نبراس الكاظمي
(مترجمة عن الانكليزية، نشرت اولا في مدونة باب الطلسم يوم 11 ايار 2016، ترجمة رشا العقيدي)
توقف، انسداد، مأزق، شلل، مواجهة. يمكن وصف السياسة العراقية اليوم بهذه الكلمات. ولكن كان من الممكن أن تسري الأمور على نحو مختلف، فبعد ثلاثة شهور مضطربة من الدراما السياسية في بغداد، بإمكاننا أنْ ننظر إليها الآن لنستنتج بأنّها كانت غير ضرورية وطائشة. أمّا عن نتائجها المرغوبة، حتى لو جرت الأمور بما يشتهيه رئيس الوزراء حيدر العبادي، فإنّها لن تقود إلى الإصلاحات الجذرية، والعراق بحاجة إلى الإصلاح وهذه الحاجة باتت ضرورة وجودية لبقاء للدولة. ولكن شهور ثلاثة مضت هدراً وكان الأجدر الإستفادة منها لو تمّ تفعيل هذا الإصلاح. إنّ المتسبب الرئيسي بضياع الوقت والجهد هو مسبب الأزمة: العبادي. وللأسف، فإنّ المجال القليل الذي كان متبقياً لحل سياسي قد ضاع بسبب إصرار إدارة أوباما على إبقاء العبادي في منصبهِ.
مراجعة موجزة. لقد فاجئ العبادي الجميع (بما فيهم مسؤولين أمريكيين على ما يبدو) بالكلمة التي ألقاها بوقت متأخر من ليلة التاسع من شباط والتي وضع من خلالها مطلبه لتغيير وزاري “جذري” وقلبه للوضع السياسي العراقي من خلال رغبتهِ باستبدال وزراءه الحاليين بـ”التكنوقراط والأكاديميين”. سافر العبادي في اليوم التالي إلى إلمانيا تاركاً النخبة السياسية العراقية في حيرة من أمرهم: لماذا قام بذلك؟ لقد كان أغلب وزراءه متمكّنين نسبياً، خصوصاً وزراء الملفات الأمنية والاقتصادية وكان يعملون معه بشكل سلس. من هم هؤلاء التكنوقراط؟ من سيختارهم؟ لمَ يعتقد العبادي بأنّهم سيكونون أفضل في إدارة الوزارات من الوزراء الذين لديه الان؟ كما أنّ العبادي قرر القيام بهذه المجازفة دون استشارة رؤساء الكتل السياسية في بلاد تسير وفق آلية برلمانية وتوافقية إلى جانب كون البلد في حالة حرب وأزمة مالية. نسأل مرة أخرى، لماذا فعل ذلك؟
لقد ردّ العبادي بأنّ لديه حزمة إصلاحات جديدة وكان يريد تطبيقها دون الالتفات الى المعرقلات السياسية، ولكن من بالضبط من بين الطاقم الوزاري كان يعرقل إصلاحاته؟ وما هي هذه الإصلاحات أساساً؟ لدى مراجعة حزمة إصلاحات العبادي نكتشف بأنّ أجزاء منها كانت مستقطعة أو مستعارة من مقترحات إصلاح أخرى متوفرة على الإنترنت لبلدان مثل السودان والجزائر، وكانت متداولة وغير مميزة وبشكل عام غير محفزة على شاكلة النقاط المملة التي قد يضعها موظفٌ في الأمم المتحدة. لم تتطرق الحزمة إلى المشكلة الوجودية التي يعاني منها العراق: عائدات النفط الآن تسد في أفضل الأحوال ما بين 50 إلى 60% فقط من رواتب الحكومية ومن غير المتوقع أن تتغير المعادلة في الوقت القريب مع توقّع عدد قليل جداً من خبراء ارتفاع ملحوظ في سعر النفط خلال العام الحالي.
إنّ الإصلاح الوحيد المهم والفوري الذي يحتاجه العراق يجب أن يعالج الفجوة بين العائدات والنفقات. ولكن طرح هذه المسألة يثير الإستياء الشعبي كما هو الحال في أي مكان في العالم. يتطلب الأمر قيادة وأرضية سياسية صلبة وخطاب وطني يستند على فكرة ” أنّنا جميعاً في مركب واحد” من أجل تمريره. لقد أثبت العبادي بأنّه غير مستعد أو غير قادر على تولي القيادة. كبديلٍ عن الخيارات الفعلية الصعبة، يستطيع العبادي أن يقفز بمهارة إلى الأمام لغرض المشاغلة والتأجيل. لقد ظنّ بأنّ كلمة “التكنوقراط” السحرية ستأتيه بالخير، ولكنها ستحل مشاكل العراق فقط في حال تمكّن الوزراء التكنوقراط من وضع بيضٍ من ذهب. لقد سبق أن نجح العبادي في كسب الوقت من خلال مسرحيات مماثلة، ولكن لا يمكن له ان يعمل الكثير إذا ما قفز في الرمال المتحركة.
ثم جاءت “العجّة”. إحدى الأسئلة الرئيسية التي سعت النخبة السياسية العراقية إلى الإجابة عليها كانت “هل هناك صفقة بين العبادي ومقتدى الصدر؟”. استنتاجي الخاص يقول “لا”.
في البداية وقبل الإعلان الكبير، اعتقد العبادي بأنّه قد ضمن ولاء مقتدى الصدر، ولكن ما لمْ يدركهُ هو مالذي سيفرضهُ “التحالف ” مع الصدر. عندما طلب العبادي من الصدر دعم مساعيهِ لتغيير العملية السياسية في العراق، أصبح الباب مفتوحاً أمام الصدر لإستعادة دوره كمتزعم للوسط السياسي، وكان ذلك دوما هو الدافع الرئيسي للصدر، خصوصاً إذا كان ذلك يعني التفوّق على “الخونة”، هؤلاء الذين كانوا صدريين في البدء ثمّ انفصلوا. استناداً إلى معرفة بسجالات جرت بين مقتدى الصدر والحلقة الأقرب إليه في عام 2004، يمكن القول بأنّ الصدر اختار طريق التصعيد المسلح أمام الولايات المتحدة لكي يبقى محورياً بعد أنّ انسلخ عدد غير قليل من أتباعهِ عنه. في الآونة الأخيرة، شاهد الصدر كيف تمكّن بعض ممن ارتدّ عليه ، مثل عصائب أهل الحق، من اكتساب شعبية ومكانة لدى فصائل الحشد الشعبي، وكان عليه إيجاد طريقة للتفوّق عليهم.
وبالنتيجة، لو لمْ يكن للصدر تحالفاً قوياً مع العبادي تمّ تنسيق خطواتهِ بشكل مترادف، يبقى السؤال التالي: “هل عقد الصدر صفقةً مع جهة أخرى؟”. الجواب أيضاً “لا”. لقد كشفت لي هذه الأزمة بأنّ لا أحد لديه إطلاع على كيفية تفكير مقتدى الصدر أو كيفية التأثير عليه، سواء كان حسن نصرالله أو قاسم سليماني أو عمّار الحكيم، أو ابن شقيق الصدر نفسه، أو معاونيه الرئيسيين (مصطفى اليعقوبي، وليد الزاملي، وليد الكريماوي، صلاح العبيدي)، أو المكتب السياسي للصدريين. وسرعان ما اكتشف العبادي بأنّ الغوص في عقل مقتدى الصدر يشبه الولوج في الرمال المتحركة.
ولكن هناك اسمين يستجيب لهما الصدر وهما أية الله العظمى السيد علي السيستاني والمرجع الإيراني علي خامنئي. قد يتمكنان من إيقافهِ، ولكنهما لا يتحكمان في توجهاتهِ. وحتى إنْ أثّرا عليهِ، فإنّ عواقب تصرفاتهِ تذكرنا بأنّنا نتعامل مع شخص متغير المواقف، يترنح ذهابا وإيابا، يمكن وصف تحركاتهِ بأنّها “سياسة الغيب” او القرار بالاستخارة.
في الآونة الأخيرة، كان “البقاء على زعامة الموقف” بالنسبة للصدر يعني ركوب موجة التظاهرات المدنية التي بدأ زخمها الصيف الماضي، في مسعى منه لتقديم نفسهِ “راعياً للإصلاح”. لقد كان مقتدى الصدر، والآخرون جميعاً، محظوظين بأنّ مغامراتهم مرّت دون اندلاع العنف، فوفقاً للمعايير العراقية، لا يعد تلقي بعض أعضاء البرلمان للصفعات أو إحداث الشغب في قاعات البرلمان “عنفاً”. لذلك ولدى استعراضنا للأحداث الأخيرة، نجد إنها كانت ممتعة المشاهدة. ولكن قيام أتباع الصدر بتسلق جدران المنطقة الخضراء للسباحة في نوافيرها كان بمثابة “الخيار النووي” بالنسبة للصدر. إنّ أي فعل يتعدى هذا قد يختبر حظه ويتسبب بإراقة الدماء. لا يبدو أنّ الصدر يستطيع تحمّل ذلك كما أنّه يفهم بأنّ السيستاني ومعه خامنئي لن يتسامحان معه. إلى جانب ما تقدّم، لقد حقق الصدر هدفه بالعودة إلى صلب الأمور. ولكن ما حصادهُ من كل هذا؟ لقد عدْنا إلى “الإصلاح” الهزيل غير المنطقي الذي جاء به العبادي والداعي لتعيين التكنوقراط. إذن الضجة كلها تتوجّت بالمزيد من الرتابة. هذا نصف جواب لسؤالنا :”كيف وصلنا إلى “توقف، انسداد، مأزق، شلل، مواجهة” ؟
تمكين الخلل. كانت النخبة السياسية تتطلع في الأشهر الثلاثة الماضية إلى استخلاص آراء من أعتقدتهُ (خطأً) ثلاثي النفوذ الأقصى: النجف (المراجع الدينية والسيستاني على وجه الخصوص)، الجارة (إيران)، والأصدقاء (الأمريكيين).
يبدو أنّ النجف وطهران أعطتْ فسحة كافية للعملية السياسية في العراق لتجد اساسها. من الصعب تحديد سرديات الجهتين، لأنهما تسعيان للعمل في الخفاء، ولكن يبدو أنهّما اعطتا الإشارة الخضراء بإبدال العبادي إنْ كانت الوضعية تتطلب ذلك. اقترحت النجف، في حال ثبت بأنّ التحالف الوطني غير أهل لقيادة العملية السياسية، بأنّ يتفكك التحالف لتسعى الأحزاب الشيعية إلى إيجاد تحالفات جديدة مع الأحزاب والكتل السنيّة والكردية. كان ذلك بمثابة تنفّس الصعداء حيث أعطيت النخبة السياسية حرية إعادة ترتيب صفوفها. ومن أجل حصول ذلك، يجب أن يجري تغيير الطاقم الحكومي بأكمله، بما في ذلك مناصب رئيس الوزراء ورئيس الجمهوري ورئيس البرلمان. كان يجب أن تأخذ العملية السياسية مجراها.
ولكن قامت واشنطن بصدّ هذه المساعي، ولا يُعرف حتى الآن إن كان سبب هذا “الصد” هو قصور في الرؤية أو دعم للنهج “الواقعي” كما يقول مؤيدوه. بعد أنْ بقيت إدارة أوباما مترددة مدة شهرين، ظهرتْ مؤخرا داعمة قوية للعبادي. بالنسبة للأمريكيين، فإنّ العبادي هو الرجل الذي يستطيعون التعامل معه وإنّ تبديله سيزعجهم إلى درجة أنّهم سيهملون المساعي العسكرية ضد الدولة الإسلامية، او هكذا حذروا.
ربما جاء تعاطف الإدارة الأمريكية كإسقاط فرض: تدرك إدارة أوباما مدى الإحباط الناجم عن التعامل مع مؤسسة سياسية عنيدة من خلال تجربتها الخاصة في واشنطن. ولكن المؤسسة السياسية في العراق عبارة عن نظام نيابي، ومن يتماشى مع تلك القوانين يجب أن يتعلم كيفية العمل ضمن النظام. لقد اختار العبادي رفض تلك القوانين، وليزيد من حدة الأمور، قام بإرسال قائمة أسماء المرشحين التكنوقراط للوزارات بتاريخ الحادي والثلاثين من آذار ضمن “ظرف مغلق”، حتى أنّ ترشيحاتهِ الجديدة يشار إليها بهذا اللقب. ولكن حين كان ينتظر أعضاء مجلس النواب والقادة السياسيين في البلاد إعلان رئيس المجلس عن أسماء المرشحين، كان بعض المستشارين الشباب العاملين في مكتب العبادي يقومون بتسريب الأسماء المرشحين على مواقع التواصل الإجتماعي في رسالة ازدراء قوية من رئيس الوزراء للنخبة السياسية. ولكن يبدو أنّ العبادي نسيَ بأنّ هذه النخبة السياسية التي اختار أن يبعدها هي التي اختارته لمنصبه في أيلول 2014. يبدو بأن يعمل العبادي هذه الأيام تحت وهم بقاءه في منصبهِ بفعل فيتو رئاسي، أي فيتو الرئيس الأمريكي.
قال لي أحد الأمريكيين من منتقدي سياسة إدارة الولايات المتحدة بأنّ الإدارة الحالية “يستنزفون الوقت على أمل أن يصبح العراق مشكلة لمن سيخلفهم”. أرغب في إعطائهم فرصة رغم الشك لكي نناقش أفعالهم وليس دوافعهم. ففي حال فشل الوصفات السياسية المعلنة خلال الإسبوع الماضي، يجب أن نسعى جميعاً إلى إيجاد الطريق إلى الأمام وليس التخبط في تبادل التهم. يقدّم مؤيدو العبادي ثلاث نقاط مهمة ومنطقية: يجب أن يكون التركيز على محاربة الدولة الإسلامية واستعادة الموصل، عدم إمكانية العراق تغيير قيادته وسط مفاوضاته مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والإحتمالية الضئيلة لتوصل النخبة السياسية إلى اتفاق على البدائل في الوقت المناسب.
لنبحث في هذه النقاط بشيء من العمق:
الحرب ضد الدولة الإسلامية
إنّ الإنتصارات في أرض المعركة التي حققتها القوات الأمنية العراقية لا علاقة لها بكاريزما العبادي أو قيادته، فليس محياه ما يدفع الجندي العراقي إلى القتال. في اليوم الذي اقتحم فيه الصدريون مبنى مجلس النواب، تمكّنت القوات العراقية من إستعادة بلدة البشير القريبة من كركوك لأن المعركة كانت مستمرة رغم المشاحنة السياسية في بغداد. وعلى الرغم من أنّ العبادي كان مفيداً في تبنّي مجالات للتعاون العسكري مع الولايات المتحدة، فإنّه يفعل ذلك لأنهُ بحاجته، ومن غير المعقول تصوّر أنّ بديل العبادي قد يرفض هذا التعاون. لقد قال العبادي الكلام المناسب في شأن تجاوزات عناصر الحشد الشعبي بحق السنّة، ولكن ليستْ سلطتهِ هي من حدّت من ضررهم، بل كان تدّخل قيادات الحشد لاحتواء من هذه التجاوزات.
هناك اعتبارات معقدة في عقل قيادات الحشد الشعبي لتفسير أسباب قيامهم بذلك وقد تكون احداها على صلة بعدم تحديد الهدف النهائي لإيران في العراق (الفقرة الأخيرة تتحدث عن هذه النقطة أكثر). كما يجب أن تضع الولايات المتحدة في حسبانها بأنّ الطريقة التي يقاتل بها العدو قد تتغير مع الإقتراب من الموصل وإنّ نهج الجهاديين قد يتحوّل من التخريب والتشتيت إلى التشبّت بالأرض. إنّ الإندفاع نحو حملة لإسترجاع الموصل استناداً إلى ما سبق أنْ رأيناه من الجهاديين سيعطيهم أفضلية تكتيكية. جانب آخر من جوانب الحرب ضد داعش لم يتّم حتى الآن التطرّق إليه للإسف هو ما هي الرؤية العبادي لحياة سكّان الموصل والفلوجة في مرحلة ما بعد الخلافة؟ إذا كان العبادي يفتقد للمهارة والثبات للدفع بإجراء سياسي متواضع مثل التغيير الحكومي، فما الذي يمكن أن يقدمه بشكل واقعي في موضوع تسوية شاملة مع سنّة العراق؟ أيجب على سكّان الموصل الإختيار بين مصيرين إمّا وضعية تكريت “المقبولة” أو خراب الرمادي؟ يجب أن يكون هناك عملاً سياسياً موازياً للمساعي العسكرية، ومن الصعب إيجاد ما يمكن للعبادي تقديمه هنا.
قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي
ذهب العراقيون إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بعد أن جربوا جميع السبل الأخرى من أجل الاقتراض وبيع السندات استناداً إلى نصائح نفس المؤسسات المالية العالمية التي رفضت طلباتهم. هذه المؤسسات بدورها أبلغت العراقيين بأنّ عليهم التذرّع بشروط صندوق النقد الدولي لتمرير الإصلاحات القاسية في البلد مثل استقطاع الرواتب قبل العودة لطلب القروض. ولكن إذا تبيّن بأنّ إدارة أوباما تضغط على صندوق النقد الدولي من أجل تخفيف شروطها، فكيف سيستفيد العراق من هذه القروض على المدى المتوسط إلى البعيد؟ هذا يعني بأنّ العراق سيقترض من صندوق النقد الدولي ليدفع رواتب القطاع العام، ولا يمكن اعتبار مثل هذا الإجراء إصلاح جذري. ربما تقنع إدارة أوباما البلدان الأخرى في قمة الدول السبعة في اليابان بوقت لاحق من الشهر لضمان المزيد من الأموال للعراق، المزيد من الأموال لكي يحصل موظفو المعامل الحكومية التي لا تنتج شيئاً أو الموظفون الإداريون الذين يغفون على مكاتبهم على رواتبهم للأشهر السبعة إلى العشرة القادمة، لأن قيمة القروض تبلغ هذه المستويات في أفضل الأحوال. أذا لمْ يلزم صندوق النقد الدولي العبادي بشروط الإصلاح القاسية، فإنّ السيولة المالية لن تخدم غير إبقاء العبادي في منصبه لوقت محدود. هذه الأموال ستتبدد بسرعة مما سيبقي العراق في عام 2017 بدون أي ملجأ لاقتراض الأموال في الوقت المناسب بشكل منطقي ومؤثر.
ربما ترغب واشنطن بالتساهل مع العبادي وعدم تحميله مسؤولية التجاوز في الأنفاق الذي قام به سابقه، ولكن العبادي يجب أن يتحمل المسؤولية: لقد تولّى العبادي رئاسة اللجنة المالية في البرلمان طوال الفترة الثانية من حكم المالكي. لم يحاسب العبادي من سبقهُ على موازنة عام 2014 “المفقودة”. إذا كان ذلك موقفه آنذاك، هل يمكن اعتبار العبادي المرشح الأفضل لإنقاذ البلد من الأزمة المالية؟
اختيار بديل العبادي
يمكن استنتاج الكثير عن مهارات العبادي كسياسي من خلال الفوضى السياسية التي حرّض عليها وخرجت عن سيطرته لتعطي للمالكي فرصة للعودة من أبواب عديدة. ولكن المالكي، على عكس الصدر، لا يرضى بأنّ يكون فقط في صدارة المشهد. يسعى المالكي للهيمنة وليس بالضرورة أن يكون رئيساً للوزراء (إنّ المالكي ذكي بما يكفي لإدراك إنّ ذلك مستبعد إلّا في حال إجراء استفتاء لإستقلال الأكراد، لكننا سنترك الحديث في ذلك لوقت آخر). يريد المالكي أنْ يعلم الجميع بأنّه لا يزال يملك من النفوذ لإختيار صاحب المنصب الأعلى في البلاد. وبالتوازي مع دراما الصدر، قام المالكي باستعراضه الخاص تحت قبّة مجلس النوّاب حيث قام أعوانهُ برمي قناني المياه وعلب المناديل باتجاه العبادي.
من حسن الحظ لم ينجم الكثير من الضرر عن هذه الحوادث، ولكنها بيّنت لنا ما يمكن للمالكي إثارتهُ من شغب. لا ننسى أنّ المالكي يملك ما يفتقده العبادي: الغريزة القاتلة، حيث إذا ما قرّر المالكي امراً ما فإنّه يسعى إليه ويناضل لأجله. فالمالكي يحب أن يذكّر الجميع بأّن سيد السلطة، وما يزال هناك المئات وربما الالاف من الجنود في المنطقة الخضراء يستجيبون لنداءه. كما أنّ للمالكي أموالاً طائلة كان الأجدر بالعبادي السعي لإثبات بأنها أموالاً غير مشروعة، على الأقل لحماية ميمنته من مكائد المالكي، ولكن العبادي عجز عن تحقيق حتى ذلك. ( إنّ تردد العبادي بمطاردة المالكي قد يكون إشارة على أنّ للمالكي ما يدين به العبادي الذي لا يخلو من المسائلات عن نزاهته، كما أشار هذا التقرير المرفوع إلى المفتش العام الأمريكي والذي سربهُ موقع ويكيليكس، صفحات 27-33، عن صفقة الهواتف النقّالة التي تعد أول عقد كبير في عراق ما بعد 2003).
