من أهم التداعيات الإستراتيجية للحرب العالمية الثانية حدوث فراغ إستراتيجي على جناحي الاتحاد السوفييتي نتيجة هزيمة اليابان وألمانياواستسلامهما، وتنامي القدرات العسكرية السوفيتية التي بدأ الاتحاد في استخدامها لملء ذلك الفراغ ناشرا فيها الأيديولوجية الشيوعية، مما شكل خطرا داهما على دول أوروبا الغربية وتهديدا مباشرا للمصالح الأميركية.
مبادرات مبكرة
دفع الخوف دول أوروبا الغربية لطلب مساعدة أميركا التي كانت تتمتع بقدرات عسكرية واقتصادية وسياسية جعلت منها القوة الأعظم في العالم، مما مكنها من الاستجابة للطلب الأوروبي، فقامت بطرح عدة مبادرات من أهمها:
“رغم انتهاء الحرب الباردة فإن البيئة الدولية الجديدة ساعدت على ظهور تحديات خطرة جديدة تمثلت بالحروب الأهلية والصراع على السلطة في بلدان شرق أوروبا وأقاليم أخرى من العالم، وتنامي ظاهرة الإرهاب العابر للحدود والهجرة غير المشروعة والقرصنة البحرية “
– مشروع مارشال للمساعدة في إصلاح الاقتصاد الأوروبي الذي دمرته الحرب، وقد قابل الاتحاد السوفييتي تلك الخطوة بإنشاء تكتل الكومنفورم.
– اتفاق الأمن المشترك والذي تضمن تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية وفنية لدول غرب أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا بهدف المحافظة على السلامة الدولية وزيادة فاعلية السياسة الأميركية.
– تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي بناء على معاهدة شمال الأطلسي التي تم التوقيع عليها في واشنطن في 4 أبريل/نيسان سنة 1949 كإجراء ردع دفاعي لمواجهة خطر تنامي القدرات العسكرية السوفيتية التقليدية، وقد قوبل ذلك بإنشاء حلف وارسو بعد انضمام ألمانيا إلى حلف شمال الأطلسي في عام 1955.
وضعت الدول الموقعة على اتفاقية حلف شمال الأطلسي مجموعة من المبادئ والأهداف للحلف من أهمها: تسوية جميع المنازعات الدولية بالطرق السلمية، الامتناع عن التهديد أو استعمال القوة بطريقة لا تتفق مع مبادئ الأمم المتحدة، توثيق العلاقات السلمية والودية، توحيد الجهود للدفاع المشترك، المحافظة على السلم والأمن الدوليين، مقاومة أي هجوم مسلح بشكل فردي أو جماعي وبكل وسيلة ممكنة.
حرب باردة
اعتمد حلف شمال الأطلسي عقيدة دفاعية معززة بالتفوق النووي الأميركي (نظرية الردع النووي) إلا أن عام 1949 شكل نقطة فارقة عندما أجرى الاتحاد السوفييتي أولى تجاربه النووية، ليدخل العالم في مرحلة السباق النووي والتي نتج عنها اعتماد النظريات التالية وبالتتالي (توازن الرعب، الانتقام الشامل، الرد المرن).
أدى انهيار الكتلة الشرقية واختفاء حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفييتي لاحقا إلى إعلان انتهاء عصر الحرب الباردة، والدخول إلى عالم أحادي القطبية (عصر الهيمنة الأميركية)، مما أبعد شبح حدوث حرب واسعة النطاق سواء تقليدية أو غير تقليدية، وبالتالي تراجعت مهمة الدفاع الجماعي ضد عدو أو أعداء محددين مسبقا. كما عمل الحلف على ضم العديد من دول حلف وارسو السابق، بحيث وصل عدد الدول الأعضاء إلى 29 دولة.
“رغم السجالات والنقاشات الأميركية عن دور الحلف ومدى فاعليته بالنسبة لحماية مصالحها على خلفية انتقادات ترامب التي اعتبر فيها أن الحلف فقد أهميته، فسيبقى الحلف ركنا أساسيا في السياسة الدفاعية الأميركية خاصة بعد تبني الإدارة الأميركية في عهد بوش الابن نظرية الحدود الشفافة”
وإزاء هذه التحديات أصبح لزاما على منظمة حلف شمال الأطلسي التعامل معها، ومن أجل ذلك أجرى الحلف عملية إعادة تنظيم لقواته وعقيدته القتالية والمهام والأدوار المنوطة به، حتى يتمكن من الاستمرار في القيام بمهمة الدفاع الجماعي ومواجهة المخاطر الطارئة، وتمثل ذلك بزيادة مرونة القوات الأساسية وسرعة التعبئة واستيعاب التطور التكنولوجي في نظم التسليح.
كما تمت إعادة صياغة المهام لتشمل القيام بالمهام الإنسانية وإجلاء الرعايا وحفظ الأمن والسلم الدوليين والمساعدة في حالات الكوارث الطبيعية لإغاثة وإجلاء المدنيين وتقديم العون الطبي ومكافحة تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية ومكافحة أعمال القرصنة البحرية.
