ما إن أعلنت اليابان استسلامها غير المشروط للولايات المتحدة الأمريكية بعد الكارثتين الإنسانيتين التي لحقت بها جراء قصفها بالقنبلتين النوويتين الأمريكيتين، حتى دخلت تحت الوصاية الأمريكية التي فرضت عليها تغييرًا شاملاً لأوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية، شمل وضع دستورًا جديدًا حدد شكل النظام السياسي والاقتصادي، حل الجيش، انتزاع الأراضي التي كان يسيطر عليها في شرق أسيا، وفرض الفلسفة الليبرالية على مجمل جوانب الحياة السياسية والفكرية والاقتصادية، مع ذلك احتفظ الشعب الياباني بقيمه الأخلاقية وثقافته الاجتماعية، فكانت سلاحه الوحيد للتغلب على شعوره بالهزيمة واستعادة حضوره بين دول العالم المتقدم عبر جيل واحد من الزمن.
لقد تمكن اليابانيون من التكيف مع النظام الرأسمالي كمؤسسات دون أن يسمحوا لفلسفته الفردية أن تهيمن على واقعهم الثقافي والاجتماعي وقيمهم الأخلاقية، فاحتفظوا بولائهم العالي لقوميتهم، وتمسكهم بقيم العمل الجماعي في التربية والتعليم والإدارة والتنظيم، حتى باتوا يتعاملون مع الشركات والمؤسسات التي يعملون فيها كما يتعاملون مع أسرهم، ويتعاملون مع مدرائهم كما يتعاملون مع آبائهم، لقد أدركوا خطأ النهج الذي سار عليه قادتهم والذي انتهى بهم إلى الهزيمة والاحتلال، وأدركوا حاجتهم لمساعدة محتليهم حد الإذعان والانقياد التام كي يتجاوزوا محنتهم، لكنهم ظلوا مؤمنين بهويتهم وثقافتهم ومعاييرهم القيمية والأخلاقية، بل زاد إيمانهم بها، فهي من سينقذهم ويميزهم في النهاية.
لقد عُرف اليابانيون بارتباط الفرد القوي بأسرته منذ طفولته وحتى بلوغه سن الشيخوخة، خلافًا للثقافة الغربية التي كانت تركز على تعزيز استقلالية الفرد منذ طفولته، هذا الارتباط الذي يتحول لدى الفرد إلى شعور بالحاجة الدائمة لوجود بيئة حاضنة، ينتقل معه إلى مدرسته وجامعته وشركته ومؤسسته، فهو يبحث عن جماعة تشبع حاجته إلى الأسرة وتجعله جزءًا فاعلاً فيها بحيث يتحقق نجاحه بنجاحها.
هذه الثقافة المتوارثة بقيت بل تعمقت بعد خسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية، وكان لها فعلها السحري على الصعيد الاقتصادي، إذ حققت اليابان في غضون بضعة عقود ما اُعتبر معجزة على صعيد النمو الاقتصادي؛ فبعد أن كان الفرق بين متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي في اليابان ومتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي في الولايات المتحدة 119% سنة 1960، أصبح هذا الفرق 1% فقط سنة 1991، مع توزيع أفضل للدخول ومعدلات بطالة أقل كثيرًا مما في الولايات المتحدة الأمريكية، علمًا أن اليابان هي من أفقر بلدان العالم في مواردها الطبيعية.
لقد حرص اليابانيون على التعايش مع قلة الموارد وضيق المساحات الصالحة للسكن والزراعة، وذلك من خلال العمل على: أولاً تعميق القيم الخلقية التي تجنبهم الاحتكاك والتصادم، حتى باتوا من أكثر الشعوب دماثة في الخلق، وإتقانًا لفنون المجاملة، واحترامًا لبعضهم البعض، ثانيًا الاقتصاد الشديد في استخدام الموارد بما في ذلك الأرض وقد اشتهروا بالهندسة الموفرة للمساحة.
هذا النهج في التمسك بالعمل مع الجماعة من جهة، والاستخدام الكفء للموارد المحدودة ساهم بشكل فاعل في رفع إنتاجية الفرد بشكل كبير حتى بلغت إنتاجية الفرد الياباني في عقد السبعينات قرابة ثلاثة أضعاف إنتاجية الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن قيم التوفير رفعت معدلات الإدخار إلى حوالي 40% من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بحوالي 22% في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1970؛ ما أدى إلى زيادة معدلات التكوين الرأسمالي الثابت الذي بلغ أكثر من 35% من إجمالي الناتج المحلي عام 1970 مقارنة بحوالي 23% في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن هذه القيم تمت تغذيتها عبر نظام تعليم مخطط مركزيًا، شكّل العمود الفقري في بناء ثقافة المجتمع الياباني وتعزيز قيمه الأخلاقية؛ فاليابان الفقيرة بمواردها والصغيرة بمساحتها والمكتضة بسكانها تعاملت مع الإنسان باعتباره المورد الأهم للتنمية الاقتصادية، فركزت مواردها في إنتاج أجود تعليم ممكن عالميًا، كما أثبتت ذلك الاختبارات العالمية لنوعية التعليم التي حاز فيها الطالب الياباني المراكز الأولى، بل إن مستوى التحصيل التعليمي للطالب الياباني في سن الثانية عشر بات يعادل مستوى التحصيل التعليمي للطالب في سن الخامسة عشر في باقي الدول المتقدمة، ويلاحظ تركيز هذا النظام على تعزيز روح الجماعة والانتماء للمدرسة لدى الطلاب، فهي بيتهم الذي يقضون فيه ما لايقل عن ثماني ساعات يوميًا يدرسون ويتناولون الطعام ويمارسون الرياضية ويقومون بالتعاون مع زملائهم ومعلميهم بتنظيفها، إذ لا وجود لعمال نظافة في المدارس اليابانية، كما أن أساليب التعليم والاختبار في المدارس اليابانية تركز على روح الجماعة عبر تكوين مجموعات عمل تناقش المسائل وتحلها وتعطي الحلول التي يتوصل لها المجموع، وتقيم مستوى أدائها خلال ذلك اليوم الدراسي.
لقد أثبتت التجربة اليابانية كما بدأت تلاحظ ذلك نظريات التنمية الاقتصادية المعاصرة أهمية رأس المال الاجتماعي في تحقيق التقدم والازدهار، وذلك عبر الثقة التي يمكن أن تسود بين أفراد المجتمع وقدرتهم على التعاون والعمل المشترك وشعورهم بالأمان والاطمئنان واستعداد العاملين للتجاوب مع مرؤوسيهم وتخطيطهم لمستقبلهم في ظل المؤسسات التي يعملون بها، بل إن فرانسيس فوكوياما اعتمد في تشخيص البلدان وتقييم مستقبلها على أساس ما تملكه من رأس مال اجتماعي.
فإذا كانت نزعة اليابان الأسرية والاجتماعية سببًا رئيسًا وراء نجاحاتها في العقود الثلاثة الماضية، فإن انخفاض مستوى الثقة بين المواطنين الأمريكيين، وهو مستوى يمكن قياسه بالحذر الذي يظهره أحدهم تجاه الآخر جراء ارتفاع معدل الجريمة وزيادة اللجوء إلى القضاء كوسيلة لحل المنازعات في ما بينهم، قد يكون سببًا من وجهة نظر فوكوياما في الانهيار الذي بدأ يضرب الاقتصاد الأمريكي.
يبقى السؤال المطروح إلى أي مدى يمكن لليابان أن تحافظ على ما تملكه من رأس مال اجتماعي؟ وما مدى صمود أخلاق الأفراد أمام إغراء المال وارتفاع مستويات الدخول؟ هل تنجو اليابان من الطغيان الذي مصدره الاستغناء؟ وهل تحافظ الأجيال القادمة على حكمة الأسلاف والتزامهم بفلسفتهم الكونفشيوسية التي هي مصدر ثقافتهم وقيمهم الأخلاقية؟
أما السؤال الذي تطرحه التجربة اليابانية بالنسبة لشعوبنا فهو الأخلاق ذاتها؟ وما نصيبنا منها؟ وهل ثمة مصدر يمكننا أن نؤسس عليه ثقافة أخلاقية نستقي منها رأس مالنا الاجتماعي الذي سنبني عليه رأس مالنا المادي، ونبني عليه نهضتنا الاقتصادية؟
إبراهيم الجلبي
نقلا عن نون بوست