى العراق، التي خلقت نزاعات طائفية وأدت إلى تزايد معدلات النزاعات الطائفية، ووصل الأمر إلى حد الحرب الأهلية وتفتت الدولة وانهيارها. وخلاصة ذلك، أن الإدارة الأمريكية هى التى خلقت الطائفية فى المجتمع العراقى نتيجة السياسات التى تتبعها فى التمييز بين السنة والشيعة والأكراد.
· كما طُرد الكثير من الموظفين عن الوظائف التى كانوا يشتغلون بها، ما أثر فى الوضع الأمنى فى العراق؛ حيث ينضم العديد من هؤلاء إلى جماعات المقاومة التى رفعت السلاح فى وجه الاحتلال والحكومة العراقية[31].
2- على المستوى الإقليمى:
· عملت الحرب الأمريكية فى العراق على إضعاف النظام الإقليمى، وفشل النظام الجماعى العربى الممثل فى جامعة الدول العربية فى حماية الحقوق العربية، وبالإضافة إلى ذلك كانت دولة إسرائيل من أوائل الدول التى حققت مكاسب على المستوى الإقليمى؛ حيث إنه بإضعاف العراق تمت إراحتها من خطر كان يشكل تهديدا كبيرا، أما الدولة الجارة للعراق فزاد نفوذها الإقليمى عكس ما كانت ترغب فيه دولتا أمريكا وإسرائيل.
3-على المستوى الدولى:
كشفت الحرب عن عجز مجلس الأمن والأمم المتحدة فى دورهما فى حفظ الأمن والسلم الدوليين وتخطي الولايات المتحدة مجلس الأمن عندما لم تستطع تخطى غالبية أعضائه [32].
4-على المستوى الاقتصادى:
· عملت الحرب الأمريكية على إنهاء مقومات الدولة القومية فى العراق؛ حيث عملت على إنهاء قيمة الدينار العراقى، وبعد الحرب الأمريكية تم استبدال الدينار العراقى الذى يحتوى على صورة صدام حسين، وأصبح 1500_2000 دينار يساوى دولارا أمريكيا واحدا.
· وبالإضافة إلى ذلك وصلت الديون العراقية إلى مليارات الدولارات، وانهار القطاع الزراعى والبنية التحتية للعراق، كما دمرت قطاعات الكهرباء ومياه الشرب والاتصالات والسكن.
· كما وصلت معدلات البطالة بين 30% إلى 40% وتضاعفت معدلات سوء التغذية وهروب رأس المال الأجنبى، بالإضافة إلى انتشار الفساد وانخفاض إنتاج النفط بين عامى 2003 و2005 وذلك نتيجة عمليات المقاومة التى طالت عدد المصافى، ويرجع أيضا للاستغلال الكبير الذى استغله الاحتلال للنفط العراقى[33].
5-على المستوى الثقافى والاجتماعي:
· تم نهب المتاحف الأثرية والوثائق والمخطوطات داخل متاحف بغداد.
· تم نهب المتحف القومى العراقى و170 ألف قطعة من معروضات الآثار التاريخية.
·كما ارتفعت نسبة البطالة وتفككت الحياة الاجتماعية وانتشرت الأوبئة والأمراض التى أدت إلى وفاة الكثير من الأطفال.
· كما انتشرت القيادات المعينة من قبل سلطات الاحتلال، وهى قيادات مكروهة من الشعب العراقى ما أدى إلى الكراهية والانقسام داخل المجتمع بسبب الانقسام بينهم، ما أدى إلى عدم استقرار العراق لفترة طويلة.
· كما ظهرت وانتشرت ظاهرة هجرة الكوادر البشرية [34]. وبناء على ما سبق، نستنتج من المعاناة التى عاناها العراق فى ظل الحرب الأمريكية، أن الحرب قد أسهمت فى تحول الدولة إلى الفشل وفى تدميرها، كما أدت إلى وجود الانقسام فيها وزيادة الضحايا والانتهاكات التى نتجت عن التدخل الأمريكى فى العراق.
سادسا – ردود فعل المنظمات الإقليمية والدولية نحو الاحتلال الأمريكى للعراق:
1- جامعة الدول العربية:
عدَّ عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية فى ذلك الحين أن اليوم الذى تم فيه احتلال أمريكا للعراق يوما محزنا لكل الشعوب العربية، وأن موقف الجامعة العربية واضح، وينطلق من موقف عربى يقف ضد توجيه أى ضربة أجنبية للدول العربية[35]، كما طالب أيضا مجلس الأمن الدولى أن يقوم بكل المسئوليات الواقعة عليه لأن مجلس الأمن جهاز مختص وملزم بتحقيق السلم والأمن الدوليين، ومن ثم عليه أن يتخذ جميع التدابير لحفظ السلم والأمن ووقف الحرب ضد العراق، وأجرى العديد من المباحثات والزيارات مع أمين عام الأمم المتحدة حتى قبل الغزو من أجل حلحلة الوضع فى العراق، وكان الاتجاه الغالب والمتفق عليه وقتها هو العمل على عودة المفتشين النوويين إلى العراق من أجل إثبات عدم صحة وجود مشروع نووى فى العراق[36].
