يعبر قرار تعليق مفاوضات انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، الذي صوت عليه البرلمان الأوروبي في الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، عن مدى تأزم العلاقات التركية الأوروبية التي باتت تشهد توترا متزايدا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في تركيا مساء الخامس عشر من يوليو/تموز الماضي، خاصة وأنه ربط مسوغات وحيثيات القرار بالإجراءات التي قامت بها الحكومة التركية وبحالة الطوارئ التي فرضتها بعد المحاولة الفاشلة لملاحقة الذين قاموا بتنفيذها ووقفوا وراءها، واشترط تفعيل مسيرة مفاوضات الانضمام برفع حالة الطوارئ.
انتكاسة وتأزم
وبالرغم من أن قرار تعليق أو تجميد المفاوضات مؤقتا وليس ملزما للقادة الأوروبيين، ويستلزم موافقة المجلس الأوروبي الذي يتكون من رؤساء الدول الأوروبية الثانية والعشرين، كي يصبح نافذا، فإنه يعبر عن انتكاسة جديدة في علاقات الطرفين، التركي والأوروبي، أراد الأوروبيون من خلالها توجيه رسالة قوية إلى تركيا.
وسبق للمفوضية الأوروبية أن جمدت مفاوضات انضمام تركيا جزئيا على خلفية الأزمة القبرصية عام 2006، وترتب على ذلك إبطاء المفاوضات، كما أوقف اعترض قبرص الجنوبية فتح ثمانية فصول من الفصول الخمسة والثلاثين اللازمة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي.
“رغم أن قرار تعليق أو تجميد المفاوضات مؤقتا وليس ملزما للقادة الأوروبيين، ويستلزم موافقة المجلس الأوروبي كي يصبح نافذا، فإنه يعبر عن انتكاسة جديدة في علاقات الطرفين، التركي والأوروبي، أراد الأوروبيون من خلالها توجيه رسالة قوية إلى تركيا”
وتزيد الانتكاسة الجديدة من عوامل تأزم العلاقات التركية الأوروبية، خاصة أن ما وراء القرار يستهدف الأوضاع في تركيا، وما شهدته من اعتقالات وملاحقات قضائية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، في ظل رفض دول الاتحاد الأوروبي تضييق الخناق على أعضاء حركة فتح الله غولن التي اتهمتها أنقرة بالتخطيط والوقوف وراء الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/تموز، إلى جانب الاستنكار الأوروبي للتوقيفات التي جرت ضمن صفوف حزب الشعوب الديمقراطي ذي الأغلبية الكردية، والتلويح بإعادة العمل بحكام الإعدام، والتقارب مع روسيا، وبوادر فشل اتفاق إعادة اللاجئين الذي أبرمته تركيا مع الاتحاد الأوروبي في مارس/آذار الماضي.
ولعل ما يثير حفيظة المسؤولين الأتراك هو الدعم الذي يتلقاه حزب العمال الكردستاني في أغلب الدول الأوروبية، وهو الحزب الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية وتخوض في أيامنا هذه حربا ضد مقاتليه في الجنوب الشرقي من تركيا، إضافة إلى موقف بعض الدول الأوروبية من القضية الأرمنية، وآخرها موافقة البرلمان الألماني في الثاني من يونيو/حزيران 2016، على مشروع قانون يعترف بدور تركيا فيما جرى للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، ويصف ما قام به العثمانيين آنذاك بأنه “إبادة جماعية”.
غير أن عملية التفاوض بين الجانبين عرفت انتكاسات وتجاذبات عديدة، كونها لم تشهد تعاونا فعليا بينهما، فيما شهدت عمليات تفاوض أخرى مع دول أوروبا الشرقية تساهلا أوروبيا لافتا، وخاصة مع كل من بلغاريا ورومانيا وسواهما من الدول التي لم تكن تتمتع بنفس المستوى من الدمقرطة ولا بذات القوة الاقتصادية أو الاستقرار، بل عمد الاتحاد الأوروبي إلى سياسة التهديد والتحذير حيال تركيا، تلبية لأهداف سياسية داخلية، ترضي أوساط اليمين المتطرف الشعبوي الرافض لقبول لأجانب، والمعادي للإسلام.
ولم يتبن الاتحاد الأوروبي إستراتيجية تخدم مصالح الطرفين، الأمر الذي عرض مسيرة التفاوض إلى أزمات وتوترات، حيث لم يفتح خلالها سوى ستة عشرة فصلا من الفصول اللازمة لنيل العضوية، بالرغم من أنها استهلكت وقتا طويلا، وهو ما أفضى إلى تناقص أعداد الأتراك المؤيدين لانضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، وخلق نوعا من خيبة أمل مريرة في أوساط الشارع التركي، وخاصة بين أوساط القوميين والمؤيدين لحزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع أجرته شركة (ORC) مؤخرا تدني نسبة المؤيدين لانضمام تركيا إلى الاتحاد إلى 21.5%، فيما عارض 65% من المشاركين في الاستطلاع مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في حين امتنع 13.5% عن التصريح برأيهم، في حين أن نسبة تأييد انضمام تركيا تجاوزت 70% عام 2002، وفق مؤسسة AP-GFK))، مع الإشارة إلى أن نسبة التأييد تتركز أكثر على مناطق تواجد الأكراد.
رد الفعل التركي
واتسمت ردود الفعل على الجانب التركي بالتقليل من أهمية وتأثير القرار على تركيا، ولم تخل تصريحات المسؤولين الأتراك من تحذيرات باتخاذ إجراءات مضادة في “حال التمادي الأوروبي”، بحسب تعبير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فيما اعتبر رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، أن القرار “لا قيمة له”، وذهب وزير الخارجية مولود جاويش أوغلوا إلى اعتباره “يصغر البرلمان الأوروبي والاتحاد الأوروبي كذلك”، بينما رأى الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن أن “تعاظم ظاهرة العداء للإسلام (الإسلاموفوبيا) وكثرة المجموعات المؤيدة لفكرة إبعاد الأجانب إلى خارج الحدود الأوروبية في القارة العجوز، ساهم بشكل كبير في تضييق الرؤية الإستراتيجية المستقبلية للاتحاد الأوروبي، وبفعل تعاظم تلك الظواهر فقد الاتحاد المصداقية والواقعية”، معتبرا أن قرار البرلمان الأوروبي “ناجم عن أحكام مسبقة غير صحيحة.”
وبالرغم من كل ذلك لا تريد أنقرة أن تصعد أكثر مع الاتحاد الأوروبي، لأنها تعلم أن ذلك سيترك أثره السلبي على اجتماع المجلس الأوروبي في الشهر المقبل، لذلك يحرص المسؤولون الأتراك على ترك الباب أمام القادة الأوروبيين لمراجعة قرار التعليق وعدم إقراره، وهم يعلمون أن الطرفين بحاجة بعضهما، حيث يحرص الاتحاد الأوروبي على إبقاء درجة معينة من الاتصال والتعاون مع تركيا، خاصة في ملف اللاجئين، وكي تبقيهم تلك الدرجة من الاتصال والتعاون على اضطلاع بدور ما في الوضع التركي، وهو ما تؤكده مواقف المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ومنسقة السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني.
غير أن اللافت هو لهجة التصعيد في خطاب الرئيس التركي عبر التهديد بفتح الحدود التركية أمام اللاجئين كي يتدفقوا على دول الاتحاد، إضافة إلى التلويح بإجراء استفتاء شعبي للتصويت على مسألة استمرار تركيا في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وطرحه بدائل تتعلق بتغيير الوجهة، والانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) بدلا من الاتحاد الأوروبي.
“يبدو أن تركيا ليست عديمة البدائل، لكن الأمور لن تصل إلى حد وضع نهاية لحلم تركيا الأوروبي، فهي تريد توسيع دائرة علاقاتها السياسية والاقتصادية، مع أنها تتمتع بصفة “شريك حوار” مع منظمة شانغهاي للتعاون لكن الانضمام لها يتطلب من تركيا التخلي عن مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والخروج من حلف شمال الأطلسي، وهو أمر لا يمكن لتركيا أن تفعله”
ويبدو أن مسألة الانضمام إلى منظمة شنغهاي قد طرحها الرئيس أردوغان مع كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس كازاخستان نور سلطان نزار باييف، ولاقت استجابة وتشجيعا من طرفهما، فيما كانت استجابة القادة الصينيين حذرة، حيث ربط المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية جينغ شوانغ رغبة تركيا بتعزيز علاقاتها مع منظمة شنغهاي للتعاون، بالاستعداد “للعمل جنبا إلى جنب مع أعضاء آخرين في المنظمة ووفقا لقواعد وثائقها القانونية، على أساس التشاور بالإجماع.”
ويبدو أن تركيا ليست عديمة البدائل، لكن الأمور لن تصل إلى حد وضع نهاية لحلم تركيا الأوروبي، فهي تريد توسيع دائرة علاقاتها السياسية والاقتصادية، مع أنها تتمتع بصفة “شريك حوار” مع منظمة شانغهاي للتعاون المكونة من كل من روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان، لكن تعريف المنظمة نفسها بأنها “منظمة سياسية اقتصادية عسكرية أوراسية (وأوربية آسيوية)”، يتطلب من تركيا التخلي عن مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والخروج من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو أمر لا يمكن لتركيا أن تفعله، لأنه ستترتب عليه تداعيات خطيرة.
إذن، يتطلب انضمام تركيا إلى هذه المنظمة تغييرا جوهريا فيها، وسيترتب عليه أيضا تداعيات إقليمية وعالمية خطيرة. إضافة إلى وجود خلافات جذرية ما بين تركيا ودول منظمة شنغهاي التي تتمتع بأنظمة حكم استبدادية، ولعل الرئيس التركي أراد من تهديداته بالانضمام إليها إرسال رسالة للأوروبيين مفادها أن لدى تركيا العديد من البدائل في حال تخلي الأوروبيين عن مسألة انضمامها إلى النادي الأوروبي.
وبالتالي عليهم أن يدركوا بأن دعوة أردوغان هي “رد فعل على حقيقة أن تعهدات الغرب لا يتم الوفاء بها”، حسب وصف الكاتب التركي أحمد تاسغيتيرين، الذي يرى أن علاقات أنقرة مع دول مثل روسيا وإيران عرضة للاشتعال والبرود. فضلا عن اختلافات سياسات أنقرة مع سياسات المنظمة فيما يتعلق بمحاربة الأصولية الإسلامية، إلى جانب خلافاتها مع روسيا بشأن ضم إقليم شبه جزيرة القرم ومصير تتارها، وخلافاتها أيضا مع الصين حول تعامل الأخيرة المجحف بحق “الإيغور”، الأقلية المسلمة ذات الأصول التركية في إقليم شينغيانغ الصيني.
والحاصل أن بحث تركيا عن بدائل لن يعني التخلي عن مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لذلك أكد نائب رئيس الوزراء والمتحدث باسم الحكومة نعمان كورتولموش أن تطوير العلاقات مع منظمة شنغهاي، لا يعني أن بلاده ستضطر إلى إنهاء علاقاتها مع الدول الأخرى، لأن ذلك سيؤثر على سياساتها وتوجهاتها، والأهم أنه سيؤثر على شركاء تركيا الاقتصاديين، وعلى المستثمرين الأجانب، وسيصعب من موقف الحكومة والشركات التركية في الاتفاقات الثنائية مع الدول الأوروبية، وبالتالي فإن قرار البرلمان الأوروبي يبدو كوسيلة ضغط على أنقرة، ويعكس تأزم العلاقات معها، لكن لن يمنع حرص كلا الطرفين على عدم إيصال التأزم إلى مرحلة القطيعة، لأن كلفتها كبيرة عليهما.