يمكن القطع بأن استدارة رئيسة لجهة متن السياسة الخارجية الأميركية التقليدية قد شملت إدارة الرئيس دونالد ترامب في الأسابيع القليلة الماضية، ووراءها بالتأكيد وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس من جهة ووزير الخارجية «ريكس تيلرسون» من ناحية أخرى. ولعل الدليل على نوايا ترامب لعب دوراً عالمياً والتخلي عن أفكار الانعزالية، الضربة التي وجهها لسوريا، عطفاً علي مواقفه الواضحة من إيران، وتحركاته نحو كوريا الشمالية. السؤال المثير للجدل: «هل من رابط ما بين طهران وبيونج يانج؟ بمعنى هل عين إيران بالفعل مركزة على كوريا الشمالية وتجاربها الصاروخية التقليدية أو النووية؟
المسألة تقتضي محاولة تخليص الخيوط وفض اشتباك الخطوط بداية، فمن واشنطن إلى طهران نرى انتفاضة أميركية تجاه الدولة التي وصفها الجنرال «ماتيس» مؤخراً بأنها الدولة الأكبر تهديداً للاستقرار العالمي، أما «تيلرسون» فقد أشار في المؤتمر الصحفي الذي عقده في مناسبة تقديم أول إخطار للكونجرس عن مدى التزام إيران بالاتفاق النووي إلى أن إيران ربما تمضي في الظاهر على نحو ما، فيما تستغل أوقات الهدنة – إن جاز التعبير – مع الغرب لتوسيع أطماعها وهيمنتها الإقليمية من جانب آخر.
يدرك الأميركيون أن الفكر العقائدي الإيراني لم ولن يتغير على مر السنين، وأن التقية تبقى حاضرة في العقل الإيراني، ولهذا فإن جل ما يهم نظام الملالي هو الحصول على الأموال المجمدة في البنوك الأميركية، واستعادة التجارة مع أوروبا، وإعادة تسليح القوات الإيرانية، وفي الأثناء دعم الميلشيات التابعة لها في اليمن كالحوثيين، وفي جنوب لبنان كـ«حزب الله»، وفي غزة مثل «حماس» وغيرهم.
والشاهد أنه عندما يطالب ترامب أجهزته الاستخبارية بمراجعة الاتفاقية النووية مع ايران، فإن هذا يعني انعدام الثقة في دولة تهدد الملاحة البحرية في الخليج، وتبعث بأسلحتها ومقاتليها في عموم الشرق الأوسط وما وراءه. التحدي الثاني أمام دونالد ترامب يتمثل في كوريا الشمالية والتى تستحوذ على صواريخ بعيدة المدى تطال اليوم كوريا الجنوبية واليابان وبقية الأهداف الأميركية في المحيط الهادي.
يتحدث الجنرال «هربرت ماكماستر» مؤخراً بالقول إن «الأزمة مع كوريا الشمالية قد وصلت إلى ذروتها، وأن كل الخيارات مطروحة على الطاولة ومنها خيار المواجهة العسكرية وتدخل الولايات المتحدة المباشر لوقف البرنامج النووي لكوريا الشمالية. لماذا تبقى التجربة الكورية الشمالية غاية في الأهمية للإيرانيين على نحو خاص؟».
التنسيق بين طهران وبيونج يانج ليس وليد اليوم، ولا الأمس، فهنالك نحو ثلاثة عقود أو أزيد منذ اندلاع الثورة الإيرانية، والتعاون العسكري بين البلدين جار على قدم وساق، سواء تعلق المشهد بالصواريخ بعيدة المدى ومحركاتها، أو بالتجارب النووية ومحدداتها. في هذا الإطار يمكن القطع بأن الإيرانيين يوجهون أنظارهم وبدقة بالغة على المشهد في آسيا، حيث العلاقات متشابكة بين ما هو سياسي وما هو عسكري… ماذا يعني ذلك؟
عسكرياً تستقرئ طهران المشهد الصاروخي لكوريا الشمالية أولاً، وربما تنقصها المعلومات الدقيقة أو المؤكدة حول ما تملكه بيونج يانج، وهو ما ينقص الأميركيين أنفسهم، بمعنى أن الجميع غير متأكد من المدى والتسليح، وهل ما لدى «كيم أون» يطال السواحل والمدن الأميركية أم أنه يهدد فقط بما ليس لديه.
وعليه سوف تستنتج طهران دروساً فاعلة، فإذا كان لدى الجانب الكوري الشمالي ما يهدد أميركا بالفعل وقواعدها الحيوية في آسيا، فإن ترامب سيفكر ألف مرة قبل أن يقدم على مهاجمة الفتي الكوري المشاغب. الدرس هنا سيدفع الإيرانيين في طريق المزيد من السعي لحيازة تلك الصواريخ، وإنْ كانت بصورة تقليدية اليوم، وربما تزويدها برؤوس نووية في المستقبل، وساعتها سوف تفقد واشنطن رهاناتها على تغيير السلوك الإيراني، ولن تستطيع القوى المحلية والإقليمية مواجهة إيران النووية، إلا عبر التسلح بأسلحة صاروخية ونووية مماثلة، وساعتها سيكون التهديد النووي قد خرج عن حدود ما هو مسموح به من قبل القوى الدولية.
كذلك تتبدى التداخلات السياسية بشكل مثير، ضمن ما نسميه «لعبة الشطرنج الإدراكية»، فإيران عرفت جيداً كيف توثق علاقاتها مع موسكو والروس من ناحية، ومع بكين والصين من ناحية أخرى، وعليه ليس من اليسير فض هذا التلاحم أميركياً، فكل من بكين وموسكو لها مصالح استراتيجية، تنافي وتجافي نظيرتها الأميركية، ومعنى الطلب الأميركي التخلي عن طهران، هو أن واشنطن لا بد أن تقدم تنازلات أخرى للروس في القرم مثلاً، أو للصينيين في تايوان أو التبت. إنها مرحلة مثيرة وخطيرة من التشابك العالمي القابل للانفجار في أي لحظة وتحت أي ذريعة، ما يعني بالفعل أن العالم بات على صفيح ساخن.
بحسابات استراتيجية أولية سنجد تفكير رئيس كوريا الشمالية يمضي في طريق إلحاق أكبر الأذي بحلفاء واشنطن، وبمصالحها الحيوية في كل مكان على وجه الأرض. الخلاصة…. الجنس البشري مهدد بالفناء، إذا لم يطفُ على السطح حديث العقلاء، وتسارعت وساطة الحكماء شرقاً وغرباً.
إميل أمين
صحيفة الاتحاد