ويعني هذا تبني الحلف لعقيدة قتالية هجومية خارج الإطار الجغرافي لدول الحلف بدلا من العقيدة الدفاعية السابقة، وقد ترجم ذلك عمليا في المساهمات التالية: البوسنة والهرسك عام 1995، كوسوفو 1999، مقدونيا 2001، أفغانستان 2001، ليبيا 2011، كما ساهم الحلف في الأعمال الإنسانية في باكستان 2006، وإغاثة المتضررين من إعصار كاترينا 2006.
عودة الخطر الروسي
وقد مثّل تنامي القدرات العسكرية الروسية ومحاولة استخدامها خارج الحدود السياسية للاتحاد الروسي كما جرى ويجري في أوسيتا الشمالية والجنوبية وجورجيا وشبه جزيرة القرم والأجزاء الشرقية من أُوكرانيا وأخيرا سوريا توجها روسيا جديدا يحاول إعادة الطموحات القيصرية والسوفيتية السابقة.
ومن شأن هذا التوجه الروسي الجديد أن يبقي على مهمة الحلف الأولى وهي القدرة على تأمين مهمة الدفاع الجماعي، ولن يستطيع الحلف القيام بها دون المحافظة على الدور الأميركي الفاعل والقيادة الأميركية للحلف.
رغم السجالات والنقاشات التي تدور داخل الولايات المتحدة عن دور الحلف ومدى فاعليته بالنسبة لحماية المصالح الأميركية على خلفية انتقادات المرشح الجمهوري دونالد ترامب التي اعتبر فيها أن الحلف فقد أهميته، (تستند انتقادات ترامب إلى بعد اقتصادي؛ حيث يجب أن تقدم كل دولة من أعضاء الحلف 2% من ناتجها القومي، ومعظم دول الحلف لا تلتزم بذلك؛ مما زاد من الأعباء الاقتصادية على الحكومة الأميركية)، فسيبقى الحلف ركنا أساسيا في السياسة الدفاعية الأميركية خاصة بعد تبني الإدارة الأميركية في عهد بوش الابن نظرية الحدود الشفافة والتي تسمح لها بالتدخل في أية أزمة دولية أو محلية قد تؤثر على الأمن القومي الأميركي، مما جعل منطقة التأثير الأميركية تمتد عبر القارات الستة.
“استطاعت روسيا أن تفرض نفسها بعد تدخلها العسكري المكثف على أنها الفاعل الأول سياسيا وعسكريا بسوريا، فأعادت التوازن لقوات الأسد وساهمت في استعادته السيطرة على العديد من المناطق الهامة، كما تحكمت إلى درجة كبيرة في رسم المسار التفاوضي في جنيف”
سيبقى دور حلف الناتو مرتهنا إلى حد ما بمواقف وردود أميركا تجاه إدارتها للأزمات الدولية، خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط وتحديدا في سوريا والعراق وليبيا. لن يقدم الحلف على تنفيذ عمليات عسكرية جماعية وسيترك الخيار للدول على أساس فردي وهو ما تجسد في مشاركتها في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
رغم النجاح الذي حققته القوات الأميركية وبعض دول الحلف في تدريب القوات المسلحة والقوات الأمنية العراقية فإنها أخفقت في تدريب المعارضة السورية المعتدلة، بدءا من تدريب بعض الجماعات في تركيا والأردن على فترات متباعدة، مرورا بإنشاء غرف الموك والتي حُملت مسؤولية فشل العمليات العسكرية في ريفي درعا والقنيطرة بسبب تدخلها في تحديد الأهداف ومسار العمليات العسكرية، كما أفاد العديد من القادة الميدانيين في المعارضة السورية، وانتهاء ببرنامج التدريب الأميركي للمعارضة المعتدلة في تركيا والذي رصد له 500 مليون دولار أنفق منها 42 مليون على تدريب أقل من مئة مقاتل أسرتهم جبهة النصرة باستثناء خمسة، ومن ثم إيقاف البرنامج.
لذا لا أرى فرصة لنجاح الحلف في الميدان الذي فشلت فيه الولايات المتحدة؛ لانعدام الرؤية الإستراتيجية وغياب الإرادة والرغبة في تمكين المعارضة المعتدلة من تحقيق الحسم العسكري في سوريا.
وقد استطاعت روسيا أن تفرض نفسها بعد تدخلها العسكري المباشر والمكثف على أنها الفاعل الأول سياسيا وعسكريا، فأعادت التوازن لقوات الأسد وساهمت في استعادته السيطرة على العديد من المناطق الهامة، كما تحكمت إلى درجة كبيرة في رسم المسار التفاوضي في جنيف، مما أضعف من الدور الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة أو حلف الناتو في البعدين السياسي والعسكري، خاصة في السنة الأخيرة من وجود الرئيس أوباما في البيت الأبيض.