عد انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز فراغ نظري كنتيجة لفقدان الشيوعية لبعض مصداقيتها، دخلت إلى السياسة الدولية بشكل مفهومي نظريتين برجماتيتين هما: نظرية نهاية التاريخ التي طرحها فرانسيس فوكوياما، ونظرية صدام الحضارات التي طرحها صمويل هنتنجتون، وهما تحلان محل صراع الشرق والغرب كمحدد أساسى لسمة العلاقات الدولية ما بعد الحقبة السوفيتية.وقد شرح “فوكوياما” في كتابه “نهاية التاريخ” ذلك بأن تاريخ البشرية نفسه هو تاريخ صراع الأفكار، فكرة تصارع لتقديم ذاتها كعقيدة كونية لتنظيم المجتمع والسياسة وفقاً لخططها المحددة؛ فانتصار الديمقراطيات الليبرالية الغربية في الحرب الباردة – الذى أسس لتفوق الفكر الغربي على الاشتراكية، وانتصار الخير على الشر- قد أوصل التاريخ إلى نهايته على حد قول فوكوياما، وبتعبير آخر لا أيديولوجية في المستقبل تطمح لإعادة البناء والتنظيم الاجتماعي يمكن أن تشكل الند أو الأطروحة النقيض للأيديولوجية الليبرالية الغربية.
إذن، فانتصار الغرب يتمظهر وقبل كل شيء في انهيار أية بدائل منهجية قادرة على الحلول محل الليبرالية الغربية، وكأن التاريخ بكل ما يحويه من صيرورة أصبح سكونياً تماماً.
في الواقع، إذا كانت فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ بشرت بموت الأيديولوجيات، فإنها في الحقيقة مجرد دعوى أيديولوجية جديدة تدعى امتلاكها الحقيقة المطلقة.
وعلى أية حال، فهي فكرة ليست بالجديدة، فكارل ماركس كان قد نظر إلى الشيوعية باعتبارها نهاية التاريخ، وأعلن هيجل، قبل ماركس، نهاية التاريخ في عام 1806 إثر معركة يينا، وأيضاً قام ألكسندر كوجيف بإحياء فكرة هيجل عن نهاية التاريخ بقوله أن كل الأحداث التي جاءت بعد معركة يينا لم تفعل سوى توسيع مبادئ الدولة الليبرالية الديمقراطية.
وفي السياق ذاته، وتطويراً له حاول “هنتنجتون” في كتابه “صدام الحضارات”، نقل أو نسخ موقف الغرب تجاه الشيوعية لخلق تهديد جديد للغرب (العدو المتخيل) هو الحضارة الإسلامية؛ والرعب من التحالف الإسلامي/ الكونفوشيوسي، بالإشارة إلى مبيعات الأسلحة من الصين وكوريا الشمالية إلى دول إسلامية وفي مقدمتها باكستان، وإيران، والعراق، وسوريا. ويذكّر كذلك بالتعاون بين الصين وإيران في مجال التكنولوجيا النووية، ولكنه في أثناء ذلك يصمت عن المبيعات الغربية وعلى رأسها الأمريكية إلى الدول الإسلامية، والسؤال هنا هو لماذا لا يعتبر هذا تحالف غربي/إسلامي؟!
ولأن جوهر التجربة الأمريكية يعتمد على ثنائية مستمرة، وخوفاً من نشوء حالة من الاسترخاء السياسي والفكري، سارع فوكوياما هذه الأيام إلى إعطاء بعدا جديدا للصراع ففبرك عدواً جديداً متمثلاً في الصين، ففي كتابه الجديد “النظام السياسي والتآكل السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديموقراطية”، يظهر تهديد جديد أو عدو متصور آخر يتمثل في الصين فهي الخطر الآن نظراً لقوتها الاقتصادية، ولبعدها عن النموذج الغربي الديموقراطي.
يعرّف فوكوياما الاضمحلال أو التآكل السياسي بأنه التصلب الإدراكي، حيث تظهر مجموعة من المؤسسات في ظروف معينة ثم تتغير هذه الظروف ولا يحدث تأقلم ويحدث الجمود، ويظن فوكوياما أن هذه الظاهرة الآن تميز النخبة السياسية الأميركية، ويدلل على ذلك بقوله أن الولايات المتحدة الآن تشهد أكبر أزمة منذ الكساد الكبير في فترة الثلاثينات من القرن الماضي، ولم تتسبب تلك الأزمة في تغيير الأمور بشكل جذرى بل بقى الناس يحملون أفكاراً غريبة.
وبالرغم من أن فوكوياما لا يكف في كتابه الجديد عن التأكيد على أن الديمقراطية الغربية هي نهاية التاريخ، وأن الولايات المتحدة الأمريكية هى دولة ثرية وقوية وديمقراطية، إلا أنه لاحظ وجود اضمحلال أو تآكل نظراً لتراخيها في الوقت الراهن، ويرى أن سبب ذلك ما يسميه بغياب الصدمة. فالمجتمع الأمريكي بعد سلام طويل واستقرار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سيتعثر لأنه جنح إلى السلبية، ومن ثم خبت جاذبيته ولم يعد يستقطب العالم، وهو الآن في احتياج لصدمة لكى يفيق.
والسؤال: لماذا الأن والمجتمع الأمريكي في زمن الوفرة؟ يبدو أن هناك على الضفة الأخرى من النهر تحديات صاعدة، والتي يجب تحديدها وتعريفها؛ ففوكوياما يلفت الانتباه إلى الصين التي ترفض دولة القانون الغربي، والنموذج الديموقراطي، ويتساءل عما إذا كان الغربيون أم الصينيون هم الذين سيصوغون في العقود الخمسة المقبلة نموذج المستقبل؟ ويجزم بأن الصين لن تكون صاحبة مثل هذا النموذج.
يرى فوكوياما أن هناك زيادة ملحوظة في التفوق الاقتصادي والقوة العسكرية للصين، وبتعبير آخر يحدث الآن إحلال تدريجى لثقل مركز النمو الاقتصادي، وقد يتمركز حول الصين وهى عملية تثير البلبلة على نحو متزايد، لذا يحاول فوكوياما تنبيه النظام السياسي الأمريكي وشحذ همته ليفيق من حالة الاسترخاء التي انتابته منذ الحرب العالمية الثانية، صحيح أن فوكوياما لم يصرح بوجوب الحرب على الصين، ولكن من المعلوم أن التوترات تقود إلى المواجهات باعتبارها مدخلا للصدام في العلاقات الدولية.
فالقضية، إذن، هي الحفاظ على القوة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية، لضمان استمرار قوة ورفاهية الذات الأمريكية، وفي نفس الوقت الوقوف في وجه القوة الاقتصادية التي يمكن أن تناوئ الغرب اقتصادياً، هذه القوة التي توقع صعودها تقرير الاتجاهات الاقتصادية، الصادر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية عام 2003، بالقول أنه “ليس ثمة شك في أن ارتفاع معدلات النمو في الصين بنسبة تجاوز 13% يشعر الولايات المتحدة الأمريكية بالخوف على مستقبلها؛ إذ أن الصين إذ صارت معدلات النمو فيها بهذه النسبة فسوف تستطيع حتى عام 2015 أن تناطح الولايات المتحدة الأمريكية على زعامة العالم بوصفها قوة اقتصادية جديدة”.
وهذا ما أكد عليه أيضاً تقرير صادر عن “برنامج المقارنات الدولية” التابع للبنك الدولي في إبريل 2014؛ إذ أن هناك إمكانية أن تتجاوز الصين أمريكا لتصبح الاقتصاد الأكبر في العالم في فترة لا تزيد عن نهاية السنة الجارية، وبذلك تنتهي سيطرة أمريكا المستمرة منذ 125 عاماً على الاقتصاد العالمى.
وبشكل عام، تمارس الولايات المتحدة في الساحة الدولية نفوذاً سلطوياً لترسي قواعد اللعبة في الاقتصاد والسياسة لصالحها، وهذا غالباً ما يضر بالصين؛ ولكن إذا كانت الولايات المتحدة تشعر بأنها مهددة حالياً من النموذج الصيني؛ فإن هناك العديد من دول العالم تشعر بالتهديد نفسه من الولايات المتحدة؛ فالكل قلق من الخفوت والتلاشي المحتمل تحت تأثير ما يمكن وصفه بالإغراء المعنوي للحضارة الغربية، ولكن هل الحل هو الدخول في حروب معاصرة أو تهميش وتحجيم الآخر؟!
في الواقع، إن المجتمع الأمريكي المعاصر دائماً ما يقوم بتنظيم حياته على فكرة التهديد الخارجي لتأكيد ذاته وهويته، فالحافز إلى الفعل ليس ذاتياً إنما هو خارجي، ولهذه الفكرة عيوبها؛ حيث إن هذه الفكرة يلزمها الاستعداد المتواصل، فثمة خطر قائم، وتحديات لا بد من وضعها في الاعتبار، وما دام شبح التهديد حاضراً، فإن أي إنتاج لوسائل التدمير يصبح مسوغاً، فالاقتصاد الذى يلائم المتطلبات العسكرية يوفر حياة أيسر لعدد كبير من الأشخاص على حد قول ماركوز، أو بتعبير آخر أن الحرب أو المواجهة تنعش الاقتصاد.
لقد حاول فوكوياما – مثلما حاول هنتنجتون – توجيه أنظار الولايات المتحدة إلى الخطر المحدق، فاستخدم الوسيلة التقليدية، لتعبئة مجتمع متردد، المتمثلة في الخوف من عدو مختلق شرير نذر نفسه لتدمير ذلك المجتمع، هذا الاختلاق، ينم عن الإفلاس الذاتي، لأنه لا يجد قدرة في ذاته للدفع للأمام فيلجأ إلى الاختلاق، كما أن فوكوياما حاول تقديم افتراضاته على أنها حقائق علمية لها صفة الحتمية.
ولعل من الممكن أن نقول إن فكرة الخوف من الصين التي طرحها فوكوياما في كتابه الجديد ترجع إلى بنية الفكر الغربي نفسه، ذلك الفكر الذى نظر إلى التناقض في حدود عدائية: (القضية) تواجه (القضية) المضادة، لقد افترض منذ البداية أن النزاع هو الطريق الوحيد لمعالجة التناقض، إن هذه الرؤية مكنت الغرب من أن يفتح، يقهر، يكتشف ويجدد، وذلك على عكس الموروث الفلسفي الصيني – منذ الطاوية مروراً بأفكار ماو تسي تونج – الذى يؤمن بأن التناقض هو الوجود، وهو بناء على ذلك، لا يمكن التغلب عليه واجتثاثه عن طريق إزاحة جانب واحد أو التطويع القسرى للآخر.
وخلاصة القول، لقد أدرك فوكوياما عمق الأزمة الاقتصادية والعسكرية والثقافية للولايات المتحدة الأمريكية، وأحس بالتفكك الداخلي، وأدرك ظهور مركز جديد له قوته، واستحالة مواجهته عسكرياً، ومن ثم فمحاولة تحجيمه أصبحت فرصة مناسبة يحاول من خلالها إعادة تأكيد المعنى المفقود للهوية والذات الأمريكية. ففكرته هى إعادة تأكيد أو إعادة إثبات الدور السيادي للولايات المتحدة في العالم.
حازم محفوظ
نقلا عن مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية