اذا كان من السابق لأوانه, التكهن بالمدى الذي سيذهب اليه الرئيس الاميركي المُنتخب دونالد ترامب في توتير (او انفراج) علاقات بلاده مع جمهورية الصين الشعبية, وبخاصة بعد مكالمته الاخيرة مع رئيسة تايوان تساي إينغ- وين, التي خرق فيها بروتوكول اميركي بقي صامداً منذ العام ,1979 يقوم على اساس اعتراف الولايات المتحدة بوحدة الاراضي الصينية واعتماد الخارجية الاميركية سياسة «صين واحدة»، التي افضت في ذلك العام الى قطع العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وتايوان، فإن من السذاجة صرف النظر عن «الرسالة» التي اراد ترامب ارسالها الى بيجين في هذا الشأن, وبخاصة ان مضمون المكالمة الهاتفية تجاوز المجاملات الى ما هو ابعد من ذلك, وهو الامر الذي اعترف به البيان الذي اصدره الفريق المحيط بترامب, والذي يدير المرحلة الانتقالية الراهنة تمهيدا لليوم المشهود في العشرين من الشهر المقبل. يقول البيان: ان الرئيس المُنتخَب ورئيسة تايوان، تطرّقا الى العلاقات «الوطيدة» في مجال الامن والسياسة والاقتصاد بين تايوان والولايات المتحدة.واذا ما اخذنا في الاعتبار «تغريدة» ترامب نفسه حول «المليارات» التي تجنيها بلاده من مبيعات الاسلحة لتايوان, فاننا نكون امام سياسة جديدة، تُناقِض تماما سياسة «صين واحدة» التي بقيت قاعدة لعلاقات واشنطن وبيجين, رغم ما مرّت به (وما تزال) من توترات واحتقانات على مدى العقود الاربعة الماضية, وصلت ذروتها مؤخرا (اذا ما تجاوزنا اسطوانة واشنطن المشروخة حول حقوق الانسان والحريات) في مسألة بحر الصين الجنوبي, والمناورات العسكرية التي تُجريها واشنطن مع دول المنطقة «المعادية» للصين وخصوصا اليابان وكوريا الجنوبية التي اقامت على اراضيها منظومة صواريخ (THAAD).
قال ترامب في تغريدته: من المُثير كيف ان الولايات المتحدة، تبيع تايوان معدات عسكرية بمليارات الدولارات، وبالمقابل ينبغي انا, ألاّ اقبل «الرد» على اتصال للتهنئة.
معنى ذلك ان الرئيس الجديد، الذي هو بغير تجربة سياسية او صاحب باع في الدبلوماسية, يريد بناء علاقات بلاده مع تايوان, ( وهي جزء لا يتجزأ من اراضي الصين, حتى بعد هروب تشاي كاي تشيك اليها عام 1948 ,اقام فيها «إمارته», بدعم من القوى الاستعمارية الغربية)، على «رؤية عسكرية», الامر الذي قد يقود الى مواجهة تسبق او تتزامن مع التوتر المتصاعد في بحر الصين الجنوبي، رغم نجاح بيجين في استمالة الرئيس الفلبيني دوتيرتي, واقتناع الاخير بحل الخلافات بين البلدين بالحوار والطرق السلمية.
صحيح ان ترامب لم يُخف عزمه خلال حملته الانتخابية على الغاء الاتفاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين, حيث اعتبرها على الدوام «مُجحِفة» ولا تُحقِّق المصالح الاميركية، وهو امر يمكن مناقشته ولطالما كان موضع تجاذب وسجال بين واشنطن وبيجين طوال السنوات الماضية, سواء في ما خص سعر صرف «اليوان» الصيني الذي تطالب واشنطن برفع سعره, ام في شأن الرسوم التي هدَّدت واشنطن بفرضها على السلع الصينية الواردة للاسواق الاميركية، بل إن خلافات حادة في وجهات النظر والمواقف ازاء كثير من القضايا الاقليمية والدولية، الا ان البيت الابيض بديمقراطييه وجمهورييه, لم «يعبث» بالأُسس التي قامت عليها التفاهمات الأميركية, التي بدأها وارساها هنري كيسنجر, والتي انتهت الى اعتراف الولايات المتحدة عام 1978 بالصين, مُمثّلاً «شرعيّاً وحيداً» للصين بجزره «بما فيها تايوان».. وَبَرِّه، (صين واحدة).
هل قلنا كيسنجر؟
نعم… اذ حملت عناوين صحيفة نيويورك تايمز الاميركية يوم امس, خبراً مثيرا يقول: ان «ثعلب الدبلوماسية الاميركية» حمل «رسالة» من ترامب الى الرئيس الصيني تشي جين بينغ, الذي التقاه مطولا الاسبوع الماضي. وسواء حصل ذلك ام لم يحصل, فان الصين حسمت (وبصوت عالٍ) موقفها الرافض لأي عبث بهذه المسألة, في بيان لوزارة خارجيتها اتسمت لهجته بالغضب والوضوح, في الآن ذاته»…أَرسلنا احتجاجاً الى الجهة الاميركية ذات الصلة، نُصرّ على ان ليس هناك سوى صين واحدة وان تايوان جزء لا يتجزأ من الاراضي الصينية، مستطردة، ان حكومة جمهورية الصين الشعبية، هي الحكومة الوحيدة الشرعية للصين، هذه حقيقة – اضاف البيان – يعترف بها المجتمع الدولي وهي الاساس للعلاقات الصينية الاميركية, ولا نتمنى ان يأتي اي شخص لتغيير او إلغاء هذا الأساس».
فهل حمل كيسنجر تطمينات «ترامبية»؟ ام انه طلب من الرئيس الصيني «الإنتظار» وإعطاء «فرصة» للرئيس الأميركي الجديد، قبل الحكم على استراتيجيته الخاصة التي انْتُخِب على اساسها؟… تصعب الاجابة، لكن ثمة قراءة أخرى لمواقف ترامب (او استراتيجيته وفق تعبير كيسنجر) والتي قد تنهض على مناورة «مُعاكِسة» لما قام به كيسنجر نفسه, حيث الأخير لعِب على التناقض العميق, الذي كان سائدا بين الصين والاتحاد السوفياتي (ونجح في ذلك كثيرا وطويلا)، اما ترامب فقد يُريد «التحالف» مع روسيا (غير السوفياتية) ضد الصين.. التي لا يطمئن لها؟.
فهل يُمكنه ذلك؟
بالتأكيد يمكنه «تبنّي» هذه الفرضية, لكن فرص نجاحها ضئيلة، فالعالم تغيّر، كما عصف التغيير بكل من بيجين وموسكو, ولم تعودا على ذلك الخلاف «العقائدي» المرير الذي ميز علاقاتهما حتى تسعينيات القرن الماضي, والجوامع والمشتركات بينهما اكبر واعمق بكثير, مما يمكن لواحدة منهما ان تجنيه من علاقة «وطيدة» مع واشنطن, وهو امر إن راهن عليه ترامب, فلن يحصد منه سوى الخيبة… والفشل.
محمد خروب
صحيفة الرأي الاردنية