تنصب جهود موسكو العسكرية في سورية على سحق المقاومة المسلحة لنظام الأسد، ونزع مخالب المعارضة وأنيابها، مستغلة مرحلة الصمت الانتخابي الأميركي، وإعادة فرض نظام الأسد مجدداً، سواء بقوة الأمر الواقع، أو من خلال القضاء على الفصائل الوطنية السورية، والإبقاء فقط على النظام والتنظيمات المتطرفة، بحيث يتم ابتزاز المجتمع الدولي من خلال وضعه أمام خيار ثنائي: إما قبول النظام السوري على علاته، أو السماح بانتصار وتفشي التنظيمات المتشددة، التي تشكل خطراً شاملاً على الأمن والسلم العالميين.
إن التصدي لهذا المخطط يقتضي إنشاء كيان عسكري وطني سوري، والاعتراف به كحركة تحرير وطني، تقاتل الديكتاتورية والغزاة والتنظيمات المتطرفة في آن، ودعمه لتحقيق الإنجازات التي ستدفع الثوار السوريين للالتفاف حوله، بعدما أرهقهم التشتت وانعدام الحيلة وغياب الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه في مواجهة التحالف الروسي الايراني ضده، وبالتالي جعل هذا القطب العسكري رقماً لا يمكن القفز فوقه في أي خطة أو تسوية محتملة.
والحديث هذا عودٌ على المقترح القديم الجديد، بإنشاء جيش وطني سوري، يكون عماده العسكريين المنشقين، إضافة إلى ما يزيد على ثلاثين ألف جندي ممن كانوا يؤدون الخدمة الإلزامية، وجميعهم مدربون ومؤهلون لخوض تجربة العمل العسكري المنظم، وتضم كتلتهم عناصر من الاختصاصات كافة التي تحتاج إليها الجيوش المتكاملة، ووفق تراتبية قيادية ومهنية واضحة، تشمل عدداً من كبار الضباط ذوي التأهيل العسكري الممتاز، كما تضم بقية سلسلة الرتب من المتوسطة إلى الصغيرة والميدانية، كما أن بينهم عناصر من كافة فئات ومكونات الشعب السوري، ما يشكل ضمانة لوطنية هذه المؤسسة وعموميتها الوطنية، ولا ينقصها والحال هذه من الناحية الفنية والبشرية سوى التسليح المناسب، والدعم اللوجستي الكافي لإدارة عجلة هذه المؤسسة وانطلاقها نحو أهدافها.
لقد اصطدم مشروع هذا الجيش على الدوام برفض اميركي شبه علني، ولربما كان أوباما وفريقه يأملون بحدوث انتقال سياسي للسلطة يتم وفقه إعادة تأهيل وإصلاح جيش النظام السابق، وزج المنشقين في صفوفه لإحداث تغيير شامل في بنيته وتنظيمه، لكن التدخل الروسي وإصراره على إبقاء النظام بكافة أجهزته وأركانه يجعل التحرك باتجاه إنشاء جيش خاص بالمعارضة الخيار الأمثل للقوى الحليفة للشعب السوري، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تواجه خطر انحسار نفوذها في مجمل الشرق الأوسط في ما لو هيمن الروس على سورية نهائياً. والأمر ذاته ينطبق على دول الإقليم، المهددة بهزيمة تاريخية أمام المحور الإيراني، وقد آن الأوان لها لتوحيد جهودها، والتخلي عن سياسة بسط النفوذ على الساحة السورية من خلال تنظيمات صغيرة مرتبطة بها، والعمل على إنشاء قوة وطنية مستقلة، تقف على مسافة واحدة من جميع الحلفاء، وليس لها سوى هدف وحيد هو تحرير سورية ومنع سقوطها في قبضة إيران.
وسيحظى جيش قوي يحارب النظام ويدحره، ويعمل بمفهوم المؤسسة الوطنية المسؤولة، بدعم المجتمع السوري الذي لا يزال يستذكر بكثير من الأمل، تجربة الجيش الحر المشرقة، ويزداد تبرمه يوماً بعد آخر من ظاهرة التنظيمات الدينية المسلحة، التي تريد فرض اجنداتها وايديولوجيتها عليه بالقوة والإكراه، بخاصة بعدما بدأت هذه التنظيمات بالتناحر في ما بينها، وإهراق دماء ما لا يحصى من الشبان السوريين الذين انخرطوا في هذه الفصائل ذات يوم، على أمل أن يساهموا في تخليص شعبهم من نظام الأسد القاتل، ليقعوا فريسة النزعات السلطوية والتسلطية لأمراء الحرب، وصراعهم على النفوذ والهيمنة.
إضافة إلى ذلك، فإن جيشاً وطنياً، هو الكيان الوحيد الذي يمكن أن تُعهد إليه رعاية أي عملية انتقالية أو اتفاق سلام محتمل. ففي ظل انتشار السلاح بكثافة غير مسبوقة، وتفشي ثقافة العنف، لا يمكن لأي حل أن يكون ممكناً من الناحية الواقعية، من دون قوة عسكرية قادرة ومنظمة ومحايدة أيديولوجياً. وهذا ما لا ينطبق بطبيعة الحال على قوات النظام، التي قتلت ما لا يقل عن نصف مليون سوري، وهجرت نحو اثني عشر مليوناً آخرين، والمعتمدة على الميليشيات المذهبية الأجنبية، ولا ينطبق ايضاً على الفصائل الإسلامية، التي يرفض معظمها المشروع الوطني السوري، وتعلن بلا مواربة محاربتها أي توجه وطني أو ديموقراطي أو تعددي.
في بيئة اليباب التي وفرها نظام الأسد لكل أنواع الوحشية والعنف، لن يكون في الإمكان شق الطريق مجدداً إلى غد أفضل لسورية، إلا تحت حراسة بندقية وطنية، يحملها سوريون مخلصون لوطنهم وشعبهم، ويدعمهم ويقف وراءهم العالم الحر، برؤية أخلاقية وسياسية واضحة. أما الاستمرار في المماحكات العقيمة في مجلس الأمن، أو ضخ مزيد من السلاح في الميدان السوري، من دون أي استراتيجية، فإنه مجرد إطالة عبثية وغير مسؤولة لهذا الصراع الذي يستنزف أرواح مئات الأبرياء يومياً.