ليست الغارة الإسرائيلية على مطار دمشق وحدها المؤشر الى ما يجرى بين إسرائيل و «حزب الله». الأيام القليلة الفائتة شهدت نحو خمس غارات على مواقع في سورية. وردّ فعل «حزب الله» الوحيد حتى الآن الزيارة «الملتبسة» التي نظمها لصحافيين إلى الحدود.
الابتعاد مسافة قصيرة عما يجري يُساعد على تخليص خيوط المواجهة، فلا يُغرق المرء بتفسير انكفاء الحزب عن التصدي للغارات بصفته فقط خطأ أملته خياراته في سورية. هذا تمرين يجب أن نمارسه. ففي سورية تجرى واحدة من أغرب حروب العالم، لكنْ أكثرها وضوحاً أيضاً. الغارة الإسرائيلية على مطار دمشق جرت فيما كان وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان في موسكو!
لم نعتد على هذا النوع من الشفافية في خوض الحروب. فلـ «حزب الله» في هذه المعادلة الحق في خـــوض القتال الســـوري، لكن المعادلة تقضي بألّا يقترب مـــن الحدود مع إسرائيل. له الحق في التزود بالسلاح لخـــوض تلك الحـــرب، على أن لا يفيض السلاح عن هذه المهـــمة. ومـــوسكو الحليف في الداخل السوري، هي في الوقـــت عينه راعية تلك المعادلة، ومثبتة قواعدها.
لكن المواظبة الإسرائيلية على الغارات مؤخراً تُشعر المرء بأن تل أبيب تسعى إلى تعديلٍ ما فيها. والحزب رصد، على ما يبدو، حثّ الإسرائيليين خطاهم نحو الحرب. بهذا المعنى، فالتوقيت اختاره الإسرائيليون. حماسة إدارة دونالد ترامب لخوض حروب تقوض النفوذ الإيراني تُشكل فرصة لن تُعوض لبنيامين نتانياهو. تشتت قوة الحزب على الجبهات السورية فرصة أخرى. عجزه عن تصريف تبعات نتائج الحرب في جنوب لبنان يدفع الإسرائيليين إلى مزيد من الحماسة لها.
«حزب الله» لن ينجرّ إلى حرب وفق هذه الشروط، وفي الوقت عينه هو عاجز عن امتصاص تبعات محاولات الاستدراج الإسرائيلية. ثمة إرباك واضح في أدائه على هذا الصعيد، والإرباك هو ما يُفسر تخبطاً أصابه على الحدود اللبنانية قبل نحو عشرة أيام. نظم الحزب زيارة للصحافيين إلى هذه الحدود وظهر فيها ضابط منه يشرح للصحافيين عن التحصينات الإسرائيلية، في خرق واضح ومتعمد للقرار 1701، وفي اليوم الثاني زار رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري المكان نفسه الذي ظهر فيه ضابط «حزب الله»، وأعلن من هناك رفضه «ما حصل بالأمس»، ثم عاد أدراجه إلى مدينة صور حيث أولم له وزير حركة أمل علي حسن خليل، بمشاركة وزير «حزب الله» محمد فنيش.
لم يعوّدنا الحزب على هذه المرونة. وقائع يوم زيارة الحريري الحدود، ليست امتداداً لما ألفه اللبنانيون في «حزب الله». وما حصل في صور يُشبه في غرابته ما حصل في موسكو عشية الغارة على مطار دمشق. قوى الحرب تتوافق تحت أنظارنا، نحن ضحاياها، على قواعد لعبة هي في طور التغير. «حزب الله» لا يريد حرباً، وإسرائيل تريدها حالاً. منع وقوع الحرب هو الحرب التي يسعى «حزب الله» لربحها في ظل ميزان قوى ليس لمصلحته. لكن تل أبيب تسعى في ظل عدم وجود شريك تُحاربه، إلى تغيير معادلة السلم. فالغارات على مواقع الحزب في سورية تجرى في ظل «نشاط ديبلوماسي» لفتح ثغرة جديدة في التوازن القائم، وفي ظل مواكبة أميركية واضحة لنوايا تل أبيب.
الأرجح أن إسرائيل لن تخوض حرباً مفتوحة على الحزب في سورية من دون غطاء ما روسي. وموسكو التي تنسق معها ميدانياً لم تصل بها الفرقة عن طهران إلى حد منح تل أبيب هذا الغطاء.
وفي مقابل ذلك، فإن لهذه الحرب وجهاً آخر يتمثل في الرغبة الأميركية بمحاصرة نفوذ طهران الإقليمي. وواشنطن معنية بتحديد ساحة المواجهة. الخيارات أمامها تتراوح بين لبنان والعراق وسورية. ستعني الحرب الإسرائيلية على «حزب الله» في لبنان انهياراً جديداً لن يمثل انتصار تل أبيب ثمناً كافياً له. ومواجهة إيران في العراق أمر أشد تعقيداً من لبنان، وواشنطن تخوض هناك حرباً على «داعش» إلى جانب طهران، في واحدة من لحظات الغرابة التي يشهدها الإقليم. ومن المنطقي في هذه الحال أن تكون سورية هي من وقع عليه اختيار واشنطن.
يجرى إعداد كبير لهذه المواجهة، وفي مقابل ذلك، يُمارس «حزب الله» أقصى درجات الحذر والانكفاء. ليس الوضع نموذجياً لتسطير بطولات. والاختلال بدأ يفرز قواه بالقرب من الحزب. خرج مقتدى الصدر ليطالب الجميع بالانسحاب من سورية. كرر هذا الطلب أحمدي نجاد. هذه أصوات تؤشر إلى بداية صدع لا يُعين الحزب في حال السقوط في المواجهة. وهي أيضاً صادرة عن شعور بأن تدفق طهران على المنطقة وصل إلى مستوى يُهدد أصحابه بالاختناق. فترامب أشهر نواياه، وقصف في سورية من خارج معادلة التوازن مع موسكو.
الوضع عالق عند خطوة روسية تُسهل الحرب وتلبي شهية نتانياهو إليها. لكن العيش في عنق زجاجة ليس بالأمر اليسير، فرئيس الحكومة الإسرائيلية يدفع بكل طاقته نحو توفير شروط حرب على «حزب الله». والمرء اذ يُراقب إعداد المسرح في إسرائيل يشعر بأن مبالغات هائلة بدأت تصيب آلة الترويج الإسرائيلية. فـ «حزب الله» وحده من تتركز عليه الهموم، وله أثر في كل قصة إسرائيلية، بدءاً من مخازن غاز الأمنيون في حيفا وصولاً إلى الزيارة التي نظمها مؤخراً إلى الحدود. لا أثر لمخاوف إسرائيلية أخرى.
في موسكو مطبخ آخر للحرب، ولم تبلغ مصلحة الكرملين الحد من نفوذ طهران في سورية مستوى يدفعه إلى التخلي عن شريكه هناك. مصير بشار الأسد يحضر بكثافة في هذه اللحظة من دون شك. فحرب إسرائيلية بغطاء أميركي لن تبقي عليه. وفي موسكو ثمة غرفة أخرى لا تبعد كثيراً عن الغرفة التي التقى فيها ليبرمان مع بوتين ولافروف، أي تلك التي التقى فيها وزراء دفاع روسيا وإيران وسورية قبل نحو أسبوعين.
الحرب اقتربت إلى حد يجلس فيه المتحاربون في غرف متجاورة في أروقة الكرملين. طهران لا تريد حرباً، وتل أبيب وواشنطن تريدانها. فكيف ستلعب موسكو ورقة مصير الأسد، وأي تغيير في الوضع القائم ستقبل به تل أبيب؟
حازم الأمين
صحيفة الحياة اللندنية