تعاود التوازنات الاستراتيجية ومفاهيمها من جديد أداء دورها فى حفظ النظام العالمى عند حد معين من الاستقرار، وإن تراجعت فى الآونة الأخيرة على إثر الصراع الروسى – الأوكرانى، وفشل آليات وإدارة الصراع من قبل الغرب، عبر محاولات إمداد أوكرانيا وتسليحها فى مواجهة الدب الروسى، ما أسهم فى طول أمد الصراع، وخلق مأزق أوروبى وغربى، تجرى المحاولات من أجل الخروج منه، ويمكن القياس على ذلك فى حالة تايوان والصين أيضا، والبروز الأمريكى بينهما، فى مسعى من أجل دعم تايوان فى مواجهة الصين!
لكن ما زالت التوازنات نفسها تؤدى دورا فعالا فى ضبط إيقاع النظام الدولى مستقرا وبعيدا – قدر الإمكان- عن الصراعات، ذلك من خلال محاولات القوى الفاعلة ممثلة فى الدول والتحالفات، فى الاحتفاظ بالقدر الأكبر من الإمكانات والموارد على جميع المستويات لا سيما الاقتصادية والعسكرية، وحتى السياسية والثقافية، ومن ثم يتحقق التقارب أو التعادل التام بين الأطراف كافة، أو على الأقل التفاوت المعقول، وربما لم يتمكن القانون الدولى نفسه أو اللوائح لدى أكبر المؤسسات الدولية من حفظ النظام عند حالته المستقرة بقدر ما تمكنت توازنات القوى وانعكاساتها.
فى المقابل، فإن أى اختلال فى التوازنات فيما بين الأطراف وبعضها بعضا، قد يحدث نوعا من الإمبريالية أو الهيمنة من قبل الجانب الأقوى، وبما يهدد الاستقرار المرجو للنظام الدولى وعناصره، ولعل التاريخ نفسه يعد شاهدا على خطورة الأوضاع الدولية وحجم الصراعات، فى ظل الهيمنة أو حتى السيطرة أحادية القطبية، ولا أدل على ذلك من مرحلة انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتى.
وثمة عدة أمور تحكم استمرارية هذا التوازن، فى المقدمة منها العلاقات الدبلوماسية مع الأمور الجيوسياسية، أضف أيضا قوة النظم داخليا، والأهم قدرة القوة الفاعلة على تقويض إمكانات القوى الأخرى، مثلما تفعل إيران على المستوى الإقليمى، وعلى الرغم من تراجع نظامها الداخلى، وإضعافها من قبل الولايات المتحدة، لدرجة أوصلتها إلى مرحلة التكيف مع العقوبات، فإن أبرز ما يميز القوة الإيرانية إقليميا، هى محاولاتها المستمرة حصد المصالح على الجانبين السياسى والدبلوماسي، مع السعى الدائم للاتحاد مع التحالفات القوية، بدليل التفاهمات الدائمة مع تركيا وروسيا.
واقع الأزمات المعاصرة يسلط الضوء من جديد، بل يكشف بعمق عن قيمة مفهوم التوازنات، وجدوى الارتكان إليها فى ضبط إيقاع النظام الدولى،وعلى الرغم من فشل هذه النوعية من المفاهيم السياسية، وتلك المرتبطة بحقول العلاقات الدولية فى إدارة الصراع الروسى – الأوكرانى، فإن المقاربة الإسرائيلية – الإيرانية تبرز كنموذج على قيمة توازنات القوى ومدى فعاليتها فى حفظ حالة الصراعات عند حد معين، حتى فى حال ارتفاع حدتها فإن هذا المفهوم يحيد عند أقوى مقاربة، ربما عُدت يوما النموذج الأوضح على هذا المفهوم السياسي المهم، ألا وهو نموذج الصراع الإسرائيلى – الإيرانى، ولعل الصراع المحتدم فى الآونة الأخيرة بينهما ومعطياته، تمكن من إيضاح الموقف وكيف خدم عليه المفهوم، وفى هذا السياق تتضح عدة ملاحظات أسهمت بدورها فى حفظ الصراع بين الجانبين عند نقطة من الاتزان، دون المواجهة المباشرة ومن ثم التصعيد المحسوب:
أولا- حرص إيران وقناعتها فى عدم الظهور المباشر فى صراعاتها مع إسرائيل، مستخدمة أذرعها بالجنوب اللبنانى، واليمن، وحتى سوريا والعراق، وجميعها تجيد إدارة الصراعات مع دولة الاحتلال، مع انتهاج الآليات المختلفة، كل بحسب النظام السياسي والتابع له، فإدارة حزب الله المحسوب على المعادلة السياسية اللبنانية، تختلف عن إدارة الحوثى المعاكس للنظام السياسي اليمنى.
ثانيا- تمكنت طهران من عقد التحالفات مع القوى الإقليمية المختلفة إن كانت سوريا ومؤخرا العراق، أو روسيا بأقصى الشرق، ومنه بروز حالة من التواصل السياسي مكنت إيران من تدعيم قواعدها بهذه المناطق، وخلق وتشكيل مسارات عسكرية أيضا، ما برز فى المواجهات الأخيرة مع تل أبيب، حينما تحركت قواها من إيران إلى داخل العمق الإسرائيلى، عابرة للعراق وسوريا وغيرها.
ثالثا- يعد البرنامج النووى الإيرانى فى مقدمة الأولويات الإيرانية، كما تحرص على إتمامه والانتهاء منه، وعلى الرغم من اقترابها من نسب تخصيب اليورانيوم الذي يسمح لها بصناعة القنبلة النووية، فإن طهران ما زالت حريصة على تسييس الموقف والخروج منه بأكبر قدر من المكاسب السياسية والدبلوماسية.
رابعا- أجادت إيران المناورات السياسية والعسكرية فى مواجهة إسرائيل، وفى ظهور نادر، جاء بشكل مباشر هذه المرة فى استعراض قدراتها العسكرية وترسانتها من الصواريخ الباليستية والمسيرات، وعقب أيام قليلة من حادث السفارة الإيرانية بدمشق، وإن اعتبر اعتداء صارخ على السيادة الإيرانية من قبل إسرائيل.
خامسا- لا تزال إيران تتحوط من الولايات المتحدة، ولا ترغب فى الحرب الصريحة معها، ليس فقط على إثر البرنامج النووى، لكن أيضا العقوبات الاقتصادية، وعلى الرغم من التكيف وتمرس إيران عليها، فإنها تسعى من وقت إلى آخر لتخفيفها، أيضا إيران لا تعلم من هو الرئيس الأمريكى القادم، من ثم يصعب عليها صياغة سياسات جديدة تجاه الولايات المتحدة.
سادسا- عن إسرائيل، فطالما قوضت هذا البرنامج النووى، فى محاولة للهروب من مفهوم التوازنات، ولتغليب الكفة لمصلحتها بالمنطقة، عبر تصوير المشهد وكأنه تهديد مباشر لدولة الكيان، وبناء عليه انصياع الولايات المتحدة وهو ما برز فى سياسات الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب 2020 – 2016، حينما تراجع فيما أرساه أوباما مع إيران بخصوص الاتفاق النووى منتصف 2015.
سابعا- تدرك إسرائيل معضلة المواجهة مع إيران، ولولا محاولتها التعتيم على إخفاقاتها فى غزة، ومن ثم احتكاكها بإيران وأذرعها، ذلك على الرغم من تشتت دولة الكيان على مستويات عدة فى مقدمتها السياسية والعسكرية، لا سيما عقب خلافات مجلس الحرب وتوالى الاستقالات، أيضا الضغوط السياسية والدبلوماسية التى تمكن العرب من ممارستها عليها عبر تدويل الأزمة الفلسطينية ومعاناة القطاع، أيضا التحولات الأممية والغربية الأخيرة، وإن تواصل الولايات المتحدة مناورتها وتعاود من جديد تسليح إسرائيل.
بناء عليه، يصعب الجزم بأن الصراع الأخير بين الجانبين يعد مسرحية ، أو حتى عد ما تم من قبل “الفبركة”، وربما العبء الأكبر فى إدارة هذه التوازنات جاء ليقع على إيران التى أجادت إدارته سواء عبر التحالفات والمسارات التفاهمية مع الجارات، أو حتى تسييس المواقف وتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والدبلوماسية، حتى الصراع الأخير تمكنت من تسييس ضربتها أمام المجتمع الدولى وباستخدام المادة 51 من الفصل السابع بميثاق الأمم المتحدة، وبموجبها يحق لها الدفاع عن نفسها، فى مواجهة إسرائيل، أيضا أجادت مرافعتها فى مجلس الأمن لتبرير هجماتها، وعليه يظل الموقف الدولى إلى حد ما محايدا.
غير أن الضربة المحدودة على أصفهان، التى جاءت ردا من إسرائيل على الهجمات الإيرانية، أبرزت قوة التوازنات فى إدارة الصراع بين الطرفين وحفظه كما أشرنا عند حد معين من الاستقرار، على الرغم مما تحظى به إسرائيل من الدعم الأمريكى المتواصل وربما غير المشروط، وعلى مستويات عدة سياسية، وعسكرية ولوجستية، حتى مع الخلاف الحالى بين بايدن وننتنياهو على إثر التوجيهات الأمريكية بضرورة التوقف عن اقتحام رفح، يظل دعم إسرائيل ضمن أبرز القناعات الأمريكية، بدليل تراجع الولايات المتحدة فى الآونة الأخيرة عن تحولاتها تجاه دولة الكيان وعاودت تسليحها، وإن بدأت فى فرض بعض العقوبات على الكتائب الإسرائيلية بالضفة الغربية نتيجة تجاوزاتها، فى محاولة من الولايات المتحدة على الامتثال لمنهج التوازنات، وهذه المرة فى مواقفها بالإقليم.