تبحث الورقة ملامح المتغيرات في سياسة أنقرة الخارجية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وخياراتها على المديين المتوسط والبعيد، تجاه حلفائها التقليديين في الغرب من جهة وتجاه الثنائي الروسي-الإيراني من جهة ثانية، وانعكاسات ذلك على موقف تركيا ودورها في قضايا المنطقة، سيما الأزمة السورية.
ملخص
بالتوازي مع سرعة المتغيرات في المشهد التركي الداخلي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/تموز الماضي، ظهرت إشارات متواترة تقول بانعكاسات واضحة للحدث على سياسة تركيا الخارجية أيضًا.
تناقش هذه الورقة أهم ملامح المتغيرات في سياسة أنقرة الخارجية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وخياراتها على المديين المتوسط والبعيد، تجاه حلفائها التقليديين في الغرب من جهة وتجاه الثنائي الروسي-الإيراني من جهة ثانية، وانعكاسات ذلك على موقف تركيا ودورها في قضايا المنطقة، سيما الأزمة السورية.
وترصد الورقة ثلاثة سيناريوهات محتملة للسياسة الخارجية التركية على المدى البعيد:
الأول: الاتجاه شرقًا لتحسين علاقتها مع الغرب، بمعنى أن لا يكون التقارب مع موسكو وطهران قرارًا استراتيجيًّا للفكاك من المحور الغربي، بل للضغط على واشنطن والمحور الأوروبي-الأطلسي.
الثاني: موازنة محاور السياسة الخارجية، لتعود مجددًا متعددة المحاور بما يعطي لتركيا مساحة من الاستقلالية النسبية في قراراتها المتعلقة بعدد من الملفات كقضايا الإقليم الخلافية مع معظم الأطراف.
الثالث: رسم مسار مستقل للسياسة الخارجية التركية، يمكن أن يخرجها من عضوية أحد المحورين أو التبعية له، لتكون رائدًا لمحور إقليمي يضم كلًّا من السعودية وقطر وقد تضم له لاحقًا بعض دول الخليج و/أو مصر.
مقدمة
منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1924 على يد مصطفى كمال، اتجهت السياسة الخارجية التركية نحو الغرب بالتناغم مع الرؤية التي سادت حينها بتفوق النموذج الغربي في الإدارة والسياسة الداخلية(1). وقد كان التهديد السوفيتي لتركيا ومطالبته بالسيادة على المضايق وبعض المدن التركية بعد الحرب العالمية الثانية عاملًا مساهمًا في انضمام تركيا بشكل نهائي للمحور الغربي أولًا من بوابة الحماية الأميركية(2)، ثم من خلال عضوية حلف الناتو عام 1952، التي كانت إعلانًا رسميًّا عن انتماء أنقرة للكتلة الغربية كقاعدة متقدمة للناتو لوقف التمدد الشيوعي خلال الحرب الباردة(3).
جاء حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002 بعد انتهاء الحرب الباردة وفق رؤية تحاول نقل تركيا من دولة تلعب دور الجسر بين الشرق والغرب إلى “دولة مركز” ذات تأثير ودور في محيطها يعززان من مكانتها الدولية(4). وقد عملت تركيا على مدى سنوات طويلة وفق نظريات مهندس سياستها الخارجية، البروفيسور أحمد داود أوغلو، على انتهاج سياسة متعددة المحاور في محاولة لمنحها بعض التوازن وزيادة هامش المناورة والاستقلالية لديها(5).
بيد أن عددًا من المتغيرات، في مقدمتها: الانقلاب في مصر، وتعقُّد الأزمة السورية، وتصعيد حزب العمال الكردستاني، وتسارع المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا أدَّى إلى إخفاقات تركية متلاحقة على الصعيد الإقليمي وإلى عزلة عانت منها تركيا، وعمَّق من آثارها التوتر مع حلفائها الغربيين. الأمر الذي دفع بها إلى مراجعات وتراجعات في سياستها الخارجية وفق مبدأ “زيادة عدد الأصدقاء وتخفيض عدد الخصوم” مع تولِّي بن علي يلدرم رئاسة حزب العدالة والتنمية الحاكم والحكومة في مايو/أيار 2016(6)، وتجلَّى ذلك سريعًا في عودة سفير دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أنقرة واتفاق المصالحة مع تل أبيب وتسارع عملية التقارب مع روسيا.
الانقلاب والسياسة الخارجية
لا تقتصر تأثيرات المحاولة الانقلابية على المشهد السياسي الداخلي لتركيا، بل تؤثِّر أيضًا في سياستها الخارجية لعدة اعتبارات، أهمها:
أولًا: السياسة الخارجية هي في أحد أبعادها انعكاس للمشهد السياسي الداخلي كأحد عناصر قوتها.
ثانيًا: كانت سياسة تركيا الخارجية أحد أهم أسباب الانقلاب، نظريًّا وواقعيًّا حسب البيان الأول للانقلابيين(7).
ثالثًا: يسعى من يقوم بانقلاب عسكري إلى السيطرة الميدانية في الداخل والاعتراف به من الخارج، ولذلك فلا يمكن تصور التخطيط لانقلاب عسكري دون الحصول على دعم خارجي ولو على شكل ضوء أخضر بالحد الأدنى، وبالتالي يحمل الانقلاب رسالة خارجية لها تداعياتها على السياسة الخارجية للبلاد.
رابعًا: أدت الإجراءات الحكومية في مرحلة ما بعد الانقلاب إلى تغييرات جذرية في عدد من مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وطالت قطاعات وشخصيات مسؤولة عن ملفات خارجية في مقدمتها الملف السوري، بما يؤثِّر بشكل مباشر في إمكانات وبالتالي في دور تركيا في هذه الملفات.
ويمكن تناول تأثير الانقلاب الفاشل على السياسة الخارجية التركية في ثلاثة مستويات زمنية:
1- المدى القريب: سِمَته الرئيسة انكفاء السياسة الخارجية التركية على مدى أسابيع تحت ضغط الملفات الداخلية، وفي مقدمتها: ضبط الأمن، وتسريع ملف التحقيق في قضية الانقلاب، وتصفية أنصار “تنظيم غولن” من مؤسسات الدولة، وإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية.
2- المدى المتوسط: استئناف أنقرة لنشاط سياستها الخارجية في سياق التهدئة وتخفيف حدَّة الاحتقان مع مختلف الأطراف خصوصًا دول الجوار بحيث تتجنب مزيدًا من الضغوط في الفترة الانتقالية، مع توتر متوقع بدرجة ما في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
3- المدى البعيد: إثر المواقف التي اعتبرتها أنقرة رمادية أو مخيِّبة للآمال من حلفائها الغربيين، يمكن توقع سعيها للعودة إلى السياسة الخارجية متعددة المحاور التي انتهجتها لسنوات طويلة، بتطوير العلاقات مع كلٍّ من روسيا والصين وإيران، وهي السياسة التي تعرضت لانتكاسة بعد القطيعة مع روسيا إثر إسقاطها لمقاتلتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
حلفاء تركيا الغربيون
انضمت تركيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952 واعتبرت منذ ذلك الحين قاعدة الحلف المتقدمة في مواجهة المدِّ الشيوعي، وتقدمت بطلب عضوية الجمعية الأوروبية عام 1959، وهو المسار الذي اختُتِم ببدء مفاوضات العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي عام 2005.
وبقيت العلاقات التركية-الأميركية تتراوح بين الانفتاح والتأزم طيلة فترة الحرب الباردة، ثم تقارَبَ الطرفان بعد انتهائها وأعلنا “شراكة استراتيجية”(8) عام 1995، قبل أن يؤزِّم الغزو الأميركي للعراق العلاقات الثنائية إثر رفض تركيا المشاركة والسماح باستخدام قواتها(9)، ثم بشَّر الرئيس الأميركي، أوباما، العالم الإسلامي بـ”النموذج التركي”(10) عام 2009، قبل أن تختلف الرؤى مرة أخرى بعد الثورات العربية وخصوصًا السورية.
إضافة إلى العلاقات التركية المتوترة مع حلفائها الغربيين، بسبب الخلافات في الرؤى حول الأزمة السورية وقضايا المنطقة المختلفة واتفاق الإعادة الخاص باللاجئين وغيرها من الملفات، فقد وضعت المحاولة الانقلابية الفاشلة هذه العلاقات أمام تحديات إضافية، أهمها:
1- الموقف من الانقلاب وتبعاته: صدرت مواقف رسمية وتسريبات إعلامية تركية تتهم الولايات المتحدة تحديدًا بالتواطؤ مع الانقلابين مستعينة بتاريخ الانقلابات التركية الأربعة التي كانت واشنطن عادة خلفها ومن بعض التفاصيل التي سُرِّبت عن ليلة الانقلاب وأهمها انطلاق طائرات من قاعدة إنجيرليك لتزويد المقاتلات المشاركة في الانقلاب بالوقود(11)، حتى وصل الأمر بصحيفة محسوبة على الحكومة التركية إلى اتهام البنتاغون والجنرال جون كامبل، قائد القوات الدولية في أفغانستان (?SAF)، بالتخطيط للانقلاب(12). كما انتقد أكثر من مسؤول تركي التفاوت بين مستوى المواقف الأوروبية من الانقلاب ومن الإجراءات الحكومية التي تلته(13). وفي المقابل، صدرت مواقف وتصريحات رسمية أميركية تحمل تحذيرًا مبطنًا للحكومة التركية من مغبة الزجِّ باسم واشنطن في قائمة المتورطين في المحاولة الانقلابية(14).
2- تسليم غولن: تطالب أنقرة واشنطن بتسليمها فتح الله غولن باعتباره رأس التنظيم المصنَّف إرهابيًّا في تركيا والمسؤول عن المحاولة الانقلابية تخطيطًا وتنفيذًا، بينما تطالب الأخيرة بأدلة قانونية قبل تسليمه وفق اتفاقية “إعادة المجرمين، والمساعدة المتبادلة في الجرائم الجنائية” الموقَّعة بينهما عام 1979، الأمر الذي اعتبره المسؤولون الأتراك مماطلة وتفضيلًا أميركيًّا لغولن على العلاقات مع تركيا(15).
3- العلاقة مع روسيا: سرَّع الانقلاب، وخصوصًا الموقف الروسي المتقدم والسريع منه في مقابل المواقف الغربية غير المُرضِية لأنقرة، من خطوات المصالحة بينها وبين موسكو، فزار الرئيس التركي روسيا للقاء بوتين واتفقا على إعادة العلاقات الاقتصادية وتشكيل لجنة ثنائية لدراسة التعاون في سوريا(16). كما زار وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، أنقرة ولقي حفاوة واضحة من المسؤولين الأتراك؛ الأمر الذي أثار نقاشات في الغرب حول دور تركيا وموقعها في المنظومة الغربية، بين تحليلات ترى أنها لم تعد شريكة موثوقة للولايات المتحدة والغرب(17) وتصريحات رسمية أكدت على أهمية عضويتها في حلف الناتو(18).
4- الإجراءات الحكومية وعقوبة الإعدام: أبدت عدَّة شخصيات ومؤسسات أوروبية قلقها من توسع الحكومة التركية في عمليات التوقيف على ذمة التحقيق بالانقلاب والعدد الكبير من الموقوفين مؤقتًا من أعمالهم في مختلف المؤسسات التركية(19). وأدَّى تلويح القيادات السياسية التركية بإمكانية إعادة حكم الإعدام تجاوبًا مع المطالب الشعبية إلى تهديدات أوروبية بإغلاق ملف عضوية تركيا تمامًا باعتبار أن الحكم كان قد أُلغي في تركيا عام 2004 ضمن بروتوكولات موقَّعة مع الاتحاد في سياق المواءمة مع الشروط الأوروبية(20). وقد قوبلت هذه المواقف الأوروبية بتصريحات تركية حادَّة من قبيل التهديد بعمل استفتاء شعبي للعدول عن مسار دخول الاتحاد الأوروبي أو عدم تطبيق الجزء المتعلق بتركيا من اتفاق الإعادة الخاص باللاجئين إن لم يحرر الاتحاد فيزا شينغن(21).
وأبدى مسؤولون أميركيون انزعاجهم من العدد الكبير من العسكريين من الرتب العليا الذين أُقْصُوا من المؤسسة العسكرية خشيةً من تأثر العمليات التركية-الأميركية المشتركة ضد تنظيم الدولة(22)، ووصل بعض التصريحات حدَّ التهديد بإخراج تركيا من حلف شمال الأطلسي(23)، فضلًا عن بعض التقارير والدراسات التي أشارت إلى قلق واشنطن على الرؤوس النووية الموجودة في قاعدة إنجيرليك العسكرية بعد الانقلاب(24).
العلاقات مع روسيا وإيران
رغم تاريخها الحافل بالحروب مع روسيا ثم المواجهة معها كجزء من حلف الناتو طوال فترة الحرب الباردة، وضمن سعيها لإضفاء شيء من التوازن على سياستها الخارجية، طوَّرت تركيا في عهد العدالة والتنمية علاقاتها مع كل من موسكو وطهران، خاصة الاقتصادية منها، بل وخرجت عن أطر السياسة الخارجية المعتمدة أوروبيًّا وأميركيًّا بالتعامل معهما؛ إذ خرقت الحظر المفروض على إيران وأبرمت معها ومع البرازيل اتفاقًا لتصدير اليورانيوم(25)، ولم تلتزم تمامًا بالعقوبات الأوروبية الاقتصادية على روسيا.
ضمن هذه السياسة، وخصوصًا مع جمود ملف عضويتها في الاتحاد الأوروبي، سعت أنقرة لدخول منظمة “شنغهاي” التي أضحت “شريكًا للحوار” فيها عام 2013 وتقدمت لعضويتها عام 2014(26). كما سعت لشراء منظومة صاروخية دفاعية بعيدة المدى من الصين، قبل أن يتعرض المساران لانتكاسة مع أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني الفائت(27).
دوافع التقارب التركي مع روسيا وإيران
وتقف دوافع عديدة وراء التقارب التركي مع كلٍّ من روسيا وإيران، أهمها:
أولًا: الخسائر الاقتصادية التي تعرضت لها تركيا بعد الأزمة من روسيا، حيث تراجع حجم التبادل التجاري بينهما من 32 مليار دولار عام 2013 إلى 24 مليار دولار عام 2014(28)، وتوقَّف تدفق السياح الروس الذين كانوا يشكلون الكتلة الثانية بعد الألمان بعدد يقارب 4.5 ملايين سائح وعائدات قُدِّرت بـ 3 مليارات دولار، كما جُمِّدت مؤقتًا مشاريع استراتيجية بالنسبة لتركيا مثل مشروعي محطة “أك كويو” للطاقة النووية و”السيل التركي” (Turkish Stream) للغاز الطبيعي اللذين يبلغ حجم الاستثمار الإجمالي فيهما 40 مليار دولار.
ثانيًا: ارتباط أمن الطاقة التركي بالدولتين إلى حدٍّ كبير؛ حيث تستورد تركيا 55% من حاجتها من الغاز الطبيعي و7% من حاجتها من النفط من روسيا(29)، وتستورد 16% من حاجتها من الغاز الطبيعي و26% من حاجتها من النفط من إيران(30).
ثالثًا: موقف كلٍّ من روسيا وإيران السريع والواضح الداعم للحكومة التركية في مواجهة الانقلاب، إضافة للدعوة الروسية لأردوغان لزيارة سان بطرسبورغ وزيارة ظريف لأنقرة.
رابعًا: خيبة الأمل التركية من المواقف الغربية إثر الانقلاب والتي اعتبرتها غير كافية ومتأخرة(31).
خامسًا: رغبة أنقرة بالعودة للتوازن في محاور سياستها الخارجية بالاتجاه شرقًا في ظل شعورها بعد الاطمئنان للمواقف الغربية إلى جانبها، أولًا إثر إسقاط المقاتلة الروسية ثم لاحقًا مع الانقلاب العسكري.
سادسًا: في ظل انكفاء تركيا على ملفاتها الداخلية سيناسبها تهدئة بعض الملفات الخارجية المتأزمة وفي مقدمتها الملف السوري الذي تملك روسيا تحديدًا كلمة نافذة فيه، سيما في جزئية الفصائل الكردية المسلحة التي تعتبرها تركيا منظمات إرهابية وترى مشروعَها في شمال سوريا خطرًا على أمنها القومي.
جاءت تقييمات الطرفين الروسي والتركي لزيارة أردوغان إلى روسيا إيجابية، في ظل الاتفاقات الاقتصادية، وبذور التفاهم حول سوريا، وصولًا لتصريحات تركية بإمكانية فتح قاعدة إنجيرليك ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة للناتو أمام المقاتلات الروسية(32).
لكن هذا الانفتاح التركي على كلٍّ من روسيا وإيران تعترضه عقبات رئيسة، منها:
1- ما زالت الأطراف في بداية الطريق لتصويب العلاقات، في ظل أزمة ثقة تسبَّبت بها أزمة إسقاط المقاتلة الروسية.
2- ليس لدى تركيا ضمانات حول ما يمكن أن تقدِّمه لها روسيا أبعد من الملف الاقتصادي خصوصًا في الأزمة السورية؛ مما يجعل الخطوات التركية حذرة وبطيئة خشية استغلال موسكو للتقارب معها دون مكاسب حقيقية لها.
3- الملفات الخلافية الكثيرة، وفي مقدمتها الأزمة السورية وإقليم ناغورنو كاراباخ والقرم وغيرها.
4- الوضع الميداني في سوريا الذي يضع البلدين عمليًّا وجهًا لوجه من خلال تقدم المعارصة المدعومة تركيًّا، وقصف الطائرات الروسية لها.
5- الموقف الأميركي والأوروبي المتوجس من التقارب التركي-الروسي في ظل توتر العلاقات مع أنقرة، والمشكِّك في مصداقية النوايا الروسية.
6- تضع تركيا في حسبانها مواقف الدول الداعمة للمعارضة السورية، مثل السعودية وقطر، التي قد لا تؤيد تقاربها مع موسكو.
السيناريوهات المستقبلية
بالنظر إلى المسار التاريخي للسياسة الخارجية التركية ورؤية العدالة والتنمية لها، ثم متغيراتها ما قبل المحاولة الانقلابية والتداعيات بعدها، وبعد انقضاء المرحلة الأولى التي ركزت فيها أنقرة على المشهد الداخلي بشكل شبه حصري، يمكن القول بأنها ستستمر على المدى المتوسط في مسيرة المصالحات مع مختلف الأطراف لتخفيف الضغط الخارجية عنها.
أما على المدى الاستراتيجي، فثمة عوامل ثلاثة رئيسة محدِّدة لمسار سياسة تركيا الخارجية:
– الرؤية التركية لسياستها الخارجية.
– السقف الروسي في احتواء تركيا بعيدًا عن الناتو.
– الموقف الأميركي-الغربي من التقارب التركي-الروسي.
ويمكن رصد ثلاثة سيناريوهات محتملة لبوصلة السياسة الخارجية التركية على المدى البعيد:
الأول: الاتجاه شرقًا لتحسين علاقتها مع الغرب، بمعنى أن لا يكون التقارب مع موسكو وطهران قرارًا استراتيجيًّا للفكاك من المحور الغربي، بل للضغط على واشنطن والمحور الأوروبي-الأطلسي، طبقًا لنظرية “القوس والسهم” التي اجترحها داود أوغلو(33). وهو السيناريو الأوفر حظًّا لعدة أسباب، أهمها: عمق العلاقات التركية-الغربية، ومصالح حلف الناتو في تركيا، التي منها: قاعدة إنجيرليك العسكرية، وصعوبة التغييرات الجذرية في السياسة الخارجية وكلفتها، وتعارض مصالح تركيا مع مصالح كل من روسيا وإيران في معظم الملفات ذات الاهتمام المشترك.
الثاني: موازنة محاور السياسة الخارجية، لتعود مجددًا متعددة المحاور بما يعطي لتركيا مساحة من الاستقلالية النسبية في قراراتها المتعلقة بعدد من الملفات كقضايا الإقليم الخلافية مع معظم الأطراف. وفق هذا المسار يمكن لأنقرة أن تبقى عضوًا في حلف الناتو وضمن مسار عضوية الاتحاد الأوروبي بالإضافة لسعيها لدخول منظمة شنغهاي وزيادة وتيرة التعاون الاقتصادي مع كلٍّ من روسيا والصين وإيران. وهو سيناريو أقل حظًّا من سابقه، ويمكن أن يحظى بفرصة فقط في حال وجود رغبة قوية لدى الطرفين التركي والروسي بتعاون حقيقي، وتعزز من فرصه الخلافاتُ التركية-الأوروبية الآخذة بالاتساع، وأي حلٍّ للأزمة السورية قد يُنهي التناقض بين الطرفين فيها.
الثالث: رسم مسار مستقل للسياسة الخارجية التركية، يمكن أن يخرجها من عضوية أحد المحورين أو التبعية له، لتكون رائدًا لمحور إقليمي يضم كلًّا من السعودية وقطر وقد يُضمُّ له لاحقًا بعض دول الخليج و/أو مصر، أو محور دولي يضم الدول النامية البعيدة عن استقطاب المحاور، مثل: الصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا. وهو سيناريو ضعيف الاحتمال لعدة سياقات، أهمها: محدودية إمكانات الدول الإقليمية المذكورة وضعف التنسيق بينها وبين تركيا، وصعوبة تشكُّل محاور خارج دائرة الاستقطاب الأميركي-الروسي.
السياسات الإقليمية
سارت تركيا قبل المحاولة الانقلابية في طريق المصالحات مع عدة أطراف في الإقليم، الإمارات ودولة الاحتلال الإسرائيلي وروسيا، مع إشارات على مصالحات أو متغيرات محتملة مع دول أخرى، مثل: مصر والعراق وسوريا.
أما بعد الانقلاب، فستتشكل سياسات أنقرة الإقليمية وفق المحددات التالية:
1- المحددات العامة للسياسة الخارجية التركية، مثل: الموقع الجيوبوليتيكي، والقوة والمصالح الاقتصادية، والخلفية التاريخية للسياسة الخارجية ومحاورها، والأمن القومي، ورؤية القيادة السياسية، وغيرها.
2- تغليب التركيز على المشهد السياسي الداخلي.
3- التأثر بالمسار الرئيس للسياسة الخارجية ببُعدها الدولي على مستوى العلاقة مع كل من واشنطن وموسكو.
4- التناغم مع استحقاقات التقارب مع روسيا.
5- مواقف الدول الإقليمية خلال المحاولة الانقلابية وما بعدها.
وعليه، فالمتوقع في سياسات تركيا الإقليمية، سيما المتعلقة بالمنطقة العربية، ما يلي:
أولًا: دعم عملية المصالحات بما قد يشمل سوريا والعراق(34).
ثانيًا: الانكفاء والبُعد عن التأثير في قضايا عربية معينة، في مقدمتها: الفلسطينية واليمنية والمصرية.
ثالثًا: البعد عن المواقف الحادة والسقوف العالية في الخطاب فيما يتعلق ببعض الدول الإقليمية سيما إيران ومصر، خصوصًا بعد الإشارات الإيجابية التي صدرت عن القاهرة مؤخرًا(35).
رابعًا: انخفاض سقف الشروط التركية لحل الأزمة السورية بما يتوافق مع متطلبات التقارب مع روسيا ومع أولوية الملف الكردي في سوريا بالنسبة لأنقرة، بما في ذلك الرضى الضمني ببقاء الأسد على رأس السلطة لفترة قادمة(36).
خامسًا: التركيز على الملف الاقتصادي وتنمية التعاون مع مختلف الأطراف في المجالات التجارية، سيما روسيا وإيران.
خاتمة
افتتح فشل المحاولة الانقلابية في الخامس عشر من يوليو/تموز الماضي، مرحلة جديدة ومختلفة في السياسة الداخلية التركية على مستوى العلاقات المدنية-العسكرية وعلاقة الحزب الحاكم بالمعارضة وبنية النظام السياسي بالإجمال. وأدَّى أيضًا إلى انعكاسات عميقة على السياسة الخارجية التركية بما هي انعكاس -بدرجة أو بأخرى- للمشهد السياسي الداخلي وبما تضمَّنه الانقلاب من رسائل من الخارج فضلًا عن تأثيره على علاقات تركيا مع مختلف الأطراف تبعًا لمواقفها خلال الانقلاب وبعده.
وإن كانت تركيا قد تخطَّت على مدى الأسابيع القليلة الماضية المرحلة الأولى التي انكفأت فيها تمامًا على السياسة الداخلية، فقد بدأت المرحلة الثانية باستئناف مسيرة المصالحات مع مختلف دول المنطقة. بينما سيكون عليها في المرحلة الثالثة -على المدى البعيد- أن ترسم معالم سياستها الخارجية استراتيجيًّا.
وبالنظر إلى الخلفية التاريخية لعلاقات تركيا الغربية واستحقاقات تموضعها في حلف شمال الأطلسي منذ بداية الحرب الباردة وحتى الآن إضافة إلى واقع الملفات الخلافية مع المحور الروسي-الإيراني، فإن المنتظر من أنقرة هو العمل على تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية مع هذا المحور قدر الإمكان واستثمار العلاقات النامية معه للضغط لتحسين موقعها في المنظومة الغربية على المدى البعيد من ناحية أخرى، فيما سيبقى الدور التركي في قضايا الإقليم (سيما العالم العربي) فرعًا من التصور العام للسياسة الخارجية التركية وتبعًا لمسارات التهدئة والتقارب مع روسيا.
مراجع
1- محفوظ، عقيل سعيد، السياسة الخارجية التركية الاستمرارية-التغيير، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012)، ص 40-42.
2- Uslu, Nasuh, The Turkish-U.S. Relationships Between 1947 and 2003: The History of a Distinctive Alliance, (Nova Science Publishers ?nc., New York, 2003), p. 111.
3- Ceylan, Musa, Yeni Nato So?uk Sava?tan S?cak Sava?a, (Ülke Kitaplar?., ?stanbul, 1999), p. 20.
4- داود أوغلو، أحمد، العُمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010)، ص 608-611.
5- المصدر السابق، ص 614-615.
6- يلدريم: سنزيد أصدقاء تركيا ونقلِّص أعداءها في المنطقة والعالم، وكالة الأناضول للأنباء، 16 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/CuSrPs
7- ذَكَر البيان “إعادة كسب المكانة الدولية التي خسرتها الدولة” ضمن أهداف الانقلاب. انظر مثلًا:
نص بيان انقلاب تركيا الفاشل، الجزيرة نت، 17 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/dNHzRS
8- TÜS?AD ABD Temsilcili?i De?erlendirme Raporu, ‘’Türk- Amerikan ?li?kilerine Bak??: Ana Temalar ve Güncel Geli?meler’’, Temmuz 2002, p. 3. at: http://goo.gl/qLjx6E
9- Hale, William, Turkey, the US and ?raq, (SOAS Middle East Series, SAQI in association with London Middle East ?nstitute SOAS, London, 2007), p. 114.
10- Remarks By President Obama To The Turkish Parliament, The White House, 6 April 2009, (Entrance Date: 17 August 2016): http://goo.gl/jcKC3U
11- تركيا.. طائرات انطلقت من «إنجرليك» زوَّدت مقاتلات الانقلاب بالوقود جوًّا 20 مرة، الخليج الجديد، 30 يوليو/تموز، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://thenewkhalij.org/ar/node/42956
12- صحيفة تركيَّة: هكذا قاد الجنرال الأميركي الانقلاب في تركيا، عربي 21، 26 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/QwiZaF
13- وزير تركي: من ينتقد تركيا الآن عليه توجيه هذه الانتقادات للسيسي الانقلابي في مصر، TRT العربية، 23 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/VFTROl
14- واشنطن ترد على الاتهامات التركية بدعم الانقلاب الفاشل، الحرة، 10 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://www.alhurra.com/a/us-response-military-coup/318494.html
15- يلدريم: قد نعيد النظر في علاقتنا مع واشنطن إذا رفضت تسليمنا غولن، ديلي صباح العربية، 18 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/D2vxI4
16- أردوغان وبوتين يتفقان على إنشاء لجنتين لبحث الأزمة السورية، العالم، 10 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://www.alalam.ir/news/1849027
17- COOK, Steven, and KOPLOW, Michael J., Turkey is No Longer a Reliable Ally, The Wall Street Journal, 10 August 2016, (Entrance Date: 17 August 2016): http://goo.gl/bg1y8N
18- الناتو: عضوية تركيا في الحلف ليست موضع نقاش، الجزيرة نت، 10 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/AZuX48
19- بروكسل تحذِّر أنقرة بتجميد مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي، روسيا اليوم، 29 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): https://goo.gl/dj27DV
20- موغيريني تحذِّر تركيا من تفعيل عقوبة الإعدام، الميادين، 22 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/52pe2H
21- جاويش أوغلو يلوِّح مجددًا بإمكانية تراجع تركيا عن “إتفاقية إعادة اللاجئين”، تركيا بوست، 1 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://www.turkey-post.net/p-145897/
22- جنرال أميركي: حلفاؤنا في الجيش التركي في السجون، الجزيرة نت، 29 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/2g8oTT
23- Kerry Warns Turkey That Actions Could Have NATO Consequences, Foreign Policy, 18 July 2016, (Entrance Date: 17 August 2016): http://goo.gl/Edp1Ow
24- US nukes in Turkey vulnerable to ‘terrorists & other hostile forces’ – think tank, RT, 15 August 2016, (Entrance Date: 17 August 2016): https://goo.gl/kzfC5c
25- اتفاق تركي-إيراني-برازيلي لتبادل اليورانيوم بالوقود النووي، فرانس 24، 17 مايو/أيار 2010، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/LR7RJf
26- تركيا تنضم “كشريك حوار” لمنظمة شنغهاي وتقول إن مستقبلها في آسيا، رويترز، 26 إبريل/نيسان 2013، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/AC66pt
27- الحاج، سعيد، “انعكاسات الأزمة مع روسيا على تركيا استراتيجيًّا”، الجزيرة نت، 14 ديسمبر/كانون الأول 2015، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/f7pbSu
28- اقتصاد الاتحاد الروسي، موقع وزارة الخارجية التركية، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016): http://www.mfa.gov.tr/rusya-ekonomisi.tr.mfa
29- تركيا تحتاج 72 مليار متر مكعب من الغاز بحلول 2030، وكالة الأناضول للأنباء، 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/CnirYc
30- ?NAT, Kemal, Türkiye – ?ran Ekonomi ?li?kileri, (SETA, ?stanbul, July 2015): http://goo.gl/pnCo7e
31- أردوغان: من نصبوا فخ الانقلاب لتركيا وقعوا فيه، ديلي صباح العربية، 30 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/kKiZTI
32- هل ستسمح تركيا للطائرات الحربية الروسية باستخدام قاعدة “إنجيرليك” الجوية، تركيا بوست، 17 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016): http://www.turkey-post.net/p-148626/
33- داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص 145.
34- يلدريم: سنشهد تطورات جميلة في سوريا مثلما حلَلْنا مشاكلنا مع إسرائيل وروسيا، رأي اليوم، 10 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016): http://www.raialyoum.com/?p=496834
35- الخارجية المصرية: نرحب بأي جهد جاد وحقيقي للتقارب مع تركيا، وكالة الأناضول للأنباء، 14 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/pMRPUJ
36- رئيس الوزراء التركي: اقتربنا من الحل للأزمة السورية، سبوتنيك نيوز، 15 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016): http://goo.gl/cAQH6n
مركز الجزيرة للدراسات