يحظى الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب الآن بتفويض واضح لمدة أربع سنوات وأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب بعد فوزه المفاجئ على كمالا هاريس، وحصوله على أصوات الولايات المتأرجحة السبع كافة. وبحسب معظم المحللين فإن فوز ترمب يعود إلى سببين رئيسين:
أولاً، غضب الناخبين الأمريكيين تجاه سجل بايدن الاقتصادي، خاصة التضخم الذي أدى إلى رفع تكاليف المعيشة بالنسبة للأمريكيين بنسبة 40% تقريباً في خلال السنوات الأربع الماضية. وأكدت حملة الحزب الديمقراطي – على رغم هذا السخط الاقتصادي- على قضايا ثقافية-سياسية مثل الإجهاض والنوع الاجتماعي والفاشية. ونتيجة لذلك، أخفق الحزب الديمقراطي مرة أخرى بالوصول إلى الطبقة الأمريكية العاملة التي فقدت أي أمل بتحقيق أي تقدم اجتماعي-اقتصادي في خلال العقد الماضي.
ثانياً، لم تكن كمالا هاريس المرشحة المناسبة لأنها ترتبط لا محالة بالرئيس بايدن في نظر الناخبين الأمريكيين الذي كانوا يرغبون بالتغيير.
ولم يهدر ترمب أي وقت بعد الانتخابات، إذ سارع إلى اختيار الأشخاص الذين سيحتلون المناصب البارزة في إدارته. ويقف هذا الوضع على طرفي نقيض مع عام 2016 عندما استغرق ترمب وقتاً طويلاً في اختيار المرشحين المحتملين، لينتهي به المطاف بإدارة تمكَّن فيها “الحكماء” من تحقيق توازن مع غرائزه المتقلبة والمندفعة. لكنَّ هذه المرة مختلفة نظراً لأنه لن يكون هناك الكثير من الحكماء في الإدارة. وسيحظى ترمب بحرية أكبر وتفويض أقوى لاتباع سياسة داخلية انتقامية ورجعية. لكنَّ فريق السياسة الخارجية قد يُشَكِّل الاستثناء بفضل اختيار ترمب لشخصيات أكثر جدارة نسبياً، حيث اختار السناتور ماركو ربيو لحقيبة الخارجية، والنائب مايكل والتز لمنصب مستشار الأمن القومي. كما أعلن ترمب عن ترشيح جون راتكليف لشغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية.
لكنَّ المثير للجدل، كان اختيار ترمب مذيع قناة “فوكس نيوز” السابق بيت هيجسيث لتولي حقيبة الدفاع، وتولسي جابارد لشغل منصب مدير الاستخبارات الوطنية. وفي الوقت الذي يعد كلٌّ من روبيو ووالتز وراتكليف من المخضرمين ذوي الخبرة لتولي مناصبهم، إلّا أن اختيار هيجسيث وجابارد أثار الفزع في أوساط مؤسسة الأمن القومي الأمريكية، وشَكَّلَ مؤشراً على أن ترمب يُقَدِّمُ الولاء على الكفاءة. وينطبق الأمر نفسه على سلسلة من اختيارات ترمب الأخرى في مجال السياسة الداخلية مثل اختيار مات جيتز لشغل حقيبة العدل (سَحَبَ جيتز ترشيحه للمنصب)، وروبرت كنيدي الابن لتولي منصب وزير الصحة والخدمات الإنسانية. وتسعى هذه الورقة إلى تقديم معلومات حول أبرز المرشحين الذين اختارهم ترمب في مجال السياسة الخارجية، وتحليل المسار المحتمل للسياسة الخارجية الأمريكية على المدى القصير.
ماركو روبيو، ومايكل والتز
يمتلك السناتور روبيو – وهو ابن مهاجرين من كوبا – عداء موروثاً للشيوعية، وهو العداء الذي جرى إعادة توجيهه نحو الصين. كما أن روبيو من أشد المنتقدين لانتهاكات الصين في مجال حقوق الإنسان، ودعم أقلية الإيجور. وفي حال المصادقة على ترشيحه للمنصب فإنه سيكون أول وزير للخارجية لن يتمكن من زيارة الصين نظراً لوجوده على قائمة العقوبات الصينية.
وكان روبيو قد تحدى ترمب واصطدم معه في خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عام 2026، لكنه أصبح لاحقاً أحد أقوى مؤيدي ترمب من طريق المسارعة إلى تعديل موقفه. كما تخلى روبيو عن آرائه المحافظة والإعلان عن عهد جديد في السياسة الخارجية الأمريكية يستند إلى “المصلحة القومية الجوهرية للولايات المتحدة” بدلاً من “الأوهام المثالية”. لكنَّ روبيو يظل أكثر ميلاً للانخراط العالمي من ترمب حول قضايا تتعلق بالعلاقات بين ضفتي الأطلسي وأوكرانيا. وتبنَّى عام 2023 إلى جانب آخرين مشروع قرار يجعل من الصعب على الرئيس الأمريكي الانسحاب من “حلف شمال الأطلسي” (الناتو). كما أطلق تصريحات مؤيدة لأوكرانيا ضد روسيا على الرغم من تصويته ضد أحدث مشروع قرار لتسليح كييف بحجة ضمان أمن الحدود.
السناتور ماركو ربيو، مرشح ترمب لتولي منصب وزير الخارجية (AFP)
ويُعَدُّ روبيو من الداعمين بقوة لإسرائيل، إضافة إلى تبنيه موقفاً متشدداً ضد إيران. وعبَّر السناتور روبيو بشكل متكرر عن دعمه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خلال الحروب التي شنتها إسرائيل ضد “حماس” في غزة، و”حزب الله” في لبنان، كما اتهم إدارة بايدن بعدم فعل ما يكفي لدعم حليفها، إضافة إلى معارضته وقف إطلاق النار في غزة بقوله “على العكس…أريدُ منهم القضاء على كل عنصر من ‘حماس‘ يقع بين أيديهم. هؤلاء الناس حيوانات شرسة ارتكبوا جرائم فظيعة”. كما انتقد روبيو القرارات التي صدرت عن بعض الحلفاء الغربيين بتعليق أو تقييد صادرات السلاح إلى إسرائيل بسبب المخاوف إزاء انتهاكات محتملة للقانون الإنساني الدولي، بقوله إن هذا يُقوِّض قدرة تل أبيب للدفاع عن نفسها.
ووصف روبيو إيران بأنها نظام “إرهابي”، مُشيراً إلى أن “صعود المحور” الذي تقوده الصين وروسيا وإيران يُشَكِّل أكبر تهديد جيوسياسي للولايات المتحدة. وأضاف في مقابلة تلفزيونية في 7 نوفمبر 2024: “من دون إيران ليس هناك ‘حماس‘. ومن دون إيران ليس هناك ‘حزب الله‘. ومن دون إيران ليس هناك مليشيات شيعية تهاجم الولايات المتحدة من العراق وسوريا”. وقال إن إدارة ترمب ستكون “واضحة وحازمة للغاية” في التعامل مع إيران، متهماً إدارة بايدن بالتعامل مع طهران مثل “الدبلوماسيين البلجيكيين في الأمم المتحدة”.
وفي حال المصادقة على تعيين روبيو فإنه من المرجح أن يكون أكثر عداءً للصين من مايك بومبيو في عهد إدارة ترمب الأولى. ووصف روبيو في مقال له بصحيفة “واشنطن بوست” في سبتمبر 2024 الصين بأنها “أكبر وأكثر الأعداء تقدماً الذين واجهتهم أمريكا على الإطلاق”. وحثَّ روبيو صُنّاع السياسة في واشنطن على منع الصين من “التعتيم” على الولايات المتحدة من طريق الاستثمار بقوة في قطاعات اقتصادية حساسة للأمن القومي، وفرض المزيد من التعريفة الجمركية، واتخاذ إجراءات لمنع “الصين من التجسس وسرقة الملكية الفكرية”. وكان روبيو قد اتهم في الماضي الصين بتمكين روسيا على غزو أوكرانيا في إطار استراتيجية متعمدة تهدف إلى تقويض النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة من جانب “محور موسكو-بيجين”. كما دعم روبيو العديد من مشاريع القوانين التي تسعى للحد من قوة الصين السياسية والاقتصادية.
مايكل والتز، مرشح ترمب لمنصب مستشار الأمن القومي (AFP)
ويعدّ مايكل والتز – مرشح ترمب لمنصب مستشار الأمن القومي – مؤهلاً لشغل هذا المنصب؛ فهو عقيد متقاعد يمتلك خبرة قتالية. وشغل والتز عضوية مجلس النواب الأمريكي منذ عام 2018، حيث تولى عضوية ثلاث لجان مهمة في مجال الأمن القومي في المجلس هي لجنة القوات المسلحة والشؤون الخارجية والاستخبارات. ويتعين على والتز بالرغم من خبرته العسكرية فرض نفسه على كبار الضباط في وزارة الدفاع الذين يتعاملون مع زملائهم حسب الرتبة.
ويُعْرَفُ عن والتز بأنه يضع الصين في مُقَدِّمَة الأولويات على حساب روسيا والشرق الأوسط، حيث قال في مقال مشترك مع الأستاذ في جامعة جورج تاون ماثيو كروينج بمجلة “الإيكونومست”، إن على إدارة ترمب الثانية في حال فوزه أن تضع حداً سريعاً للحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط من أجل تحويل الأصول العسكرية الأمريكية لمواجهة الصين وردعها.
وتبنَّى والتز بادئ الأمر موقفاً متشدداً إزاء الحرب في أوكرانيا، إلّا أن هذا الموقف تطور ليتماشى مع الشكوك التي أبداها ترمب إزاء التدخل الأمريكي في هذه الحرب. ووصف والتز في مقاله فكرة تقديم المساعدة إلى أوكرانيا إلى ما لا نهاية بأنها “وصفة للإخفاق”. لكنَّه أشار إلى أنه في حال رفض الرئيس الروسي بوتين الدخول في مفاوضات فإن بإمكان الولايات المتحدة “تقديم المزيد من السلاح إلى أوكرانيا مع قيود أقل” عما كانت تفرضه إدارة بايدن على كييف. وأضاف إن مثل هذا التصعيد “قد” يجلب بوتين إلى طاولة المساومة.
لكنَّ والتز لا يدعم الانسحاب من “الناتو”، إلّا أنه انتقد أداء الحلف العسكري في أفغانستان في كتابه “الدبلوماسي المحارب: معارك القبعات الخضراء من واشنطن إلى أفغانستان”. وأضاف والتز أن معظم جيوش الدول الأعضاء في “الناتو” شهدت تراجعاً خطيراً حتى الوحدات التي يُفترض أن تكون من قوات النخبة بعد سنوات من النفقات الدفاعية الزهيدة. وقال إن “غياب المعدات مقروناً بغياب العمليات الاستخباراتية المتطورة والتحذيرات الشفوية (الحد من العمليات القتالية) تعني أن أضرار وحدات ‘الناتو‘ كانت أكثر من فوائدها عادة”. كما يتبنى والتز موقفاً متشدداً للغاية إزاء إيران، إضافة إلى أنَّه من الداعمين الأقوياء لإسرائيل، حيث أشار في أكتوبر 2024 عندما رَدَّتْ على الهجمات الإيرانية بأن على تل أبيب مهاجمة جزيرة خرج الإيرانية التي تُعَدُّ أحد المراكز المهمة لصادرات النفط الإيرانية، إضافة إلى المنشآت النووية في نطنز. وتساءل والتز حول إذا ما كانت إدارة بايدن قد ضغطت على إسرائيل “مرة أخرى لفعل أقل مما يتعين عليها فعله”.
جون راتكليف، الذي اختاره ترمب لإدارة وكالة الاستخبارات المركزية (AFP)
وكان جون راتكليف الذي اختاره ترمب لإدارة وكالة الاستخبارات المركزية قد تولى منصب مدير الاستخبارات الوطنية في عهد إدارة ترمب الأولى. وقاد أجهزة الاستخبارات الثمانية عشر في خلال جائحة كورونا في الوقت الذي واجهت فيه الحكومة الأمريكية محاولات خارجية للتدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020. كما شغل راتكليف في الماضي عضوية مجلس النواب الأمريكي، حيث يُعَدُّ من المتشددين تجاه الصين وإيران والداعمين الأقوياء لإسرائيل. ويتولى حالياً الرئاسة المشتركة لـ “مركز الأمن الأمريكي”. واتهم راتكليف في خلال توليه منصب مدير الاستخبارات الوطنية عام 2020 إيران بإرسال رسائل استفزازية عبر البريد الإلكتروني للمواطنين الأمريكيين لتشويه سمعة ترمب وإثارة اضطرابات اجتماعية. كما يُعَدُّ راتكليف ضمن المسؤولين الذين عارضوا خطط إدارة بايدن لإزالة الحرس الجمهوري الإيراني من قائمة التنظيمات الإرهابية. واتهم راتكليف إدارة بايدن بتحويل “أصول استخباراتية أمريكية حيوية بعيداً عن جماعات إرهابية مثل ‘حماس‘، ما أدى في نهاية المطاف إلى الإخفاق في توقُّع أحداث 7 أكتوبر أو إحباطها. واعترف كبار المسؤولين في الإدارة بأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر توقفت بشكل شبه كامل عن التجسس على ‘حماس‘ وجماعات فلسطينية عنيفة أخرى، اعتقاداً منها بأن ‘حماس‘ لا تُشَكِّلَ أي تهديد مباشر للولايات المتحدة”.
باختصار، يمكن عَدّ ماركو روبيو، ومايك والتز، وجون راتكليف ثلاثي ناضج وخيارات عقلانية لقيادة الأجهزة التي رُشِّحوا لها. ومن المرجح أن هؤلاء الثلاثة سيوفرون بعض التوازن والتحدث بوصفهم أصحاب خبرة في مجال أعمالهم. لكنْ مما لا شك فيه أن ترمب سيكون صانع القرار الوحيد مع أن هؤلاء المرشحين الثلاثة قد يعارضون بعض اندفاعات الرئيس. لكنَّ بيت هيجسيث وتولسي جابارد هما من سيجاريان أسوأ غرائز ترمب.
بيت هيجسيث، وتولسي جابارد
رشّح ترمب بيت هيجسيث، لتولّي منصب وزير الدفاع الأمريكي، وهو مُعلّق إخباري في قناة فوكس نيوز، وليس لديه أي خبرة حكومية أو إدارية. كما كان هيجسيث ضابطاً بالحرس الوطني وهو من قدامى المحاربين، حيث خدم في أفغانستان والعراق وفي خليج غوانتانامو بكوبا. وقد ترك هيجسيث الجيش في عام 2021 بعد تهميشه بسبب آرائه السياسية والدينية بعد خسارة ترمب في انتخابات 2020. واعتبره البنتاجون خطراً أمنياً كبيراً في عام 2021، وخطراً على أمن مبنى الكابيتول في خلال حفل تنصيب بايدن، حيث تكشف وشومه أنه يميني قومي مسيحي مُتطرّف. وقد قال هيجسيث في كتابه “الحرب على المُحاربين: ما وراء خيانة الرجال الذين يبقوننا أحراراً”، “كان الشعور مُتبادلًا؛ فما عُدتُ أُريدُ هذا الجيش أيضاً”.
يعتبِر هيجسيث نفسه “مُحارباً ثقافياً”، وقد دعا إلى طرد أي جنرالات يُشاركون في “هراء الووك (اليقظة)” مثل جهود التنوّع والمساواة والإدماج، وقال إن النساء لا ينبغي أن يخدمن في وحدات قتالية. وباستخدام مثل هذه اللغة فإن هيجسيث يتفاخر بترمب الذي قال لشبكة فوكس نيوز إنه سيطرد الجنرالات الذين وصفهم بــــــ” التقدميين”، وهو مصطلح يُطلق على أولئك الذين يُركّزون على العدالة العرقية والاجتماعية، ويستخدمه المُحافظون للانتقاص من السياسات التقدمية. كما يقول هيجسيث في كتابه: “ينبغي على الرئيس المقبل للولايات المتحدة إجراء إصلاح جذري للقيادة العليا في وزارة الدفاع لكي نُصبح مُستعدّين للدفاع عن بلادنا وهزيمة أعدائنا، ويجب كذلك إقالة الكثير من الأشخاص”. كما هاجم هيجسيث رئيس هيئة الأركان المشتركة براون على وجه الخصوص، مُتسائلاً عما إذا كان سيحصل على المنصب لو لم يكن أسود البشرة.
بيت هيجسيث، مُرشَّح ترمب لتولّي منصب وزير الدفاع (AFP)
وبالإضافة إلى المخاوف بشأن افتقار هيجسيث للخبرة في السياسة الخارجية والخلفية الإدارية لقيادة وكالة عملاقة مثل وزارة الدفاع، ثمة أيضاً قلق في البنتاغون من أن يستخدمه ترمب لإقصاء الضباط العسكريين والموظّفين المدنيين الذين يعتبرهم غير مُخلصين له. وقد تكون قضايا الحرب الثقافية، التي يقودها هيجسيث، سبباً في الإقالات. وقد أثار اختيار هيجسيث أيضاً ردَّ فعل فورياً من قادة مجموعة المُحاربين القُدامى الذين عارضوه عندما رُشِّح لمنصب وزير شؤون المحاربين القدامى في خلال فترة ولاية ترمب الأولى. وتولّى هيجسيث في السابق منصب مدير مُنظّمة “قدامى المُحاربين من أجل الحرية”، وكذلك “قدامى المُحاربين المُهتمّين بأمريكا”، وهما مجموعتان صغيرتان من قُدامى المحاربين المؤيدين لترمب تدافعان عن التعاقد مع جهات خارجية لتوفير الرعاية الصحية للمُحاربين القُدامى. وكان هيجسيث مؤيداً مُخلصاً لترمب في خلال فترة ولايته الأولى، حيث دافع عن تعاملاته مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وتبنى أجندته المعروفة بــــــ “أمريكا أولًا”، والمُتمثلة في محاولة سحب القوات الأمريكية من الخارج، وتبنَّى بقوة قضية قُدامى المحاربين المُتّهمين بارتكاب جرائم حرب. ومن المُحتمل أيضاً أن تكشف عملية تثبيته في المنصب عن بعض المشكلات القانونية؛ فهناك بالفعل قضية اعتداء جنسي مُغلقة ضده، وقد فوجئ فريق ترمب بشأنها.
ومن بين الشخصيات الأخرى المُثيرة للجدل التي اختارها ترمب لتنضّم إلى فريقه تولسي جابارد، والتي إذا صُودِقَ على تعيينها فإنها ستقود مديرية الاستخبارات الوطنية، وهي المُنظّمة الجامعة لوكالات التجسّس والاستخبارات الأمريكية الثماني عشرة، بما فيها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. وجابارد هي أيضاً من قُدامى المحاربين العسكريين وعضو ديمقراطي سابق في الكونجرس عن ولاية هاواي، وليس لديها أي خلفية في مجال الاستخبارات. فبعد انفصالها عن الحزب الديمقراطي في عام 2022، سجّلت نفسها مُستقلّة، وانضمّت إلى الحزب الجمهوري في عام 2024 باعتبارها مؤيّدة شرسة لترمب. لقد عُرفت جابارد بدعمها لبشّار الأسد وفلاديمير بوتين. وقد انتقدت التدخّل العسكري الأمريكي في سوريا، ودافعت عن موقف روسيا بشأن التوسّعات السابقة لحلف الناتو، وحثت إدارة بايدن على الدفع باتجاه تسوية سياسية للحرب الروسية-الأوكرانية، وليس تحقيق انتصار لأوكرانيا في هذه الحرب.
تولسي جابارد، مُرشحة ترمب لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية (AFP)
ويُشرِفُ مدير الاستخبارات الوطنية عادةً على جميع أجهزة الاستخبارات الأمريكية، ويُنسّق المعلومات الاستخباراتية التي يتلقّاها الرئيس ومُستشاريه السياسيين. ويُمكن للمرشّحين الأقوياء لترمب مثل جون راتكليف، المرشّح لتولي رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية، أن يضبطوا وكالاتهم ويبعدوها عن السياسة. لكن يؤثّر مدير الاستخبارات الوطنية فيما يطّلع الرئيس عليه كل يوم، وكيف يتم تأطير تلك المعلومات، وما تعرفه الولايات المتحدة عن التهديدات الأمنية حول العالم؛ وبالتالي، ينبغي أن يتولّى هذه الوظيفة شخص نزيه من دون أن يكون لديه أي تحيّزات سياسية واضحة.
وتُشارك جابارد ترمب شكوكه تجاه التدخّل العسكري الأمريكي في الخارج. ولكن في نظر التيار الرئيس في المؤسسة الأمنية الأمريكية، تبرز جابارد بوصفها خياراً مُقلقاً لإدارة الاستخبارات. ومن نواحٍ عدة، تقف جابارد على يسار الأصوات الحمائمية في الحزب الديمقراطي. ومن المُرجّح أن تخضع جابارد للتدقيق في خلال عملية المُصادقة على تعيينها بسبب تعاطفها مع الرواية الروسية بشأن أوكرانيا ولقائها مع بشار الأسد في سوريا، والتي قالت عندئذٍ إن الأسد “ليس عدواً للولايات المتحدة، لأن سوريا لا تُشكّل تهديداً مُباشراً لبلادها”، ودافعت عن لقائها به. وفي عام 2019، أشارت المُرشّحة الديمقراطية السابقة للرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون إلى جابارد على أنها “الشخصية المُفضَّلة لدى الروس” واقترحت، من دون دليل، أن موسكو “تُهيئها” لتكون مُرشّحة رئاسية ثالثة. ورفعت جابارد دعوى تشهير ضد كلينتون بسبب هذه التعليقات، لكنها أسقطتها لاحقاً.
ما التالي بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية؟
لا جدال في أن ترمب يُعير أهمية أكبر للولاء من الكفاءة في اختياره لأعضاء إدارته مثل هيجسيث وجابارد. وتنطبق ديناميات مُماثلة على ترشيحه الأكثر إثارة للجدل لمات غايتس لتولي منصب المُدّعي العام للولايات المتحدة. أما في مجال السياسة الخارجية، فإن أفضل طريقة للتنبؤ بكيفية سير إدارة ترامب الثانية هي التركيز على ترمب نفسه وليس على تعييناته للمناصب الحكومية العليا. ومن المؤكّد أن روبيو ووالتز وراتكليف سيحاولون التأثير عليه، إلاّ أن الطريقة التي تتشكّل بها إدارة ترمب الثانية توضّح نقطة واحدة بجلاء: سيكون ترامب مُنفصلاً عن الواقع، وسيتصرّف وفقاً لغرائزه.
من المُمكن تمييز عدة مدارس في السياسة الخارجية تستند إليها فلسفة حكم ترمب مثل الواقعية أو الانعزالية التجارية أو النزعة الجاكسونية. ومع ذلك، وفي نهاية المطاف، فإن الطريقة الأكثر دقّة لتحليل منهجية ترمب في الحُكم هي التأكيد على طبيعته البراغماتية والانتهازية، إلى جانب هوسه بعقد الصفقات. فبدءاً من التعريفات الجمركية التي يُريد فرضها على الصين بنسبة 60%، إلى الضغوط القصوى التي يُريد فرضها على إيران، أو ادعائه بأنه يستطيع إنهاء الحرب الأوكرانية في يوم واحد، يُمكن للمرء أن يرى تحليل هذه المواقف بطريقتين مُختلفتين: الأولى، هي الأخذ بتلك المواقف والتصريحات حرفياً والاعتقاد بأنها ستُصبح سياسات فعلية في بيئة يكون فيها لترمب مُطلق الحرية في تنفيذ ما يريد. والطريقة الثانية، وربما الأكثر دقة لقراءة هذه المواقف، هي اعتبارها “مُناورات افتتاحية” في عملية تفاوضية يريد ترمب أن تكون له اليد العليا فيها.
مع وصول إيران إلى العتبة النووية وعودة ترمب إلى البيت الأبيض، ثمة مجال لسوء التقدير في طهران (Shutterstock)
وسيعني ذلك عملياً إجراء مُساومات مُكثّفة بحثاً عن أفضل صفقة من ترمب والولايات المتحدة؛ فعلى سبيل المثال، من المُحتمل أن تكون الرسوم الجمركية بنسبة 60% على المُنتجات الصينية هي مناورته الافتتاحية مع الرئيس الصيني شي جينبينغ. وسيستخدم هذا التهديد لتحسين شروط التجارة لصالح أمريكا في أول اجتماع بينهما. وبالمثل، فإن حقيقة أن ترمب يُريد إنهاء الحرب الأوكرانية بسرعة تعني أنه سيضغط على كلٍّ من زيلينسكي وبوتين، بدلاً من إعطاء شيك على بياض لكييف. ومن الواضح تماماً أن ترمب قد تحدّث بالفعل إلى بوتين وطلب منه عدم تصعيد الحرب في أوكرانيا. وستنطبق ديناميات عقد الصفقات الترمبية نفسها على الشرق الأوسط.
وفيما يتعلّق بسياسته تجاه إيران، فهو يُريد أولاً إبراز صورة القوة الأمريكية من طريق العودة إلى ممارسة أقصى قدر من الضغط على عائدات النفط الإيرانية. إلا أن هدفه النهائي سيكون على الأرجح وقف مشروع إيران النووي وبعض أنشطة جماعات الحرب بالوكالة التابعة لها عبر استخدام تخفيف العقوبات وسيلة ضغط. ومن المُحتمل أن إيران تقرأ ترمب بهذه الطريقة وتُريد أن تأتي إلى طاولة المُفاوضات وهي تتمتّع بأقصى قدر من النفوذ في القضية النووية. وهذه استراتيجية محفوفة بالمخاطر بالنسبة لطهران؛ لأنها قد تُرجِّح كفة الميزان لصالح التسلُّح بدلاً من الحفاظ على وضع العتبة النووية، فقط لتحسين القدرة التفاوضية للنظام الإيراني. ومن المُمكن قراءة الاجتماع السرّي، الذي نقلته صحيفة نيويورك تايمز، بين إيلون ماسك وسفير إيران في الأمم المتحدة على أنه مُحاولة أولية لنزع فتيل التوتّر بين واشنطن وطهران.
الاستنتاجات
تُعدّ الأشهر القليلة المقبلة ذات أهمية حاسمة بالنسبة لسياسة ترمب في الشرق الأوسط. فمع وصول إيران الآن إلى العتبة النووية وعودة ترمب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، ثمة مجال لسوء التقدير في طهران. وبما أن ترمب مُصمّم على الضغط على طهران ومنح إسرائيل الدعم الكامل ضد إيران، يُمكن تفسير الوضع بطريقتين مُختلفتين: قد يقول قائل بأننا نقترب أكثر فأكثر من حرب كبيرة حيث ستضطر الولايات المتحدة إلى دعم الضربات الجوية الإسرائيلية ضد المنشآت النووية الإيرانية. وفي المقابل، قد يُشير آخر إلى أن احتمال نشوب حرب هو الذي يخلق فرصة كبيرة لعقد صفقة. وفي الواقع، إن الديناميتين أو التفسيرين لا يُلغي أحدهما الآخر؛ فكلما بدا ترمب أكثر استعداداً لاستخدام القوة العسكرية والإكراه الاقتصادي ضد إيران على حدٍّ سواء، كان يأمل أن تكون شروط المُفاوضات أفضل بالنسبة لواشنطن. وبعبارة أخرى، ينبغي على الولايات المتحدة ألاّ تكون قابلة للتنبؤ ومُستعدِّة لخوض الحرب لتعظيم نفوذها.
وكما هو الحال بالنسبة لكوريا الشمالية، والتي اكتسبت نفوذاً ضد الولايات المتحدة بفضل تجاربها النووية، فإن لدى طهران أيضاً مصلحة في اتباع هذا النموذج لتعظيم قدرتها على المُساومة على أمل تخفيف العقوبات المفروضة عليها وهو أمر ملح بالنسبة إليها، في حال قررت تقديم تنازلات بشأن القضية النووية.