تدخل الانتخابات الرئاسية الإيرانية الجمعة المقبل، مرحلة الحسم النهائي التي من المفترض أن تفضي إلى تحديد الرئيس الجديد للجمهورية الذي سيقود السلطة التنفيذية في الأقل لمدة السنوات الأربع المقبلة حتى عام 2028 ما لم يستطِع التجديد لدورة جديدة تمتد لعام 2032.وعلى رغم كل الجهود التي بذلها المرشد الأعلى للنظام لإبعاد الانتخابات بخاصة والحياة السياسية بصورة عامة من استقطاب الثنائيات السياسية والفكرية، بين إصلاحيين ومحافظين، إلا أن المسار الذي اتخذته معركة الانتخابات الرئاسية انتهت إلى تكريس هذا الاستقطاب، عندما انتهت نتيجة المرحلة الأولى إلى حصر التنافس بين مرشح جبهة القوى الإصلاحية والمعتدلة مسعود بزشيكان مقابل مرشح القوى المحافظة، بخاصة التيار المتشدد “السلفي”، سعيد جليلي.
وصول جليلي إلى المرحلة الثانية من السباق الرئاسي ربما يكون على العكس من رغبة الكتلة الأساسية والحاملة لمشروع السلطة أو القوى المحافظة. هذه الكتلة التي لمست بصورة واضحة حجم التحديات التي يواجهها أو واجهها النظام خلال الأعوام الأخيرة نتيجة الحراك الشعبي والانقسام العمودي الثقافي والفكري الذي حصل بينه وغالبية المجتمع الإيراني، خصوصاً أثناء الحراك الذي اندلع بعد مقتل الفتاة مهسا أميني على يد “الشرطة الأخلاقية”. وهي الأحداث التي أنتجت كتلة شعبية لا توارب في إعلان رفضها أو معارضتها للنظام والسلطة القائمة ويمكن تخمين حجمها بنحو أكثر من 80 في المئة إذا ما جمعنا نسبة المقاطعين للانتخابات على أساس رفض النظام التي بلغت 60 في المئة، إلى جانب النسبة التي حصل عليها بزشكيان في الدورة الأولى والتي سجلت أكثر من 20 في المئة وتمثل القوى المعارضة.
هذه التطورات وضعت قوى التيار المحافظ أمام حقائق حاولت عدم تصديقها أو الاعتراف بها خلال الأعوام الأخيرة، وإن وصول جليلي إلى مشارف تولي السلطة التنفيذية، يعني خسارة هذه القوى مواقعها وسلطتها ونفوذها لمصلحة جناح متطرف ينطلق من أيديولوجيا وأسس عقائدية تختلف مع المسار الأيديولوجي للتيار المحافظ، وهو جناح إلغائي منغلق لا شك في أنه سينقلب عليها بعد أن يستكمل عملية ضرب وإقصاء كل القوى غير المحافظة.
هذه الحقائق تدفع قواعد القوى المعتدلة والتقليدية في التيار المحافظ إلى إعادة حساباتها، بخاصة في إمكان التخلي عن محاذيرها في الدفاع عن وجودها السياسي وداخل مؤسسات النظام، بالتالي من المتوقع أن ترفض التزام التوجيهات الصادرة عن قياداتها في الوقوف خلف جليلي ودعمه والتصويت له لضمان وصوله إلى رئاسة الجمهورية.
هذه المواقف للقواعد الشعبية للقوى المحافظة التقليدية والمعتدلة تأتي على العكس من الحراك الذي تقوم به القيادات المحافظة التي تخلت عن كل حساسياتها الداخلية ومخاوفها وأعلنت وقوفها ودعمها لجليلي في مواجهة المرشح بزشكيان، مدفوعة بهاجس واحد يهدف إلى منع عودة الإصلاحيين والخطاب الإصلاحي للسلطة باي ثمن أو وسيلة ممكنة، حتى إن كان على حساب مصالحها ومصالح القوى التي تمثلها، بخاصة بعد تصاعد التوتر بينها والجماعات المتشددة التي تبلورت في الانتخابات البرلمانية وما أسفرت عنه من نتائج على حسابها وعززت نفوذ السلفية الجديدة الممثلة بتيار “الثابتون – بايداريها” الذي يقف خلف جليلي في سعيه إلى تولي رئاسة الجمهورية، بغض النظر عن معرفتها بأن وصول جليلي إلى رئاسة الجمهورية يعني أن تيار “ثابتون” سيستكمل حلقات نفوذه داخل النظام ومنظومة السلطة من خلال الإمساك بالسلطة التنفيذية والتحكم بالسلطة التشريعية.
وفي ظل غياب مرشح الجناح المعتدل للمحافظين، أي محمد باقر قاليباف، عن السباق الرئاسي بعد خسارته السباق الانتخابي وفشله في الانتقال إلى المرحلة الثانية في مواجهة المرشح الإصلاحي، فإن التوقعات تتحدث عن عدم التزام هذه القوى الموقف الرسمي الصادر عن قاليباف بدعم جليلي، وإن غالبية أصواتها وبنسبة تصل ربما إلى 50 في المئة ستذهب لمصلحة بزشكيان، باعتباره أقل خطراً عليها من جليلي والتيار الفكري والسياسي الذي يمثله.
وأمام شعور قوى منظومة السلطة، بغض النظر عن قبولها مرغمة أو غير مرغمة بجليلي كمرشح لها في السباق الرئاسي، بأن قبضتها على مراكز القرار في السلطة التنفيذية باتت في معرض الخطر، في حال استطاع المرشح الإصلاحي تحقيق خرق وفاز بالانتخابات، يبدو أنها تواجه استحقاق الحفاظ على هذا الموقع وضرورة التخلي عن كل محاذيرها من أجل الدفاع عن مكاسبها ومصالحها. ومن أجل ذلك، فإنها لجأت وستلجأ في الساعات الأخيرة قبل يوم الاقتراع إلى استنفار جميع ما تملك من أدوات من أجل ضمان وصول جليلي إلى الرئاسة ومنع المرشح الإصلاحي من ذلك.
ولعل اللافت أو التطور الذي يستدعي التوقف عنده، هو الانقسام الواضح داخل المؤسسة الدينية في موقفها من العملية الانتخابية، فعلى رغم موقف هذه المؤسسة التاريخي بالوقوف إلى جانب المرشح الذي يمثل أو يلبي النسبة الكبرى من مطالبها وينسجم مع توجهاتها، فإن هذه الانتخابات كشفت عن وجود انقسام داخل المؤسسة الدينية بين تيار يحرص على الاستمرار في موقفه التقليدي، وتيار أسقط كل المحاذير وأعلن استنفار قواعده ورجال الدين الموالين له لدعم وصول جليلي إلى الرئاسة، ولعلّ العلامة الفارقة في هذا السياق، البيان الصادر عن أعضاء مجلس خبراء القيادة في محافظة الأحواز وإعلانهم موقفاً واضحاً وعلنياً بدعم جليلي في الانتخابات والدعوة إلى انتخابه.
وهذه التطورات قد تحمل مؤشراً خطيراً على مستقبل العلاقة داخل المؤسسة الدينية من جهة، وبين هذه المؤسسة والسلطة السياسية الممثلة بموقع المرشد وولي الفقيه، وما يمكن أن تملكه من تأثيرات في مستقبل عملية اختيار خليفة المرشد أو القائد الثالث للثورة والنظام التي انتهت مرحلتها الأولى بانتقال كل من مرشح جبهة القوى الإصلاحية والمعتدلة مسعود بزشكيان ومرشح التيار المتشدد “السلفي” سعيد جليلي إلى التنافس.