كما كان يرى عمرو موسى أنه تم تهميش دور مجلس الأمن فى أثناء اتخاذ القرار بشن الحرب على العراق، أى أن أعضاء جامعة الدول العربية كانوا ضد الاحتلال الأمريكى للعراق لأنهم كانوا يرون أن الدور سيأتى بعد العراق على بقية الدول العربية، كما صرح سعيد كمال الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية.
2- الأمم المتحدة:
على الرغم من الدور الكبير وغير المحدود للأمم المتحدة فى تحقيق السلم والأمن الدوليين وحل النزاعات الدولية فإن دورها فى قضية الاحتلال الأمريكى للعراق كان محدودا جدا؛ حيث إن قرارات مجلس الأمن الدولى لم تمنح التفويض للبعثة التابعة للأمم المتحدة فى العراق بإنهاء الوجود الأمريكى فيها.
وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن إنكار الدور الرئيسى الذى قامت به منظمة الأمم المتحدة فى تغيير نظام الوجود فى العراق، وكان يوجد ملفان فقط تعمل عليهما الأمم المتحدة: الدور الإنسانى والمصلحة الوطنية، ولكن باستثناء موضوع الجماعات المسلحة التى كانت من واجب الحكومة وتحسين علاقات العراق مع دول الجوار؛ حيث كانت تشى بأنها لو عملت على الدفع باتجاه إنهاء الوجود الأجنبى بشكل مبكر لتعرض الجانب الإنسانى فى العراق إلى مخاطر كبيرة بسبب الصراعات والوضع الأمنى الاستثنائى فى الوقت الماضى[37].
– تداعيات التدخل الأمريكى فى العراق:
أكدت المؤشرات الماضية أن التدخل الأمريكى فى العراق لم يكن تدخلا عارضا بل كان حلقة من حلقات استراتيجية أمريكية ممنهجة تبنتها أمريكا تجاه منطقة الشرق الأوسط، وقد بدأت تتضح بالفعل هذه الاستراتيجية منذ عام (2001:2003) أى بعد إسقاط نظام “صدام حسين” وتبلورت هذه الاستراتيجية بكل وضوح حول فكرة رئيسية وهى “تحقيق المصالح الأمريكية” – بأى وسيلة ممكنة- لذلك فإن الأخيرة كانت ترى أن تحقيق مصالحها فى المنطقة لن يتم إلا عن طريق عدة وسائل أهمها: 1- تعبئة دول المنطقة لمصلحتها: وهذا بالفعل ما حدث وتم التعويل عليه فى أثناء الغزو الأمريكى للعراق لدرجة جعلت من بعض دول المنطقة حلفاء وأذرعا للقوات الأمريكية ساعة الغزو. 2- خلق بيئة سياسية غير مستقرة فى المنطقة لإيجاد ذريعة للتدخل فى أحوالها بل لخلق مبرر لشرعنة هذا التدخل.
كان التدخل الأمريكى فى العراق له آثاره الكبيرة فى المستويين الإقليمى والدولى، وترجع هذه الآثار الكبيرة إلى اتباع أمريكا نمطا جديدا من أنماط التعامل مع دول المنطقة وهو التدخل العسكرى الغاشم.
سابعا- الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق فترة الرئيس الأمريكى بارك أوباما(2017:2009):
تعد فترة الرئيس الأمريكى بارك أوباما من أهم الفترات التى يجب دراستها عند الحديث عن الاستراتيجية الأمريكية فى العراق نظرًا لأن وصول أوباما إلى سدة الحكم فى 2009مثَّل تعزيزا لاستراتيجيات أمريكية سابقة تجاه الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى مثل تحولا فى السياسة الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق بالتحديد.
– الانسحاب الأمريكى من العراق :2011
جاء انسحاب القوات الأمريكية من العراق كباكورة للتغير فى الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط والعراق، فبعد حرب استمرت قرابة السنوات التسع أعلن الرئيس الأمريكى سحب معظم القوات الأمريكية من العراق، وتم وضع جدول زمنى للانسحاب، وبموجب هذا الجدول أُعلن أن الولايات المتحدة سوف تسحب قواتها المقاتلة من العراق بحلول نهاية أغسطس 2010 ولكن سيتم الإبقاء على قوة يتراوح عددها بين 50:30ألف جندى يتم سحبهم أيضا بحلول نهاية 2011وفقا لما تم الاتفاق عليه فى الجدول الزمنى، وقد أكد بارك أوباما أن الإبقاء على هذه القوات فى العراق له أهدافه المتمثلة فى دعم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه العراق، ويمكن الإشارة إلى أهمها وهى قيام هذه القوات بتدريب الجيش العراقى، وحماية المصالح الأمريكية، وأيضا أعضاء السلك الدبلوماسى الأمريكى الموجودين فى العراق.
كالعادة أختلف كل من الجمهوريين والديمقراطيين حول هذا القرار، فقد رحب الجمهوريين بهذا القرار ولقى القرار توجسا من قبل الديمقراطيين الذين رأوا أن الإبقاء على هذا العدد الهائل من القوات فى العراق (50ألف جندى) أمر ليس مطمئنا وأكبر مما كان فى التوقعات، وبالنسبة لردود الأفعال الأمنية فإن المصادر قد كشفت عن أن القيادة المركزية للجيش الأمريكى فى العراق كانت فى حالة من القلق، وقد حذرت من تبعات هذا الانسحاب الذى رأت أنه قد يؤدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية فى العراق، فى حين أن ردود الأفعال الدولية كانت ترى أن الانسحاب لن يكون سهلا، ولكن الأوضاع فى العراق قد تحسنت فى ظل وجود حكومة حظيت على الثقة (حكومة المالكى).
التحول الاستراتيجى لأمريكا تجاه الشرق الأوسط والعراق تحديدا: قبل الحديث عن استراتيجية الولايات المتحدة تجاه العراق فترة الرئيس بارك أوباما، يجب أن نتحدث عن طبيعة هذه المرحلة وعن المناخ الداخلى والخارجى الذى تأثرت به بالطبع الولايات المتحدة، وبدأ بدوره ينعكس على استراتيجيتها تجاه العراق، وقد مرت استراتيجية أوباما تجاه الشرق الأوسط بوجه عام بتحولات متعددة؛ حيث أنه كما ذكرنا عمل على دعم الأمن والسلم والديمقراطية داخل المنطقة إلا أن الاستراتيجية الأمريكية الطموحة تجاه المنطقة بدأت تصطدم بما أطلق عليه “ثورات الربيع العربى”، وقد كانت هذه الثورات بمنزلة نقطة تحول جوهرية فى مسار خطط الولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط؛ حيث إن الولايات المتحدة بدأت بالفعل فى تطبيق استراتيجية جديدة تتمثل فى “الانسحاب التدريجى من إقليم الشرق الأوسط” لكن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة: ما أسباب تحول الاستراتيجية الأمريكية تجاه أقليم الشرق الأوسط؟ والإجابة عن هذا السؤال ربما تتجه فى محاور عدة على رأسها:
1- محور الكشوفات النفطية: كان أحد أهم عناصر اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة الشرق المتوسط[38] هو تأمين مصالحها خصوصا فى ظل اعتمادها على النفط الموجود بكثرة فى هذه المنطقة، ولكن بعد اكتشاف الولايات المتحدة “للنفط الصخرى” الذى أعلنت أنها بموجبه يمكن أن تصل إلى الاكتفاء الذاتى من النفط بدأ هذا الاهتمام بالمنطقة يقل تدريجيا؛ إذ إنها لم تعد مغرية لصانعى القرار الأمريكى، ومن ثم مثل ذلك عاملا رئيسيا فى ضعف اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة.
2- محور الرأى العام الأمريكى: يعد أحد أهم وأبرز العوامل التى أدت دورا فى تغيير الاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة؛ إذ إن الرأى العام الأمريكى لم يعد متحمسا بل ولم يعد مرحبا بالتدخل الأمريكى فى المنطقة نظرا لارتفاع التكلفة البشرية والاقتصادية لهذا التدخل[39].
3- ثورات الربيع العربى:مثلت هذه الأحداث نقطة فاصلة فى التحول الاستراتيجى الأمريكى تجاه المنطقة؛ حيث إنه تم النظر بشىء من التشكيك وعدم المصداقية للدور الذى تؤديه الولايات المتحدة الأمريكية فى المنطقة، ومن ثم فإنه لم يعد هناك ترحيب من شعوب المنطقة لوجود أى دور أمريكى.
4- تحول الاهتمام الأمريكى من الشرق الأوسط إلى القوى الآسيوية:كان أحد الأسباب الرئيسية وراء تراجع الاهتمام الأمريكى بالشرق الأوسط هو اتجاه الولايات المتحدة إلى الاهتمام بالقارة الآسيوية وذلك لعدة أسباب أهمها: المناخ السائد عبر عن صعوبة استمرار الدور الأمريكى فى الشرق الأوسط على النهج السابق نفسه، وأيضا رغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى مجابهة تزايد أدوار القوى الدولية الأخرى فى القارة الآسيوية[40].
وبذلك نحن أمام رفض شعبى من كلا الطرفين للتدخل وأيضا عدم وجود دافع اقتصادى فى ظل اكتشاف النفط الصخرى فى الولايات المتحدة، فضلا عن وجود أمر أكثر أهمية يهدد السيادة الأمريكية على العالم فى ظل تنامى دور قوى دولية وعالمية أخرى فى قارة آسيا، ومن ثم فقد استجابت الولايات المتحدة لكل هذه التغيرات، وبدأت فى تغيير استراتيجيتها تجاه المنطقة بشكل عام وتجاه حالة الدراسة بشكل خاص، وأصدرت واشنطن وثيقة استراتيجية فى يناير 2012تحدثت فيها عن اختلاف سلم أولوياتها من الشرق الأوسط إلى منطقة حوض الباسفيكى وآسيا، وقامت أيضا بإعادة تعريف دورها وحجم انخراطها فى الشرق الأوسط.
– ملامح التحول فى الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق:
اتبعت الولايات المتحدة نهجا جديدا تمثل فى عدم التدخل فى الشئون السياسية الداخلية للعراق لكنها لم تتمكن من إيجاد بديل للتدخل العسكرى بها للمحافظة على النفوذ الأمريكى الذى كان مهددا بالانحصار فى ظل زحف قوى إقليمية جديدة إلى الداخل العراقى، وبدأت الولايات المتحدة فى التعويل على نجاح مخطط الانسحاب من العراق لتبرير قرارها بسحب قواتها من أفغانستان. ومن ناحية أخرى، أدرك بارك أوباما أنه أصبح فى مواجهة مع الرأى العام الأمريكى الذى بدأ يأخذ اتجاهين لا يقل أى منهما أهمية عن الاتجاه الآخر، فقد كان هناك جزء كبير ممتعض من الخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة التى تتكبدها الولايات المتحدة يوما بعد يوم نتاجا لتدخلها فى شئون خارجية وسوء إدارتها لهذا التدخل. ومن ناحية أخرى، فقد كان هناك اتجاه آخر يرى أن انسحاب الولايات المتحدة الكلى المفاجئ سوف يؤدى إلى إحداث فراغ كبير فى المنطقة يمكن أن تملأه قوى أخرى مثل إيران[41] العدو الأكبر للولايات فى المنطقة وحركة طالبان وغيرهما من القوى الإقليمية الأخرى، فضلا عن استمرار حاجة الولايات المتحدة الأمريكية لبسط نفوذها فى العراق من أجل التحكم فى سوق النفط هناك وفى تحديد أسعاره لحلفائها بأسعار مناسبة. لذلك، بدأت استراتيجية أوباما الجديدة تقوم على التوفيق بين مطالب كلا الاتجاهين والأخذ بكل مقتضيات المرحلة، فلم يصدر أوباما قرارا بالانسحاب الكامل من العراق، ولكن فى الوقت نفسه قام بالتغيير من أسلوب[42] تعامله، فبدلا من التعامل بشكل مباشر بدأ ينوع فى أساليبه ويلجأ إلى الأسلوب غير المباشر؛ حيث تم الاعتماد على أسلوب تقديم المشورة وأيضا تدريب قوات الجيش والأمن المحلية فى الدول المعنية وتسليحها. وأيضا الاعتماد على أسلوب العمليات الخاصة، وقد انتهجت الولايات المتحدة هذه الاستراتيجية بالفعل، وكان أول تحد واجه استراتيجية الولايات المتحدة الجديدة هو اصطدام الولايات بتنظيم داعش فى العراق بعد نجاحه فى السيطرة على جزء كبير من الأراضى العراقية، وقد رأت الولايات المتحدة وجوب التدخل من أجل إجهاض المخططات الداعشية فى العراق لكنها اتبعت انهج العمليات الخاصة بدلا عن المواجهة المباشرة؛ حيث قامت بتنفيذ هجمات جوية ضد مواقع ومعاقل التنظيم وأيضا قامت بإرسال مستشارين عسكريين أمريكيين لتقديم الاستشارات للحكومة العراقية فى مواجهة داعش، فضلا عن تسليح وتدعيم القوات العراقية.
ثامنا- الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق فترة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب (2021:2017):
مثل مجىء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تحولا فى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط ككل، وسرعان ما بدأت ملامح هذه السياسة تبدأ فى الظهور؛ حيث تبنى دونالد ترامب سياسة خارجية تتشابه إلى أقصى حد ممكن مع سياسته الداخلية فيما يخص الهيمنة الاقتصادية، وتثبيت الكيان الصهيونى وإدماجه فى المحيط العربى، فضلا عن تحجيم الدول المناهضة لسياساتها وذلك من خلال عن طريق أدواتها المتمثلة فى التهديد بعقوبات وخلق الأزمات.
1- الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط فى عهد الرئيس دونالد ترامب:
شكل تولى دونالد ترامب لسدة الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية منعرجا محوريا فى سياسة الولايات تجاه منطقة الشرق الأوسط، لذلك فإنه من الأهمية بمكان أن نتناول المبادئ الرئيسية لهذه الاستراتيجية أولا تجاه منطقة الشرق الأوسط بوجه عام، ثم نبدأ بعد ذلك فى تسليط الضوء وتخصيص الدراسة لتحديد موقع العراق ومكانته فى ميزان الاستراتيجية الأمريكية فترة دونالد ترامب، ويتناول هذا المبحث مطلبين رئيسيين؛ يشير الأول إلى توضيح السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، والثانى إلى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العراق على وجه التحديد، على أساس أن ذلك كان المحدد الرئيسى للاستراتيجية الأمريكية فى هذه الفترة.
2- مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط:
تؤثر صفات وسمات رأس الدولة بلا أدنى شك فى سياسة وتوجهات الدولة، الأمر الذى أدى إلى ظهور مدارس فى العلوم السياسية تهتم بفكرة السلطة الكاريزمية، والشعبوية، وقدرة الحاكم على حشد جموع الشعب خلفه، وتكوين الرأى العام معتمدا فى ذلك على مجموعة من الوسائل والسمات الشخصية التى يمتلكها، وكان دونالد ترامب مثالا للرؤساء الشعبويين والكاريزميين فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أثرت المبادئ التى كان يؤمن بها دونالد ترامب وسماته الشخصية كثيرا فى سياسات الولايات المتحدة الأمريكية داخليا وخارجيا، لكن الأهم فى ذلك الصدد هو معرفة المبادئ التى كان يدين بها دونالد ترامب فى سياساته الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط.
– مبدأ أمريكا أولا:
كان هذا المبدأ بمنزلة المبدأ [43] الرئيسى الذى انطلق منه الرئيس دونالد ترامب فى بناء وهيكلة علاقاته مع الشرق الأوسط بل العالم فى بداية عهدته، وكان ينص هذا المبدأ صراحة على وضع أمريكا ومصالحها فى المقام الأول دون غيرها، مع ضرورة الالتزام بالمصالح الأمريكية داخليا نظرا لما سيؤثر فيه من تشكيل سياسة خارجية تسير على النهج نفسه.
– لا شىء للشرق الأوسط دون مقابل
وكانت هذه المقولة واحدة من أكثر المقولات تكرارا على لسان الرئيس دونالد ترامب فى خطاباته الرسمية؛ حيث إنه كان دائم الدعوة بأن أمريكا لن تتدخل لحماية أحد ثانية دون مقابل لذلك، وكان مبدئه فى ذلك هو أن الشرق الأوسط يمتلك أموالا كثيرة، وأنه لولا حماية الولايات المتحدة الأمريكية لما كان له أن يمتلك كل هذه الأموال، فى حين أن واشنطن تبذل جهدا كبيرا نظير حماية هذه الدول، فلماذا لا تحصل الولايات المتحدة على ثمن لذلك[44]؟
– عدم الإيمان بفكرة التدخل الإنسانى:
لم يولِ دونالد ترامب فكرة التدخل فى الشئون الداخلية للدول على أساس إنسانى اهتماما، ما دام أن الأمر لا يهم المصالح الأمريكية[45]، لكن المختلف هو أنه كان أيضا يؤمن بضرورة التدخل فى حالة إذا كان الأمر متعلقا بمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه كان يرى نهجا خاصا لذلك يقوم على أساس فكرة التدخل العسكرى الأحادى الذى لا يعتمد على أطراف أخرى، فضلا عن عدم الاهتمام الكبير بفكرة الأخلاقيات فيما يتعلق بهذه المسألة، فقد أقدم الرئيس دونالد ترامب على سحب القوات الأمريكية من سوريا دون أن يفكر فيما سيحدث فى المنطقة من أزمات إنسانية من جراء هذا الانسحاب الأمريكى.
– مبدأ العزلة:
صنف العديد من الباحثين السياسيين دونالد ترامب بوصفه خليفة للرئيس الأسبق “مونرو” فيما يخص سياسة العزلة التى كان يرى دونالد ترامب ضرورتها التى فسرها بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا ينبغى عليها أن تنظم شئون العالم من حولها وحل مشكلاته[46]، ويركز هذا المبدأ على ضرورة استثمار الطاقات الكامنة للولايات المتحدة الأمريكية سواء كانت طبيعة أو بشرية لإعادة بناء الولايات المتحدة كفاعل رئيسى فى النظام الدولى، وعدم الانغماس فى الصراعات الإقليمية.
