من الواضح أن الديمقراطية والمشاركة السياسية الأمريكية تمر بمرحلة متعثرة وغير مسبوقة من التشكيك والانتكاسة وحتى التراجع، وأنه لم تعد النموذج الذي لطالما تغنت به وروجت له لعقود بأن الولايات المتحدة ـ قائدة العالم الحر، وتنشر الحريات واحترام حقوق الإنسان والدفاع عن المكتسبات. وهو ما يميز أمريكا عن العالم غير الحر وغير الديمقراطي الشيوعي المنغلق واحتكار الحزب الواحد وقمع الحريات وتقنين الحقوق.
طالب ريغان غورباتشوف مع ترنح وقبل سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه لخمس عشرة جمهورية في نهاية الحرب الباردة ـ بإزالة حائط برلين رمز الاستبداد والقمع. وتحرر أوروبا الشرقية من قبضة الهيمنة العسكرية والفكرية السوفييتية الشيوعية. في انتصار للغرب الرأسمالي التعددي الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة. وسارع الناتو ليعلن انتصار الغرب والناتو في الحرب الباردة دون إطلاق رصاصة. وكتب فوكوياما المفكر الأمريكي ـ الياباني الأصل كتابه(نهاية التاريخ وانتصار الرجل الأخير) عن تفوق وانتصار النظام الغربي الديمقراطي ـ الرأسمالي ـ في اقتباس وتكرار لانتصار النظام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ـ والوصول إلى نهاية التطور الاجتماعي والثقافي للإنسان ـ في تكرار لما جادل وروج له كارل ماركس وهيغل وتوماس مور.
وتبعه رؤساء من ريغان وكلينتون وبوش الأب والابن وأوباما وبايدن بالترويج لنشر وتوسيع الديمقراطية حول العالم، حتى وصلنا إلى ترامب الذي مارس سلطة الرئاسة بالاستبداد والتحكم والإعجاب بالمستبدين وقادة الحكم الفردي. وقوض أركان النظام السياسي الأمريكي وطعن بنتائج الانتخابات التي خسرها عام 2020 ـ ووصف أمريكا بنظام العالم الثالث وهاجم الدولة العميقة ورفض نتائج انتخابات الرئاسة التي خسرها. وبعد أربع سنوات ما زال يرفض الإقرار بحقيقة خسارته الانتخابات. بل وصل الأمر لتحريض أنصاره على اقتحام منبى الكونغرس وعاثوا تخريبا. وحوكم وسُجن المئات على جرائمهم.
كما وجه القضاء الأمريكي تهما جنائية لترامب بالتمرد والعمل على قلب النظام. لكن تعطلت محاكمته بسبب ادعاءات باطلة وقرار المحكمة العليا (عين ترامب ثلاثة من قضاتها مدى الحياة) إبان رئاسته، بحكم: يملك الرئيس حصانة محدودة بقراراته أثناء رئاسته. أثار الحكم كثيرا من الاستهجان والقلق على وضع ومستقبل النظام الديمقراطي الأمريكي، سياسيا وعن تسييس القضاء بشكل واضح.
تحتدم حملتا الرئاسة الأمريكية بين الرئيس جو بايدن الديمقراطي وعودة دونالد ترامب للانتقام والتشفي، ومعه أنصاره المشحونون ضد النظام والدولة العميقة
واليوم تحتدم حملتا الرئاسة الأمريكية بين الرئيس جو بايدن الديمقراطي وعودة دونالد ترامب للانتقام والتشفي، ومعه أنصاره المشحونون ضد النظام والدولة العميقة، وبرغم 34 إدانة للمرة الأولى لترامب في محكمة في نيويورك بعد إدانته بالفساد والتلاعب وينتظر صدور حكم ضده- ليصبح أول رئيس سابق «مجرم مدان» بتاريخ الولايات المتحدة- وبرغم تحذير الرئيس بايدن أن ترامب بات مهددا حقيقيا للديمقراطية الأمريكية ـ إلا أن شعبية ترامب تستمر بالارتفاع ومعها جمع المزيد من مئات ملايين الدولارات من متبرعين حولهم ترامب إلى طائفة موالية بالكامل له ولأطروحاته وتوعده الانتقام من الدولة العميقة بما فيها أجهزة الأمن ووزارة العدل التي أدانته ومن مكتب التحقيقات الفيدرالية- ما يقوض الديمقراطية والنظام السياسي والاجتماعي والقضائي الأمريكي!
وقد سرّع بايدن بسقوطه بحساباته الخاطئة بتقديم موعد المناظرة الأولى ضد ترامب من سبتمبر إلى نهاية يونيو الماضي ـ وبسبب أدائه الباهت وشروده وعدم قدرته على مجاراة ومواجهة خصمه الضعيف المدان بعدة جرائم جنائية على المستويين الفيدرالي والولايات ـ زاد وعمّق التشكيك والقلق بقدراته العقلية والإدراكية لخلطه الأسماء.
ونشهد اليوم انقساما واضحا داخل قيادات وأركان الحزب الديمقراطي حيث تبدو للمرة الأولى قيادة حزب الرئيس في الولايات المتحدة منقسمة. وارتفع عدد النواب الديمقراطيين لـ21 نائبا وسناتور واحد ومعهم 24 نائبا ديمقراطيا سابقا يطالبون الرئيس بايدن بالتنحي والانسحاب من سباق الرئاسة وإفساح المجال لمرشح ديمقراطي بديل للترشح في مواجهة ترامب.
وبدأت تتسلل حسب استطلاعات الرأي الأخيرة ـ الخشية من تحقق السيناريو الأسوأ للديمقراطيين بإمكانية خسارتهم ليس البيت الأبيض وعودة ترامب ـ ولكن حتى خسارة أغلبيتهم الضئيلة في مجلس الشيوخ وخسارة ونزف مزيد من المقاعد في مجلس النواب، في خسارة كاملة للديمقراطيين وانتصار للجمهوريين وانسداد الأفق السياسي!
يعارض ويرفض الرئيس بايدن التنحي ويكرر «أنا المرشح الأفضل والأقوى في مواجهة ترامب، وترشحت للفوز وليس لأنسحب وأملك الخبرة والدراية. وهزمت ترامب عام 2020 وسأهزمه مجدداً عام 2024».
عاد الرئيس بايدن بقوة بعد التشكيك بقدراته ومطالبته بالانسحاب ليشن أقوى هجوم على ترامب مساء الجمعة في مهرجان خطابي في ولاية ميشيغان المتأرجحة والحاسمة لفوزه. وبدا متماسكا كما كان في اجتماعات سابقة. واتهم ترامب في المؤتمر الصحافي في قمة حلف الناتو في واشنطن الأسبوع الماضي، بأنه غير مؤهل للرئاسة لارتكابه جرائم وخرق القانون. وذكّر أنصاره بإدانة هيئة محلفين في نيويورك ترامب باغتصاب جين كارول ودفع تعويضات. وكرر أنا الوحيد بين الديمقراطيين والجمهوريين الذي هزم ترامب في الانتخابات. «وأعرف ترامب. وترامب مجرم مدان وخاسر». وأكد «أنا باق في سباق الرئاسة ـ وسنفوز»!
كما اتهم بايدن وسائل الإعلام ومعلقين بأنهم يضغطون عليه لينسحب. وأشار لاستطلاعات رأي تؤكد للتعادل بينه وترامب بعد المناظرة الأولى بينهما. كما اتهم الإعلام بالتغاضي عن هفوات ترامب الذي خلط مرة بين منافسته نيكي هيلي ونانسي بلوسي وسجله الإجرامي!
نشهد تزايد التشكيك بمكانة النظامين السياسي والقضائي الأمريكيين، وتُطرح أسئلة مشروعة عن ورطة وانتكاسة وعقم نموذج الديمقراطية الأمريكية التي تحصر الخيار بين مرشحين هرمين: ترامب(78عاما) المستبد المتهور والمتقلب، وهفوات بايدن(81 عاما)المُشكك بكفاءته وقدراته العقلية لقيادة أي منهما أمريكا! لهذا يصعب طمأنة الداخل المشكك، والخارج القلق والمتحفز!