الباحثة شذى خليل*
أكملت العراق مؤخرًا أول تعداد سكاني شامل لها منذ عام 1987، مما يمثل نقطة تحول هامة في تاريخ البلاد. وكشفت نتائج التعداد، التي أعلنها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، عن أن عدد سكان العراق قد بلغ 45.4 مليون نسمة، بما في ذلك المواطنين والمقيمين الأجانب واللاجئين. كما سلط التعداد الضوء على بعض الاتجاهات السكانية الرئيسية التي قد تؤثر بشكل كبير على التخطيط الاقتصادي للبلاد ونموها المستقبلي.
يستعرض هذا المقال الآثار الاقتصادية للأرقام السكانية الجديدة، والتحديات التي تم مواجهتها أثناء إجراء التعداد، والتأثيرات المحتملة لهذه النتائج على تطور العراق في المستقبل.
النتائج الرئيسية للتعداد والتحولات الديموغرافية
توفر نتائج التعداد لعام 2024 معلومات غنية عن السكان في العراق. من أبرز هذه النتائج أن 60.2% من السكان ينتمون إلى فئة العمر القادر على العمل (15-64 سنة)، مما يشير إلى أن العراق دخل مرحلة “المرحلة الديموغرافية” أو “الهدية الديموغرافية”، وهي مرحلة يتفوق فيها عدد السكان في سن العمل على عدد السكان المعتمدين مثل الأطفال وكبار السن. وفقًا للأمم المتحدة، تمثل هذه المرحلة فرصة فريدة للنمو الاقتصادي، حيث أن وجود عدد أكبر من الأفراد في سن العمل يعني أن هناك إمكانيات كبيرة للاستثمار في القوى العاملة.
وكشف التعداد أيضًا أن 36.1% من السكان هم دون سن الـ 15 عامًا، مما يعكس أن البلاد تتمتع بشعب شاب. وهذه التغيرات السكانية توفر فرصًا وتحديات على حد سواء لمستقبل العراق الاقتصادي. من جهة، يمكن أن يؤدي هذا العدد الكبير من الشباب إلى تحفيز النمو الاقتصادي عبر توسيع القوى العاملة، ولكن من جهة أخرى، فإنه يفرض ضغطًا إضافيًا على الأنظمة التعليمية والصحية في البلاد. للاستفادة من هذه “الهدية الديموغرافية”، سيكون على العراق أن يستثمر بشكل كبير في تطوير رأس المال البشري، من خلال توفير التعليم الجيد، التدريب المهني، والرعاية الصحية.
علاوة على ذلك، أشار التعداد إلى أن حجم الأسرة في العراق متوسطه 5.3 أفراد، ما يعكس الهيكل العائلي الكبير والممتد. وهذه السمة السكانية تعني أن السياسات الاجتماعية في العراق يجب أن تأخذ في اعتبارها احتياجات الأسرة الممتدة، وهو ما قد يؤثر على السياسات المتعلقة بالإسكان، والخدمات الاجتماعية، والمشاركة في سوق العمل.
أهمية نمو السكان للتخطيط الاقتصادي
نمت كثافة سكان العراق بشكل كبير منذ التعداد الأخير في عام 1987، عندما كان عدد السكان حوالي 18 مليون نسمة. هذا النمو السكاني الكبير، الذي سجل معدل نمو سنوي قدره 2.3%، يُعزى جزئيًا إلى التغيرات في أنماط الخصوبة والتحولات الديموغرافية التي حدثت خلال العقود الماضية. وقال محمد تميم وزير التخطيط ان التعداد يوفر هذا النمو السكاني فرصة لتوظيف الموارد البشرية في البلاد، فإنه أيضًا يفرض تحديات كبيرة تتعلق بإدارة الموارد، وتطوير البنية التحتية، وتوفير الخدمات الاجتماعية.
مع استمرار نمو السكان، سيزداد الطلب على الوظائف، والإسكان، والتعليم، والرعاية الصحية. سيتعين على الاقتصاد أن يولد عددًا كافيًا من الوظائف لاستيعاب هذه القوى العاملة المتزايدة، وهو ما يتطلب استثمارًا كبيرًا في العديد من القطاعات مثل التعليم، والتكنولوجيا، والصناعة، والزراعة. علاوة على ذلك، فإن زيادة الطلب على الخدمات العامة والبنية التحتية قد يضغط على الميزانية الحالية للعراق، التي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط، مما يجعل التنويع الاقتصادي والتنمية المستدامة أكثر أهمية من أي وقت مضى.
الآثار الاقتصادية لتوزيع السكان
يُظهر توزيع السكان حسب الجنس في العراق تقريبًا توازنًا بين الذكور والإناث، حيث يشكل الذكور 50.1% من السكان بينما تشكل الإناث 49.8%. وبينما يعد هذا التوزيع متوازنًا، فقد أدت الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية في العراق إلى تباينات بين الرجال والنساء في فرص التعليم، والعمل، والتمثيل السياسي. قد تحفز نتائج التعداد هذه على تركيز أكبر على المساواة بين الجنسين، لضمان أن يتمكن كل من الرجال والنساء من المشاركة بشكل متساوٍ في النمو الاقتصادي للبلاد. ويمكن أن تساهم السياسات التي تهدف إلى تمكين المرأة في سوق العمل والسياسة في تعظيم إمكانيات النمو الاقتصادي في العراق.
كما يظهر التعداد أهمية منطقة كردستان، التي بلغ عدد سكانها في البيانات الأولية أكثر من 6.3 مليون نسمة. تتمتع هذه المنطقة بحكم ذاتي منذ عام 1991، وقد تم استبعادها في التعدادات السابقة. إن تضمين سكان كردستان في التعداد لهذا العام أمر مهم لأنه سيساعد في ضمان تمثيل أكثر دقة لعدد السكان في الميزانية المستقبلية وتوزيع المقاعد البرلمانية.
معالجة تحديات ما بعد الصراع
يأتي نمو سكان العراق والتحولات الديموغرافية في وقت يتعافى فيه البلد من عقود من النزاعات، وعدم الاستقرار السياسي، والتحديات الاقتصادية. فقد أثرت فترة ما بعد غزو العراق عام 2003، والحرب الطائفية، وصعود تنظيم داعش بشكل كبير على توزيع السكان في العراق. خلال فترة احتلال داعش، تم تهجير العديد من العراقيين، سواء داخل البلاد أو خارجها. توفر نتائج التعداد بيانات مهمة تساعد في تقييم مدى النزوح السكاني، وقد تساعد صانعي السياسات في تصميم استراتيجيات أفضل لإعادة توطين السكان النازحين ودمجهم في المجتمع.
كما يسلط التعداد الضوء على الحاجة الملحة للتنوع الاقتصادي، إذ أن الاعتماد الكبير على النفط في الاقتصاد العراقي يعرضه لتقلبات مستمرة. قد يضغط النمو السكاني على قدرة القطاع النفطي على تلبية احتياجات البلاد، مما يستدعي من العراق البحث عن مصادر إيرادات بديلة، مثل تطوير قطاعات الصناعة، والزراعة، والخدمات، فضلاً عن تعزيز نمو القطاع الخاص.
التوقعات الاقتصادية على المدى الطويل والتوصيات السياسية
على المدى الطويل، يمكن أن توفر التحولات الديموغرافية التي كشف عنها التعداد لعام 2024 فرصة كبيرة لنمو اقتصادي مستدام. ومع ذلك، فإن الاستفادة من هذه الفرصة يتوقف على عدة عوامل حاسمة:
التعليم وتطوير القوى العاملة: يمكن أن يكون الشباب العراقي أحد الأصول الكبيرة، لكن هذا سيتحقق فقط إذا استثمرت البلاد في التعليم الجيد، والتدريب المهني، وخلق فرص العمل لتجهيز قوى العمل للمشاركة الفاعلة في السوق.
الاستثمار في البنية التحتية: سيحتاج عدد السكان المتزايد إلى استثمارات كبيرة في الإسكان، والرعاية الصحية، والنقل، والبنية التحتية الأخرى. يتطلب ذلك تنسيقًا بين القطاعين العام والخاص لضمان قدرة العراق على مواكبة نمو سكانه.
تنويع الاقتصاد: مع زيادة النمو السكاني، يجب أن يعزز العراق جهود تنويع اقتصاده لتقليل اعتماده على عائدات النفط. يمكن أن تساهم الصناعات مثل الطاقة المتجددة، والسياحة، والتكنولوجيا في خلق فرص عمل جديدة وضمان استقرار الاقتصاد على المدى الطويل.
شبكات الأمان الاجتماعي: يشير العدد الكبير من الأطفال والفئات السكانية المعتمدة إلى ضرورة تطوير شبكات أمان اجتماعي شاملة، لا سيما في مجالات الرعاية الصحية، والتعليم، ودعم الأسر.
المساواة بين الجنسين: بما أن السكان في العراق موزعون بالتساوي تقريبًا بين الذكور والإناث، فإن معالجة التفاوتات في التعليم والعمل بين الجنسين ستكون أساسية لتحقيق أقصى استفادة من الإمكانيات البشرية للبلاد.
يقدم تعداد 2024 للسكان في العراق لمحة قيمة عن الوضع السكاني الحالي في البلاد، مع تسليط الضوء على الفرص والتحديات في المستقبل. بينما يدخل العراق مرحلة من الهدية الديموغرافية التي توفر فرصًا للنمو الاقتصادي، فإن الاستفادة من هذه الفرصة تتطلب استثمارات كبيرة في رأس المال البشري، والبنية التحتية، وتنويع الاقتصاد. إذا تمكنت البلاد من تلبية احتياجات سكانها المتزايدين بشكل فعال، فقد تكون هذه البيانات أساسية لتوجيه سياسات العراق واستراتيجيات التنمية على المدى الطويل.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية