بدأت الأحداث تتفاعل بشكل واسع في الميدان السوري وأخذت ابعادًا مختلفة بسبب الصراعات السياسية التي إتسم بها المشهد العام السوري، وكانت للقوى الدولية والإقليمية تأثيرًا واضحًا على انسيابية وتمدد هذه النزاعات بين جميع الأطراف والتيارات السياسية بحكم ما انتهى إليه الوضع السوري بهروب بشار الأسد وتمكن هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها من دخول العاصمة (دمشق) وباقي المدن الرئيسية وبسط هيمنتها ونفوذها والشروع بالإعلان عن تشكيل الحكومة الانتقالية وتعزيز دور جميع أطياف المجتمع السوري في عملية الإصلاح والإعمار وإعادة ترتيب أوضاع البلاد.
ومن الأمور التي كانت لها وقعها في عملية الاعداد السياسي وتموضع الاحزاب السورية وكيفية إدارتها لأماكن تواجدها وهيمنتها، ما حصل من مواجهات مباشرة بين مقاتلي الجيش السوري الحر وقوات سوريا الديمقراطية في الشمال والشمال الشرقي من الأراضي السورية والذي انتهى إلى انسحاب قوات (قسد) من مدينة (منبج) الاستراتيجية ومحافظة دير الزور وتمكن الفصيل الموالي للحكومة التركية من الجيش الحر من إعادة انتشاره وسيطرته على المواقع والمؤسسات المدنية والعسكرية والمطارات المدنية والعسكرية، وهو ما أصاب قوات (قسد) بحالة من التراجع وانحصار تأثيرهم الميداني على الأحداث.
سعت القيادة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية إلى اتباع اسلوب الحوار والتفاوض مع هيئة تحرير الشام ومعرفة حقيقة المواقف التي أطلقها المسؤولين فيها حول التمسك بوحدة الأراضي السورية واحترام إرادة أبناء البلد على اختلاف اطيافهم والتعاون مع الجميع في تحقيق أمالهم وأهدافها التي سعوا إليها بمواجهتهم للنظام السياسي السابق.
وجاء تصريح قائد إدارة العمليات أحمد الشرع بأن ( الشعب الكردي في سوريا جزء من الوطن وشريك في سوريا المستقبل) ليلقي بظلاله على الفهم العميق والدلالة الواضحة على الموقف الثابت من القوميات والأقليات في سوريا وهذا ما ساهم في اطمئنان (قسد) وباقي القيادات الكردية التي اشادت بالموقف السياسي لهيئة تحرير الشام، وأعطى البيان الختامي لاجتماع العقبة في المملكة الأردنية الهاشمية الذي عقد في 14 كانون الأول 2024 والذي
حضره أعضاء لجنة الاتصال الوزارية العربية التي تضم (الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر) ، وأمين عام جامعة الدول العربية، بحضور وزراء خارجية قطر والإمارات والبحرين، وتركيا.
وشارك أيضا في الاجتماعات دول أعضاء في المجموعة المصغرة حول سوريا (ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة) بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممي لسوريا، موقفًا دوليًا عربيًا في احترام حقوق أبناء الشعب السوري بجميع مكوناته دون أي تمييز، وأشاد بهذا الموقف (مظلوم عبدي) قائد قوات سوريا الديمقراطية وثمن الدور العربي الفعال الساعي لاخراج سوريا إلى بر الأمان.
الجانب السياسي المهم الذي يتمثل في الموقف الميداني أن (قسد) تتمتع بعلاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذا الواقع يفرض على واشنطن وأنقرة استحقاقات ومواقف سياسية وأمنية في مواقع مهمة تسيطر عليه (قسد) في شرق الفرات، فالرؤية الأمريكية تذهب إلى اعتمادها شريك رئيسي في مواجهة (داعش) وإما الاعتبارات الأمنية التركية فإنها ترى فيها تهديد لامنها القومي بحكم ارتباطاتها مع حزب العمال التركي وتوجيهاتهما نحوالقيام بعمليات تعرضية على المؤسسات الحكومية الاستخبارية داخل العمق التركي،ورغم ما ذهب إليه ( هاكان فيدان) وزير الخارجية التركي من اعتماد الهدف الرئيسي لبلاده في إنهاء وجود وحدات الشعب الكردية، عبر حل نفسها أو استعدادها لمواجهة عسكرية تقضي على وجودها، إلا أن هناك رؤية استراتيجية لعلاقات متوازنة بين تركيا وأمريكا رغم الخلاف السياسي والعسكري حول مدى النفوذ التركي في سوريا.
أدت هذه المواقف الى مخاوف عديدة لقوات سوريا الديمقراطية وتحديات جديدة ضاعفت من أزمتها السياسية والعسكرية بعد انسحاب القوات الروسية من مواقعها وقواعدها في الشمال السوري في مدينتي (منبج وكوباني) واستمرار الهجمات التركية على (قسد) من قبل قوات الجيش السوري الحر وبدعم من الأتراك، ومن المؤمل ان تكتمل عمليات الانسحاب الروسي من قاعدة القامشلي والتي تلقى اهتمامًا من قبل هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة العاملة مع الجيش التركي .
وتحاول القيادة العسكرية لقوات سوريا الحفاظ على قوتها واماكن تواجدها في شمال شرقي سوريا لمواجهة التهديدات التي بدأت تتلقاها من قبل أبناء العشائر العربية في دير الزور والرقة والطلب إليها مغادرة مناطقها وتلاشي حالة التوافق بينهم،وإمكانية تجدد الاشتباكات بينهم في أي لحظة وحسب المتغيرات الميدانية والمواقف السياسية، وهي الحالة التي تخشاها القوات الامريكية من اندلاع القتال بين القوات الموالية للاتراك ومقاتلي (قسد) وخطورة الأوضاع الأمنية التي من الممكن أن تحدث في الميدان وتؤدي إلى ضعف السيطرة على مخيم الهول وعدد من السجون التي تضم الآلآف من مقاتلي ومؤيديه داعش، ومن ثم القيام بمواجهات جانبية عرقية تهدد الأمن والاستقرار في ظل التطورات التي حصلت في المشهد السوري.
وقد انتبهت هيئة تحرير الشام لطبيعة التطور الحاصل في مناطق شرق الفرات وأكدت أهدافها في التمسك بوحدة التراب السوري ولكن الخشية من استمرار فصائل الجيش الحر في استهداف مقاتلي (قسد)، ولهذا فإن الرأي السائد الان والذي تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية هو العمل على تشكيل حكومة سورية متعددة الأطراف من هيئة تحرير الشام والجيش السوري الحر وقوات سوريا الديمقراطية، واذا ما تحققت الرغبة الأمريكية حول تشكيل هذه الحكومة فان واشنطن ستذهب إلى عملية رفع صفة الإرهاب عن هيئة تحرير الشام، وتحصين المجتمع السوري من أي عمليات انتقامية وعرقية قد تقدم عليها فصائل مسلحة وتيارات سياسية، بعد المعلومات التي أشارت إلى قيام مقاتلي الجيش الحر المدعوم من الأتراك باعدام عدد من أفراد قوات سوريا ونهب دورهم .
وتبقى الرؤية السياسية التركية قائمة ضمن إطار العلاقة الاستراتيجية مع الإدارة الأميركية القادمة والتي يعتقد الأتراك أنها ستقدم على تقليص عديد قواتها في سوريا، مع احتفاظ الاتراك بدور أمني مهم بحكم مقدرتهم وعلاقتهم مع أطراف المعارضة السورية وتمتلك أدوات التأثير والفعالية بعد سقوط النظام السوري ولكنها في الوقت نفسه لا يمكن لها أن تضحي بأمنها القومي في مواجهة قوات (قسد) لحساب علاقتها مع واشنطن، وقد تسعى الإدارة الأميركية على وضع آليات حول علاقتها مع (قسد) إذا ما أعطت القيادة التركية مواقف ميدانية فاعلة في التصدي إلى داعش ومنع حركتها وفعالية عملها في سوريا والتعاون المشترك لتشجيع قيام نظام سياسي عملي وبخطوات فاعلة لإعادة بناء المجتمع السوري بعد معاناة طويلة من الحروب والنزاعات العسكرية والخلافات السياسية، بعد التوجهات التي هدد بها مقاتلي داعش بالعمل على توسيع
مدارات ومساحات سيطرتهم على البادية والتقدم نحو المناطق التي تقع تحت سيطرة (قسد) لإطلاق سواح مقاتليهم.
أمام هذه الوقائع الميدانية والصراعات التي إن استمرت فستخدم الإيرانيين وتجعلهم يفكرون بإعادة مستوى تأثيرهم مرة اخرى وتدخلهم في الميدان السوري واستغلال الخلافات المستمرة بين (قسد) والجيش الحر، عبر اختيار الوسائل وتحديد الأهداف التي تساهم في إعادة هيكلية المشروع السياسي، ومنها القيادات العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية التي سبق وان تعاونت مع عدد من المليشيات والفصائل المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني في مواجهة مقاتلي داعش،
وستعمل إيران على
احداث خروقات أمنية ونزاعات عسكرية في الميدان السوري عبر التعاون مع (قسد) ودعم مواجهتهم لمقاتلي الجيش السوري الحر وأيقاف حركتهم وسيطرتهم على المناطق القريبه من الحدود العراقية السورية ومحاولة اشغال قيادة العمليات العسكرية بمعارك جانبية قد تؤثر على سياستهم في البناء والإصلاح نحو مجتمع سوري متماسك يحتوي جميع الأطراف.
وحدة الدراسات الإقليمية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة