لماذا يحظى الذهب بشعبية كبيرة الآن؟

لماذا يحظى الذهب بشعبية كبيرة الآن؟

الباحثة شذا خليل*
لطالما احتل الذهب مكانة خاصة في الاقتصاد العالمي. فإلى جانب دوره التاريخي كعملة، أصبح اليوم أداة استراتيجية للتحوّط ضد عدم اليقين، والتضخم، واضطراب العملات. تشهد أسعار الذهب ارتفاعًا حادًا مدفوعة بالتوترات الجيوسياسية، وتحوّلات السياسات النقدية، وتراجع الثقة بالمؤسسات المالية التقليدية. لفهم سبب توجه المستثمرين نحو الذهب، علينا النظر عن قرب إلى الأسواق العالمية، ديناميكيات العملات، وعلم نفس المستثمرين.

الذهب كأصل آمن

في أوقات الاضطراب الاقتصادي، يبحث المستثمرون عن أصول تحافظ على قيمتها. يتميز الذهب بكونه ملموسًا، نادرًا، وأقل عرضة للتلاعب السياسي أو المؤسسي مقارنة بالعملات الورقية. النزاعات الأخيرة في أوكرانيا وغزة، إلى جانب الاضطرابات التجارية الناتجة عن الرسوم الجمركية الأميركية، زادت من حالة عدم اليقين العالمية. هذا المناخ دفع المستثمرين لتفضيل الاستقرار، ليعود الذهب مجددًا كأصل ملاذ آمن.

العامل الأميركي: الدولار وأسعار الفائدة

يُسعّر الذهب بالدولار الأميركي، ما يخلق علاقة عكسية بين الاثنين. عندما يضعف الدولار، يصبح الذهب أرخص للمستثمرين الأجانب، فترتفع مستويات الطلب. سياسات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب التجارية وانتقاداته للاحتياطي الفيدرالي أسهمت في تقلب الدولار. كما أن الدعوات لخفض أسعار الفائدة عززت الطلب على الذهب، لأن انخفاض العوائد على المدخرات والسندات يجعل الذهب (الذي لا يدر فائدة) أكثر جاذبية نسبيًا.

في الوقت نفسه، فإن التشكيك في استقلالية الاحتياطي الفيدرالي ومستقبل السياسة النقدية يزيد من ضعف الثقة في الأصول المقوّمة بالدولار. لذلك، بات الذهب خيارًا مثاليًا للأفراد والمؤسسات للتنويع وتقليل المخاطر.

الدوافع الدولية للطلب

ارتفاع الطلب على الذهب ليس مقصورًا على الولايات المتحدة. ففي المملكة المتحدة واليابان، أدت ضعف العملات المحلية إلى زيادة المخاوف من التضخم، ما جعل الذهب وسيلة جذابة للتحوط. بلدان مثل تركيا ومصر تواجه أيضًا تقلبات في أسعار الصرف، مما يدفع الأسر والمؤسسات لاقتناء الذهب كملاذ للقيمة.

أما الحكومات الأجنبية، خاصة تلك المتوجسة من السياسات التجارية الأميركية، فقد بدأت بإعادة توجيه احتياطاتها من سندات الخزانة الأميركية نحو الذهب. بهذه الطريقة، تقلل اعتمادها على أسواق الدين الأميركية وتؤمّن ثرواتها ضد المخاطر السياسية والمالية.

كيف يستثمر الناس في الذهب؟

هناك طريقتان رئيسيتان:

الذهب المادي (سبائك، عملات، مجوهرات): يفضله المستثمرون الأفراد الذين يقدّرون الملكية المباشرة والأمان.

المنتجات المالية (الصناديق المتداولة والعقود الآجلة): يفضلها المستثمرون الكبار والمؤسسات بسبب السيولة وسهولة التعامل وعدم الحاجة للتخزين.

هاتان الطريقتان تعكسان الدور المزدوج للذهب كأصل مادي تقليدي وأداة مالية حديثة.

التحليل الاقتصادي والتوقعات

يشير الارتفاع الكبير في الطلب على الذهب إلى ثلاثة اتجاهات اقتصادية رئيسية:

تراجع الثقة بالمؤسسات: التدخل السياسي في السياسة النقدية يضعف الإيمان بالبنوك المركزية.

التوترات الجيوسياسية العالمية: الحروب والصراعات التجارية تخلق مناخًا من عدم اليقين يعزز من جاذبية الذهب.

مخاطر تراجع العملات: الأفراد والحكومات يتجهون للذهب عندما تضعف العملات الورقية.

مستقبلاً، سيتوقف مسار الذهب على قرارات البنوك المركزية، والصراعات العالمية، واتجاهات السياسة التجارية الأميركية. فإذا استمرت أسعار الفائدة منخفضة وحالة عدم اليقين قائمة، من المرجح أن يواصل الذهب صعوده. أما إذا استعاد الدولار قوته أو هدأت التوترات العالمية، فقد يتراجع الطلب.

الخاتمة

إن شعبية الذهب المتجددة لا تعود فقط إلى المضاربة السعرية، بل تعكس قلقًا أعمق بشأن التضخم، الحروب التجارية، وفقدان الثقة بالمؤسسات. ففي عالم يمكن أن تنهار فيه العملات بين ليلة وضحاها، وتغيّر فيه القرارات السياسية مسار الأسواق العالمية، يبقى الذهب كما كان دائمًا: وسيلة للتحوّط ضد المخاطر ومخزنًا موثوقًا للقيمة.

وحدة الدراسات الا قتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية