لا يمكن النظر إلى تاريخ الحركة الكردية من دون النظر إلى الدور الذي قام به مشايخ الدين، مثل الشيخ محمود الحفيد في كردستان العراق في الحرب العالمية الأولى، حيث نفته بريطانيا (كانت تحتل العراق) إلى الهند، إثر إعلانه مملكة كردستان، والشيخ سعيد بيران الذي قاد ثورة إسلامية ببعد قومي ضد إلغاء مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية، عقب إعلانه الجمهورية التركية عام 1923. وعلى الرغم من هذا الدور لعلماء الدين، إلا أن الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي، في كردستان، يعد حديث النشأة، وتحمل تجربته أسئلة كثيرة عن كيفية التوفيق بين البعدين، الديني والقومي.
تعود جذور الحركات الإسلامية في كردستان العراق إلى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وظهرت امتداداً لحركة الاخوان المسلمين في مصر، متأثرة بأفكار حسن البنا، ولم تتجسد في تنظيم سياسي، إلا في نهاية السبعينيات مع الشيخ عثمان عبد العزيز الذي أسس الحركة الإسلامية في كردستان عام 1978. وانتشرت حركات الإسلام السياسي في إقليم كردستان بشكل أساسي في الثمانينيات والتسعينيات، متأثرة بحدثين أساسيين: قيام (الثورة الإسلامية) في إيران عام 1979 التي كان لها الدور الأكبر في بروز حركات إسلامية جديدة، أو ولادة حركات جديدة انشقت عن الحركة الإسلامية، قبل أن تتحول الأخيرة إلى الاتحاد الإسلامي الكردستاني. والانفصال العملي لإقليم كردستان العراق عن المركز عام 1991، وولادة تجربة الإقليم في ظل مناخ سياسي، برز فيه دور حركة طالبان، وغيرها من الحركات التي كانت لها تأثير في ولادة حركات إسلامية في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، بينها كردستان، وقد اتسمت الحركات الأخيرة بالجهادية وممارسة العنف، فكان تنظيم عصبة الأنصار، بزعامة الملا كريكار، وحزب الله بزعامة أدهم البارزاني، وغيرهما من الحركات الإسلامية المتشددة التي اتخذت من المناطق الحدودية مع إيران، ولاسيما حلبجة ورانية وقلعة دزه معاقل لها، ودخلت في صدام دموي مع الأحزاب الأساسية، ولاسيما الاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة جلال الطالباني عام 1993، ومن ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود البرزاني.
وقد لجأت هذه الأحزاب إلى تصوير الحركات الإسلامية التي انتهجت العنف أنها على صلة بتنظيم القاعدة وحركة طالبان، حتى أن الولايات المتحدة قصفت مواقعها وقتلت عشرات من أنصارها، وحوكم زعيم تنظيم عصبة الأنصار، الملا كريكار، في النرويج بوصفه إرهابياً على صلة بتنظيم القاعدة، وقد ظهرت هذه التجربة الصدامية قبل الحركات الإسلامية التي نادت بإقامة دولة إسلامية تجربة بلا أفق سياسي في كردستان، ولعل هذا ما دفع هذه الحركات لاحقاً إلى مراجعة تجربتها، ومحاولة المواءمة بين سعيها العقيدي إلى إقامة دولة إسلامية والممارسة السياسية التي تقوم على خوض الانتخابات، والمشاركة في الحياة السياسية والعامة في إقليم كردستان العراق.
في الإجمال، تتشكل خريطة الحركة الإسلامية في كردستان من مجموعة من الأحزاب والقوى التي تبحث عن موقعٍ ثابت لها في الخريطة السياسية الحزبية التي تتنافس بقوة على المشهد السياسي، ولعل من أهم هذه الأحزاب والتيارات:
1- تيار الجماعة الإسلامية في كردستان العراق، بزعامة الملا علي بابير، وهو انشق عن
“محاولة للتوفيق بين البعدين الديني والقومي في خطاب الحركة الإسلامية الكردية”
الحركة الإسلامية، بعد تفاقم الخلافات بينه وبين مرشد الحركة الإسلامية الملا علي عبد العزيز الذي تسلم الحركة، بعد وفاة شقيقه عثمان عبد العزيز، وقد انتشرت الجماعة بشكل أساسي في الريف الجبلي، وتتميز بوجود تيارات سياسية عديدة بداخلها. وعلى الرغم من اعتمادها مفهوم الجهاد والشورى، إلا أنها انخرطت بقوة في العملية السياسية والانتخابية في السنوات الأخيرة. 2- الاتحاد الإسلامي الذي يشغل منصب أمينه العام صلاح الدين محمد بهاء الدين، وهو يعتبر الفرع الكردي للإخوان المسلمين في العراق، وقد تأسس عام 1994، ويعد عملياً التنظيم الرابع في كردستان، بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير، ويعتبر الأكثر شعبيةً بين الحركات الإسلامية في كردستان العراق.
3- جماعة أنصار الإسلام بزعامة الملا كريكار، واسمه الحقيقي نجم الدين فرج، ويكنى أبو سيد القطب، وتأسست عام 2001 وانتهجت في البدايات العنف، واصطدمت مع الأحزاب الكردية، ولاسيما الاتحاد الوطني الكردستاني. 4- إلى جانب هذه التنظيمات الأساسية، ثمّة مجموعة من التنظيمات الصغيرة التي تعتمد العنف والسرية في عملها، لعل أبرزها تنظيم جند الإسلام والتوحيد وحماس الإسلامي، فضلاً عن خلايا لداعش، وغالباً ما تكفر هذه التنظيمات الأحزاب الكردية الكبرى، وتتهمها بالإلحاد والعمالة لأميركا.
وكان لافتاً قبل فترة إعلان الزعيم السابق للاتحاد الإسلامي الكردستاني، محمد فرج، إنه يعمل من أجل إقامة دولة كردية مستقلة، مطالباً بحل المشكلات بين بغداد وأربيل. وقد جاء هذا الإعلان في سياق سياسيٍّ له علاقة بالانتخابات البرلمانية التي جرت، حيث حقّقت الحركة الإسلامية نتائج جيدة في هذه الانتخابات، حفزت من مشاركة الحركة الإسلامية في الحياة السياسية العامة في البلاد من خلال أوسع مشاركة في الحكومة.
ويمكن النظر إلى إشكالية الجدل القومي والديني لدى الحركة الإسلامية في كردستان من زاويتين : التطور الكبير في خطاب الحركة الإسلامية لجهة الانتصار للانتماء القومي والوطني الكرديين، بالتوافق مع البعد الديني، ويظهر هذا الأمر أكثر كلما صعد الخلاف بين أربيل وبغداد إلى السطح، وكذلك انسجاماً مع صعود التطلع الكردي نحو الاستقلال.
تحديد طبيعة الحكم في كردستان. وهنا، يبرز تمسك الحركة بالشريعة الإسلامية أساساً للدستور، وإمكانية تطبيقها في كردستان، وقد تفجر هذا الأمر جلياً في مناقشات البرلمان الكردي لدستور إقليم كردستان، حيث أصرّت الأحزاب الإسلامية على التمسك بمطلبها السابق، في ظل تمسك الأحزاب الأساسية الكبرى بدستور علماني.
وبغض النظر عن مدى التداخل بين البعدين، الديني والقومي، في خطاب الحركة الإسلامية الكردستانية، ثمّة محاولة للتوفيق بين البعدين، وفقاً لمعادلةٍ سياسيةٍ كرّستها تجربة إقليم كردستان في الحكم، وهي تجربة تقوم على استيعاب الحركة الإسلامية، انطلاقاً من انتهاجها خطاباً معتدلاً يتيح للإقليم تطوره وتحقيق تطلعاته.