فجوة التحرر في تعليم العرب

فجوة التحرر في تعليم العرب

580

لا تركز المناقشات التي تتناول قضية التعليم في العالم العربي إلا نادرا على الدور الذي يلعبه التعليم المدرسي في تغيير العادات والتقاليد الاجتماعية والسياسية، وهو أمر مؤسف لأن المواطنين المتعلمين في الدول العربية يميلون في المتوسط إلى كونهم أقل تحررا بأشواط على المستويين السياسي والاجتماعي مقارنة بأقرانهم في أجزاء أخرى من العالم.

وإذا كان للمجتمعات العربية أن تصبح في أي وقت في المستقبل أكثر انفتاحا وأكثر دينامية على الصعيد الاقتصادي، فيتعين على أنظمتها التعليمية أن تحرص على احتضان وتعزيز القيم المناسبة لتحقيق هذه الغاية.

تنعكس هذه الفجوة في دراسة استقصاء القيم العالمية، وهو مشروع بحثي عالمي لاستطلاع الآراء يسمح بالمقارنة بين مجموعة واسعة من القيم في بلدان مختلفة.

“التعليم بالعالم العربي وُضع في خدمة مشاريع قومية فوقية مع إدخال التعليم الإلزامي بالستينيات. وبعد فشل محاولات التحديث بقيادة الدولة ونزوع الحكومات إلى قدر متزايد من القمع، أصبحت السياسات التعليمية مشربة بقيم دينية محافظة، أولا لمحاربة الجماعات اليسارية المعارضة، ثم لاحقا لمنافسة الجماعات الإسلامية في منطقتها الخاصة”

فمؤخرا قامت هذه الدراسة باستطلاع الآراء في 12 دولة عربية (الأردن، ومصر، وفلسطين، ولبنان، والعراق، والمغرب، والجزائر، وتونس، وقطر، واليمن، والكويت، وليبيا) جنبا إلى جنب مع 47 دولة غير عربية. وتسمح لنا النتائج للمرة الأولى بالمقارنة بين سكان قسم كبير من العالم العربي ومواطنين في أماكن أخرى من العالم.

تقيس الدراسة أربع قيم سياسية واجتماعية كاشفة: دعم الديمقراطية، والاستعداد للمشاركة في العمل المدني، والإذعان للسلطة، ودعم القيم الأبوية التي يستند إليها التمييز ضد المرأة. مع اكتساب أي دولة نمطية قدرا أكبر من الثراء، والتعليم، والانفتاح السياسي، يرتفع مستوى دعم الديمقراطية والاستعداد للمشاركة في العمل المدني، ويهبط مستوى الإذعان للسلطة ودعم القيم الأبوية.

بيد أن البيانات تكشف رغم ذلك عن حقيقة مفادها أن الدول العربية متخلفة عن دول أخرى ذات مستويات مماثلة من التنمية. فالعرب أقل ميلا إلى تفضيل الديمقراطية (بفارق 11%)، وأقل نشاطا في مجال العمل المدني (بفارق 8%)، وأكثر ميلا إلى احترام السلطة (بفارق 11%) وأشد ميلا إلى اعتناق القيم الأبوية (بفارق هائل يبلغ 30%).

وربما تساعد اثنتان من خصائص العالم العربي في تفسير هذا الفارق: غَلَبة المسلمين على السكان، والحكومات الاستبدادية التي حكمت قسما كبيرا من المنطقة على مدار السنوات الخمسين الماضية.

ووفقا للدراسة، يشجع التدين الميل إلى المحافظة فعليا، ولكن ليس بدرجة أكبر في الدول العربية مقارنة ببقية العالم. ولأن درجة التدين بين العرب تبلغ نحو الضعف مقارنة بالناس في أماكن أخرى، فإن هذا العامل يفسر جزئيا النزوع إلى المحافظة في المنطقة. ولكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام يكمن في الدور الذي يلعبه التعليم -أو الذي لا يلعبه- في تشجيع الانفتاح الاجتماعي والسياسي في العالم العربي.

وتكمن أكبر الفوارق بين الدول العربية وبقية العالم بين المتعلمين؛ ولنتأمل على سبيل المثال قيمة تفضيل الديمقراطية. على هذا المقياس، تبلغ الفجوة بين العرب وغير العرب من حاملي الشهادات الجامعية 14%، في حين تتضاءل الفجوة بين حاملي الشهادة الثانوية إلى 5% فقط. وبوسعنا أن نرصد تأثيرات مماثلة في ما يتصل بالقيم الثلاث الأخرى. ويبدو أن التعليم أضعف أثرا على القيم الاجتماعية في الدول العربية مقارنة بأماكن أخرى، بعامل يبلغ نحو ثلاثة.

وبالتالي، يتعين على أولئك الذين يسعون إلى تعزيز الانفتاح في العالم العربي أن يركزوا ليس على تأثير الإسلام بل على التعليم الذي يتعرض له سكان المنطقة. والواقع أن أحد التفسيرات المحتملة للفجوة الملحوظة في القيم الاجتماعية تتلخص في استخدام التعليم عمدا كأداة للتلقين، وذلك بغرض توطيد الحكومات الاستبدادية.

“لن تبادر النخب عن طيب خاطر إلى إصلاح التعليم إذا كان في ذلك ما يعرض بقاءها للخطر، وسوف يكون لزاما على الناشطين في المجتمع المدني أن يحاربوا لتغيير القيم التي ترتكز عليها أنظمة التعليم في بلدانهم، من خلال تشجيع المشاركة في العمل المدني، وغرس المبادئ الديمقراطية في الأذهان”

الواقع أن التعليم في العالم العربي وُضع في خدمة مشاريع قومية فوقية مع إدخال التعليم الإلزامي في ستينيات القرن العشرين. ثم في السبعينيات وبعد فشل محاولات التحديث بقيادة الدولة ونزوع الحكومات إلى قدر متزايد من القمع، أصبحت السياسات التعليمية مشربة بقيم دينية محافظة، أولا لمحاربة الجماعات اليسارية المعارضة، ثم في وقت لاحق لمنافسة الجماعات الإسلامية في منطقتها الخاصة.

ويكشف استعراض للأدبيات التربوية التي تتناول الأنظمة التعليمية في المنطقة عن مدى تعمد تصميمها لخدمة التلقين، إذ تتسم أغلب هذه الأنظمة بفرض التعلم عن ظهر قلب، وتجاهل القدرات التحليلية، والتركيز المفرط على الموضوعات والقيم الدينية، وتثبيط التعبير عن الذات لصالح الامتثال والانسياق، وافتقار الطلاب إلى المشاركة في شؤون المجتمع. وكل هذه السمات مهيأة لتشجيع الطاعة وتثبيط مساءلة السلطة.

قد يبدو من عجيب المفارقات أن تكون أنظمة علمانية هي المسؤولة عن أسلمة التعليم، ولكن التناقض يزول إذا فهمنا ذلك باعتباره محاولة لاستغلال الخصائص والسمات الثقافية المحلية لتعزيز جهود التلقين (كما كان الحال في الصين). وليس من المفيد أو البنّاء إلقاء اللوم على الثقافة المحلية التي ترثها المجتمعات إلى حد كبير، بل يمر الطريق إلى الأمام عبر إدراك حقيقة مفادها أن الأنظمة الحاكمة الاستبدادية تتعمد تحييد الإمكانات التحديثية الكامنة في التعليم سعيا إلى ضمان بقائها.

من سوء حظ العالم العربي أن هذا الطريق بالغ الضيق، ولن تبادر النخب عن طيب خاطر إلى إصلاح التعليم إذا كان في ذلك ما يعرض بقاءها للخطر، وسوف يكون لزاما على الناشطين في المجتمع المدني أن يحاربوا لتغيير القيم التي ترتكز عليها أنظمة التعليم في بلدانهم، من خلال تشجيع المشاركة في العمل المدني، وغرس المبادئ الديمقراطية في الأذهان، ودعم المساواة بين الجنسين، وتعزيز التنوع والتعددية.
ولن تتنامى قوة هذه القيم بالقدر الكافي لتغيير مسار المجتمعات العربية إلا بضمان ترسيخها في كل مدرسة.

إسحق ديوان

المصدر : الجزيرة