– التغير الاستراتيجى الجوهرى فى استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية:
يعد التحول فى الاستراتيجية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية[47] فى عهد دونالد ترامب تحولا جوهريا فى تعامل الولايات مع هذه الأزمة شديدة الخصوصية للدول فى المنطقة العربية وللشعوب العربية أيضا على حد سواء، حيث كشفت إدارة دونالد ترامب للولايات عن تراجع موقف بلاده فى كونها وسيطًا محايدا فى عملية السلام وهو النهج الذى اتبعه العديد من الرؤساء الأمريكيين كان على رأسهم سلفه الرئيس بارك أوباما الذى حاول دائما عدم الانحياز لإسرائيل تجنبا للصدام مع دول المنطقة، لكن سياسة دونالد ترامب ضربت بهذه السياسات عرض الحائط ليخرج ترامب معلنا “صفقة القرن” التى أعلن فيها القدس الشرقية عاصمة لإسرائيل والتوجيه بنقل السفارة الأمريكية إليها، لتتحول بذلك الولايات المتحدة من طرف محايد يحاول حل القضية إلى طرف متحيز يحاول تصفية القضية لمصلحة طرف على حساب الطرف الآخر.
السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العراق فترة الرئيس دونالد ترامب: سلكت الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق فترة دونالد ترامب مسلكا مختلفا عن سابقها من الاستراتيجيات، وكانت ترى ضرورة إعادة ترتيب الموقف فى العراق مرة أخرى بشكل حقيقى، وربما يعود ذلك إلى الظروف المصاحبة لذلك التى كانت متمثلة من استطاعة الولايات المتحدة الأمريكية من دحر تنظيم داعش الإرهابى، وبكل تأكيد فقد أكدنا فى منهاجية الدراسة وجميع فصولها تعامل الولايات المتحدة الأمريكية الدائم بمنطق المصلحة الوطنية، فقد كانت أهم دوافع هذه الاستراتيجية هو المصلحة الأمريكية المتمثلة فى:
-السيطرة على النفط العراقى:
لطالما سعت الولايات المتحدة الأمريكية بمختلف إداراتها المتعاقبة على أمننة قضية النفط بوصفه المصدر الرئيسى للطاقة التى تعتمد عليها الولايات المتحدة فى الإنتاج، وقد سار دونالد ترامب فى تعامله مع العراق بوصفه من أكبر الدول التى تحتوى على النفط، وقد اعتمد نهج ترامب فى ذلك على استخدام القوة العسكرية من أجل السيطرة على النفط العراقى، والذى رأى ذلك أنه بمنزلة مقابل مُرضٍ للخسائر التى تكبدتها الولايات المتحدة الأمريكية من جراء حربها فى العراق، ولطالما استفذت هذه السياسة التى كانت يتبعها دونالد ترامب المسئولين فى العراق بشكل كان يدفعهم أحيانا إلى الرد عليها فى خطاباتهم الرسمية، مؤكدين أن النفط العراقى ملك للعراقيين وحدهم وليس من حق أى مسئول فى العالم أن يدعى أنه يملك شيئا ليس من حقه[48].
-الحد من نفوذ القوى الإقليمية:
سعت الجارة الإقليمية للعراق فى أعقاب اجتياح تنظيم داعش الإرهابى لبعض محافظات العراق فى 2014 أن تعزز نفوذها فى العراق عن طريق العديد من الوسائل مثل مساعدة العراق فى التصدى لهذا الإرهاب، مع إقامة علاقات اقتصادية واجتماعية كبيرة. وبطبيعة الأمر، فإن هذا التوسع فى النفوذ فى العراق قد أزعج الولايات المتحدة الأمريكية ومثل تهديدا وجوديا لها ولمصالحها، وكان دونالد ترامب يختلف اختلافا كبيرا مع بارك أوباما حيث إن الثانى كان يرى أن وجودها فى المشهد فى العراق يشكل عاملا إيجابيا وكان يرحب به[49]، فيما رأى دونالد ترامب أن الانسحاب من العراق وتركها فارغة قد أعطى الفرصة لها وتنظيم داعش الإرهابى لملء هذا الفراغ.
– محاربة الإرهاب فى العراق:
صدرت فى عهد دونالد ترامب الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب 2018 التى عدها كثير من المحللين والباحثين أنها من أكثر الاستراتيجيات تكاملا ووضوحا بعد التى صدرت فى عهد بارك أوباما عام 2011، وكان جوهر هذا الاختلاف بين الاستراتيجيتين متمثلا فى العديد من النقاط والأوجه على رأسها تركيز الاستراتيجية التى صدرت فى عهد دونالد ترامب على فكرة مكافحة الإرهاب أيديولوجيا[50]، وقد كثفت الولايات المتحدة جهودها فترة دونالد ترامب من أجل مكافحة الإرهاب، وأقامت العديد من اللقاءات المشتركة مع الإدارة العراقية التى قدمت مقترحات متنوعة من أجل محاربة الإرهاب فى العراق مثل (التعاون الاستخباراتى والأمن بين الولايات المتحدة والعراق – إعادة تأهيل المناطق المتأثرة بالهجوم الإرهابى لقوات داعش على العراق).
تاسعا – الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق فترة الرئيس جو بايدن:
ثمة علاقة تاريخية تجمع بين الرئيس الحالى للولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن وبين الملف العراقى، وتعود هذه العلاقة إلى عام 2006 عندما كان جو بايدن عضوا فى مجلس الشيوخ الأمريكى عندما اقترح مشروعه[51] الشهير الذى أعلنه 2006 وقدمه إلى مجلس الشيوخ فى 2007 تحت عنوان تقسيم العراق إلى ثلاث دول: عربية شيعية فى الجنوب، عربية سنية فى الوسط، وكردية وأقليات فى الشمال، وقارن السناتور بايدن وقتها مشروعه بسياسات جورج بوش التى عدها متخبطة فى ذلك البلد بقيادة المحافظين الجدد، وبكل تأكيد فإن هذا المقترح لم يلق وقتها ترحيبا من جميع القوى العربية نظرا لعوامل أيديولوجية عربية ترفض عملية التقسيم شكلا وموضوعا، لكن هذا المشروع قد عاد للطرح مرة أخرى مع صعود الديمقراطيين بقيادة بايدن إلى سدة الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 2021.
شهدت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العراق فترة جديدة مع قدوم الرئيس الأمريكى جو بايدن إلى الحكم الذى أشار إلى أنه يريد تقليص مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وإعادة التركيز على أولويات الأمن القومى الأمريكى والتهديدات التى تطرحها وتتمثل بكل تأكيد فى الصعود الصينى والروسى، معتبرا إلى أن الوجود الأمريكى فى الشرق الأوسط بمنزلة إهدار للجهود الأمريكية التى يجب أن يتم استثمارها فى قضايا أخرى تتطلب اهتماما وتركيزا أكبر من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. والجدير بالذكر، أن هذا الرأى كان يمثل رأى الكثيرين من المواطنين الأمريكيين الذين رأوا أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت منطقة تعج بالصراعات والأزمات المتشعبة التى أنهكت الاقتصاد الأمريكى دون جدوى، وكلفته العديد من الخسائر البشرية والاقتصادية، وجعلته يهمل قضايا أخرى باتت الآن تشكل تهديدا حقيقيا للسيادة الأمريكية فى العالم. وفى ضوء ذلك، فقد أعلن جو بايدن أول موقف حاسم للولايات المتحدة الأمريكية تجاه العراق فى يوليو 2021، مؤكدا أن الولايات المتحدة ستنهى مهمتها القتالية فى العراق مع حلول نهاية عام 2021 مع استمرار عدد من قواتها لتولى مهام تدريب الجيش العراقى وإمداده بالاستشارات العسكرية، الأمر الذى لم يلق رضاء من قبل الأحزاب السياسية العراقية الموالية للجارة الإقليمية التى كانت ترى ضرورة انسحاب جميع قوات التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم الدولة فى المنطقة رغم استمرار التهديد الذى يطرحه تنظيم الدولة الإرهابى، ولكن الأوضاع وقتها فى الداخل العراقى كانت ترجح الموقف الأمريكى ضد موقف الأحزاب الموالية ؛ إذ إن هناك العديد من الميليشيات الشيعية قامت بتنفيذ هجمات بمئات الصواريخ والقذائف والطائرات المسيرة على قواعد عسكرية فى العراق تستضيف قوات التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية التى عدتها الولايات المتحدة الأمريكية وسيلة للضغط عليها للرحيل من البلاد.
زعم جو بايدن فى العديد من المناسبات أن الشرق الأوسط فى هذه العهدة الأمريكية أصبح أهدأ من السابق، والذى أشار إليه فى قمة جدة بوصفه منصة للدبلوماسية[52] على الرغم من الجمود السياسى الموجود فيه، وقد رأى كثير من المحللين أنه كان محقا فى وصفه إذ إن العراق فى هذه الفترة قد استضاف محادثات سعودية إيرانية واسعة، وجهودا كبيرة من أجل تشكيل حكومة عراقية، ولكن هنالك الكثير من الاتهامات بالفشل لبايدن بسبب عجزه عن دعم العملية الانتخابية فى العراق وتعزيز حكومة متعددة الطوائف والأعراق لتقوم بحماية سيادة العراق، وتوجه البلاد بعيدا عن فلك القوة الإقليمية، وتحافظ على المصالح السياسية فى مجالى الطاقة والأمن.
– الولايات المتحدة الأمريكية من محاولة التسوية إلى تمديد الحماية:
خطا جو بايدن خطوات عدة فى مسار إصلاح العراق[53] تمهيدا للانسحاب الأمريكى الكامل من العراق، وقد تمثل دعم واشنطن للإصلاح فى عدة خطوات جاء على رأسها إعلان قرار الانسحاب الكامل من العراق فى 2021 الذى لم يتم بسبب تصارع الأحداث، ودعم مسار الانتخابات فى العراق منذ تولى جو بايدن سدة الحكم فى الانتخابات، والذى لم يكن على أفضل حال بسبب عدم قدرة واشنطن على توحيد لواء الأطياف العراقية المتناثرة، وثالثا دعم الكاظمى فترة ولايته للوصول إلى تسوية سياسية فى العراق وهو الدور الذى كان منوطا به الكاظمى وحكومته بالأساس، وتدعيمه فى وجه القوى السياسية الموالية لإيران العدو الأزلى للولايات المتحدة الأمريكية التى لا تحظى برضا عديد من الدول فى الشرق الأوسط، ومع وصول محمد شياع السودانى إلى الحكم فى العراق بدأت الدعوات تتعالى من الداخل العراقى حول ضرورة بقاء الولايات المتحدة الأمريكية فى العراق، وأن العراق ما زال فى حاجة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وشركاتها اقتصاديا فى ضوء رغبة العراق فى تنمية استثماراته بحثا عن تحقيق تنمية اقتصادية فى العراق الذى لا يجوز أن يظل معتمدا على النفط، ويجب أن يستثمر ويربح فى أسواق أخرى، وتحتاج إليها أمنيا أيضا فى ظل المناخ المتوتر الذى يسود المنطقة التى تعج بصراعات داخلية وانقسامات، هذا وقد رأت الولايات المتحدة الأمريكية فى ذلك تهديدا حقيقيا للأمن القومى الأمريكى. لذا، أعلنت وقتها تجديد الحماية مرة أخرى على ثلاث دول وهى اليمن، وسوريا، والعراق لمدة عام، لتكتب بذلك تجديدا لعام جديد للملف العراقى، وتفتح بابا جديدا لمتابعة نمط التعامل الأمريكى مع الأزمة فى العراق.
خاتمة:
قراءة الملف العراقى بصورة مستفيضة تفتح الباب للعديد من الاستنتاجات أهمها أن العراق فضلا عن أنه مثل فى فترة كبيرة إحدى مناطق النفوذ الأمريكى وعكس الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط إلا أنه أيضا كان مسرحا للنزال بين التيارات السياسية والقوى الإقليمية المختلفة. فقد مثلت أحداث العراق منذ 2003وحتى 2021نزالا شرسا اتخذ شكلين أساسيين، هما:1- نزال سياسى بين التيارات السياسية المختلفة فى أمريكا وعلى رأسها (الجمهوريين والديمقراطيين) 2- نزاع بين (الولايات المتحدة وإيران) بوصفهما أكبر قوتين لهما وجود فى المنطقة، ونزال بين القوى العالمية فى العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا بوصف العراق محطة من محطات التنافس على الزعامة بين هاتين القوتين العظمتين.
وقد بلغ هذا الصراع بشكليه السابق ذكرهما أقصاه خلال مدة الرئيس الأمريكي” دونالد ترامب”؛ حيث أنه على ذكر الشكل الأول من النزال اعتزام الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب قبل شهرين من مغادرته للبيت الأبيض وتسليم السلطة لخلفه جو بايدن؛ حيث أعلنت الولايات المتحدة قيامها بسحب قوات من العراق، أما الشكل الثانى فقد ظهر فى حدث كان من أهم أحداث العقد الأخير وهو اغتيال “قاسم سليمانى” قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيرانى الذى كان يعد أحد أهم رجال إيران فى تنفيذ سياساتها الخارجية بالمنطقة التى أوضحت بما لا يدع مجالا لأى شك أن واشنطن وطهران يعدان العراق ساحة لتصفية حساباتهما حيث إنه فى صباح الثالث من يناير لعام 2020أعلن البنتاجون نجاحه فى عملية اغتيال قاسم سليمانى بتوجيه من الرئيس الأمريكى ترامب، وجاء هذا الاغتيال ضمن سيناريو التصعيدات بين كل من أمريكا وإيران حول النفوذ فى المنطقة.
وقد كان، ولا يزال، حدث الغزو الأمريكى للعراق أحد أهم الأحداث التى شهدتها المنطقة بأكملها نظرا للتساؤلات الكثيرة التى شكلها هذا الحدث، وكان على رأسها بالطبع التساؤلات الاستراتيجية التى طرحت نفسها بقوة، وعما إذا كان هذا الغزو يمثل تدخلا أمريكيا عارضا أم أنه يمثل جزءا من استراتيجية أمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط. وقد حاولت هذه الدراسة أن تتناول هذا الحدث لتكشف الأسباب الاستراتيجية التى دفعت الولايات المتحدة إلى القيام بهذه الخطوة، وتكشف التحول فى الاستراتيجية وأسبابه ونتائجه ومدى تأثر كلتا الدولتين ودول المنطقة بهذا التغير، فضلا عن أن الدراسة لم تقتصر على كونها دراسة وصفية بل تجاوزت ذلك بتقديمها استنتاجات وتحليلات، وربطت الظروف الداخلية لمتغيرى بسياساتهما الخارجية تجاه بعضهما بعضا.