لا نزال لا نعلم إذا كان المالكي سيعود بكل قوتهِ ولكن يمكن الجزم بأنّ فرصهِ في العودة القوية ستكون أكبر إذا بقيَ العبادي رئيساً للوزراء.
في الوقت الحالي لن يكون بديل العبادي من اختيار المالكي. إذا ما أٌعطيت العملية السياسية فرصةً، يمكن للأطراف الرئيسية التوصّل إلى الإجماع بسرعة مع مساهمة من النجف وطهران، بل أنّ هناك أسماء تمّت مناقشتها منذ اندلاع الأزمة. ربما يتجاوب مقتدى الصدر أيضاً إذا كان يريد الخروج من الزاوية التي حصر نفسهُ فيها بعد أنْ استنفذ خيارهُ النووي. قد يرى البعض بأنّ التالي اقرب إلى الخيال العلمي، ولكن احتمالية اختيار رئيس وزراء سنّي تمّ تداولها من قبل أشخاص جادّين لكي يثبتوا للمتظاهرين بأنّ الأبتعاد التام عن النهج السابق في إدارة الأمور يتم أخذها على محمل الجد. تدرك النخبة السياسية بأنّ عليها اختيار كادر جديد لقيادة البلد على أن يملك هذا الكادر مخزوناً كافياً من حسن الظن لإقناع العراقيين بالخيارات الصعبة التي تواجههم وهم أمام الأزمة المالية. في الحالة المثالية، سيقدّم العبادي ومعه سليم الجبوري والرئيس فؤاد معصوم استقالاتهم ذاتياً للحفاظ على ماء الوجه حتى تتفق النخبة السياسية على بدلائهم. ولكن تزداد صعوبة تحقيق هذا السيناريو مع إصرار واشنطن على إبقاء الوضع كما هو عليه.
اختلاس النظر إلى مصانع القرار السياسي في طهران. هناك العديد من الأمور الأخرى للنقاش، لكني أوّد إبقاء هذه المقالة قصيرة نسبيا وسهلة للقراءة. ولكنّي يجب تأكيد شيء أخير: إنّ مشاهدة طهران، من زاوية بغداد، وهي تتعثر في إعطاء أجوبة عن المرحلة القادمة هي تجربة مذهلة.
تقديري الشخصي لموقف إيران وخياراتها المستقبلية استناداً إلى ما سمعته: إنّ الإيرانيين منذهلون بأنّ الأمريكيين لم يعودوا مهتمين بالمنافسة على الشرق الأوسط. إنّ إيران اليوم هي وسط عملية إعادة ترتيب جذرية لسياستها بشكل يناسب لا مبالاة أوباما في المنطقة أكثر من الإتفاقية التي وقعوها معه، وترى إيران بأنّ هذه العناصر غير قابلة للتغيير في فترات حكم رؤساء أمريكا في المستقبل. كان الأيرانيون ليفرحوا بالدراما السياسية في بغداد لو أنّهم اعتقدوا، كما كانوا في الماضي، بأنّ واشنطن معنية بكل ما جرى. ولكنهم خسروا غريمهم ويجدون أنفسهم في رقعة استراتيجية مختلفة تماماً ما يزالون يستوعبونها. لذلك لم يستطع الإيرانيون فعل أكثر من ترديد ما كان السيستاني يقوله طوال الأزمة. لم يعرفوا ماذا يريدون من الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد أمريكا، واكتشفوا فجأة بأنّهم مثقلون بعراقٍ مزعج، حيث لم يتحرك الإيرانيون حتى ردّد جماهير التيار الصدري شعارات مناهضة لإيران وقاسم سليماني. وحينئذ لم تكن للإيرانيين طاقة أكبر من أن ينشروا بعض فصائل الحشد الشعبي الموالية لهم حول المنطقة الخضراء والإسراع في تنظيم بعض الاستعراضات العفوية للسيارات تضمنت ضرب الأبواق بحماس ورفع العلم الإيراني في البصرة. إنّ قلق إيران حول ما هو قادم قد يؤدي إلى فصل استراتيجياتها في سوريا والعراق: لقد أصبحت متورطة بشكل كبير في سوريا ولا تستطيع ترك الموقف بسهولة، أما العراق فهو يسبب لها صداع كبير قد لا تكون قادرة على تحمله.
المصدر: مدونة نبراس الكاظمي