ضمن محاورالسياسة الإقليمية ومقدمات المتغيرات الميدانية في الشرق الأوسط والوطن العربي، انطلقت مجاميع من فصائل مسلحة تمثل هيئة تحرير الشام والجيش الوطني والجبهة الوطنية للتحرير وحركة احرار الشام وجيش العزة من مناطق شمال غرب سوريا ونفذت هجوماً واسعًا على القوات العسكرية السورية والمليشيات الإيرانية المرتبطة بفيلق القدس والحرس الثوري في عملية واسعة أطلقت عليها تسمية (ردع العدوان) ، في فجر يوم 27 تشرين الثاني 2024، وشكلت ضربة وتوجه استباقي اخترقت فيه خطوط التماس بين مقاتليها والقوات المشتركة للنظام السوري والمتحالفة معه من المليشيات في محافظة إدلب، وهي أول مواجهة ميدانية مباشرة منذ الاتفاق التركي الروسي لوقف إطلاق النار في آذار 2020.
ورغم أن المعلن عن أهداف هذه العملية انها تسعى لتوسيع المناطق الآمنة للمواطنين المدنيين، إلا أن رقعة المعارك اتسعت في محور ريف حلب الغربي مما ممكن مقاتلي الفصائل المسلحة من دخول مدينة حلب والسيطرة على غالبية مساحتها واماكن ومواقع الدوائر الحكومية والأمنية والعسكرية، وعززت دورها الاستراتيجي بسيطرتها على بلدة عنجارة بريف حلب، واستحوذت على المعدات والذخائر والاليات العسكرية المهمة عند اقتحامها الفوج 46 والذي يمثل أكبر المواقع العسكرية أهمية لدمشق والذي كانت تستخدمه منطلقًا ميدانيًا في هجماتها على منطقة أداب وضواحيها، والذي شكل نقطة ارتكاز مهمة مقاتلي الفصائل المسلحة في الهيمنة على محور خان العسل وكفرناها ومن ثم قطع الطريق الدولي بين دمشق وحلب.
يمكن تحديد مجموعة من الأسس التي عملت عليها الفصائل المسلحة وهي تتقدم باتجاه توسيع رقعة انتشارها وتمثلت بتطويق ومواجهة المليشيات الإيرانية وكبح جماح تأثيرها عبر المواجهة القتالية المباشرة وضرب الأهداف السياسية والأمنية لمكامن المشروع الإيراني والحفاظ عليه في الميدان السوري.
تمكنت هذه الفصائل
من سيطرتها على بلدة الحاضر الواقعة في ريف حلب الجنوبي، وهي البلدة التي كانت خسرتها في 2015، والتي ظهر فيها قائد فيلق القدس آنذاك قاسم سليماني، ومسؤول حركة النجباء العراقية أكرم الكعبي، وشهدت هذه المنطقة انهيار واسع لخطوط الدفاع التابعة للقوات السورية والمليشيات الإيرانية أمام تقدم مقاتلي الفصائل، وأدت المواجهات الى مقتل القائد الميداني العسكري للمستشارين الإيرانيين في حلب العميد ( كيومرث بور هاشمي)، وتم أسر عدد من مقاتلي الميليشيات والاستيلاء على أسلحة وذخائر من دبابات ( تي 72).
ثم مهاجمة الموقع الاستراتيجي الآخر للنظام الإيراني في منطقة ( خان طومان) والتي استخدمتها اذرع إيران في تأمين وخزن ترسانتها العسكرية منذ عام 2020،وبسط نفوذها على مناطق مهمة في ريفي حلب الغربي والجنوبي والتي كانت تحت سيطرة وإدارة حركة النجباء العراقية والتي أمينها العام اكرم الكعبي، والتي كانت تحظى باهتمام حزب الله اللبناني وميليشيات فاطميون وزينبيون التابعة للحرس الثوري الإيراني، الأمر الذي آثار حفيظة أبو آلاء الولائي من محاولات مشابهة لتوسعة رقعة الأحداث، بقوله (يجب العمل بكل الوسائل لتجفيف منابع نشوئها).
شكلت عملية انهيار مقاتلي المليشيات الإيرانية امتداد لانهيار عناصر حزب الله في الضاحية الجنوبية من لبنان، وفقدت قدرتها على مواصلة القتال الحفاظ على مواقعها، وهي المرة الأولى التي تتغير فيها مساحة الأرض الممتدة من شمال غرب سوريا منذ سنة 2020.
وأمام هذه المعطيات الميدانية والمتغيرات العسكرية، تتضح العديد من الأسئلة والتي تحتاج لأجوبة دقيقة وواضحة ومعايير لأهداف معلنة.
أن ما حدث خلال الأيام الماضية يشكل منعطفًا سياسيًا تعيشه المنطقة وانطلقت منه نحو أحداث تأثيرات مستقبلية سيكون لها وقعها الميداني على كيفية التعامل والحفاظ على المصالح والأهداف الدولية والإقليمية وموقف الدول المجاورة لسوريا منها.
المنظور الأهم من هذه المتغير هو الجانب العسكري والأمني الذي استهدف الوجود المليشياوي الإيراني ومواقع وتحصينات الحرس الثوري وقياداته، وهو امتداد لمواجهة وتفكيك أدوات ووسائل وكلاء واذرع النظام الإيراني في المشرق العربي، بعد المواجهات في الجنوب اللبناني وضرب معاقل حزب الله الذي يعتبر ( درة التاج الإيراني)، واستغلال الفرصة الميدانية التي أدت إلى تخلي الكثير من مقاتلي حزب الله عن مواقعهم في الميدان السوري والالتحاق للقتال مع أقرانهم في الجنوب اللبناني، ثم ضعف قواعد الاشتباك المتبادل في الأرض السورية.
أن الذي نراه هو استمرار تقدم مقاتلي الفصائل المسلحة نحو أهدافها في توسيع رقعة استعادتها لمناطق قريبة كمدينة رئيسية تشكل العصب الرئيسي للاقتصاد السوري وهي مدينة (حلب) وتوابعها.
و نلاحظ ان الروس لم يكونوا بنفس الموقف لمواجهة الأحداث الميدانية التي جرت في السنين التي تلت تدخلهم في الشأن السوري منذ ايلول 2015، واكتفى بيان القوات المسلحة الروسية وحكومتها بادانة العمل العسكري والطلب من الجيش السوري معالجة الأوضاع والسيطرة عليها، وهو موقف يتناغم مع السياسة الروسية تجاه إيران في الآونة الأخيرة ومحاولة تحجيم دورها في سوريا، وممارسة التأثير السياسي على الحكومة السورية بالتقريب نحو الجهد العربي والابتعاد تدريجيـًا عن المؤثر الإيراني، ويعمل الروس على رسم ملامح العلاقة المستقبلية مع الولايات المتحدة الأمريكية وجعل من أولوياتها الساحة السورية عند مناقشة أي أزمة تعيشها منطقة الشرق الأوسط وجعلها في حالة موازية لأي ضغوط أمريكية متوقعة من الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب في موضوع الحرب الروسية الأوكرانية.
والأهم في هذه المناورة العسكرية هي الموقف التركي الذي يرتبط بعلاقة متينة مع اهم طرف في المعادلة العسكرية للفصائل المسلحة وهي ( هيئة تحرير الشام والجيش الحر)، المؤكد أنهما لم يقوما بهذا العمل دون أستشارة الأتراك ووفق معايير ومصالح دولية تعمل أنقرة على الاهتمام بها ومراعتها تتصل بالعلاقة مع الروس ومضامين الاتفاق المشترك بين الأطراف الثلاث ( روسيا وإيران وتركيا) عند التوقيع على اتفاقية استانا، ولكن الموقف التركي اخذ ابعادًا سياسية مؤخرًا بعد الرفض الإيراني والممانعة التي ادتها طهران من المساعي الروسية لإعادة العلاقات بين سوريا وتركيا، وهو الموقف الذي أثار الاتراك ووضع في حساباتهم موجبات المشروع الإيراني وامتداداته وتمسك الإيرانيين به على حساب شراكائهم في الميدان السوري، لهذا سيكون هناك دعم غير مباشر من قبل الأتراك لتحرك الفصائل المسلحة وتقدمها وسيطرتها على المدن السورية ومواجهتها للاذرع الإيرانية، وستبتعد هذه الفصائل عن الدخول ضمن المناطق التي تحظى بسيطرة ونفوذ الأتراك في الشمال والشمال الشرقي من الأراضي السورية.
أصبح وجود القوات الامريكية وعدم انسحابها من الأراضي السورية، حالة تمثل حماية المصالح الأمريكية والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين في منطقة الشرق الأوسط ومنع أي تهديدات لفصائل وتيارات مسلحة، ومنها ما يحدث الان على الساحة السورية، وهي إحدى المهام التي سيواجهها الرئيس ترامب.
تبقى الوجهة الرئيسية والمعيار المهم في هذه الأيام والى أين تتجه الأوضاع في سوريا، محل اهتمام ومتابعة دقيقة لاحداث متسارعة ومواقف متباينة..
ولكن يبقى العنوان
مواجهة الوجود والنفوذ الإيراني واجهاض وتطويق مهامه عبر وكلائه وشركائه في المنطقة.
وحدة الدراسات الإقليمية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية