تلوح في الأفق المعركة الرامية إلى السيطرة على إقليم سنجار، الواقع على بعد 100 كيلومتر غرب الموصل، كعاصفة رملية. ويعود ذلك لأن سنجار، مسرح الإبادة الجماعية اليزيدية منذ عام 2014، تشهد صراعاً متعدد الأوجه من أجل السلطة بين مختلف الفصائل التي تحارب تنظيم «الدولة الإسلامية». وتشمل هذه الجماعات، أكراد العراق، والحكومة العراقية، وعناصر «قوات الحشد الشعبي»/«وحدات الحشد الشعبي» المدعومة من إيران، و«حزب العمال الكردستاني» [التركي]، و«وحدات حماية الشعب» الكردية السورية، والعديد من الفصائل اليزيدية المتحالفة مع مختلف الجهات الفاعلة.
خلفية عن سنجار
تقع سنجار على الحدود بين العراق وسوريا، وهي المدينة العراقية الأخيرة الواقعة على الطريق السريع 47 – الطريق التجاري الذي يربط بين الموصل وسوريا. وقد تعرّض اليزيديون والأكراد في المنطقة لمعاملة وحشية على يد الحكومات البعثية خلال سبعينات وثمانينات القرن المنصرم، فنزح سكان الأرياف إلى قرى جماعية بائسة عُرفت بالمُجمّعات. وبعد سقوط صدام حسين، بقي معظم اليزيديين داخل هذه المُجمّعات التي كانت قد تحولت إلى بلدات ووقعت تحت السيطرة السياسية والوصاية الأمنية لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، القوة الكردية المهيمنة في الجزء الشمالي من «إقليم كردستان العراق». أما المناطق الريفية في سنجار فقد تولّت الفرقة الثالثة للجيش العراقي (المكونة بشكل رئيسي من اليزيديين) ضبط الأمن فيها.
بيد، تفكّك الجيش العراقي بعد شنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» هجومه في حزيران/يونيو 2014، وما لبثت قوات البشمركة التابعة لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أن لاذت بالفرار بعد شهرين – مع انتشار حرب تنظيم «داعش» في «إقليم كردستان». فشكّل اليزيديون «وحدات مقاومة سنجار» التي تلقت الدعم من الجناح المسلّح لـ «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب»الكردية السورية المجاورة التي تتفرع عن «حزب العمال الكردستاني». وأمّنت هذه القوات ملاذاً آمناً للمدنيين اليزيديين في جبل سنجار، وهذا الملاذ هو عبارة عن طية جبلية محدّبة تمتد على طول أربعين كيلومتراً وتقع على ارتفاع 700 متراً تقريباً فوق السهول المحيطة بها. كما وظهرت ميليشيا يزيدية أخرى تدعى «قوة حماية إيزيدخان» التي عملت بشكل منفصل بعض الشيء عن «حزب العمال الكردستاني» قبل أن تقع في النهاية تحت سيطرة البشمركة التابعة لـ«الحزب الديمقراطي الكردستاني».
وعلى الرغم من أنّ قوات البشمركة التابعة لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وحلفائها اليزيديين أدت دوراً أساسياً في التخفيف من حصار تنظيم «الدولة الإسلامية» على جبل سنجار في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، بقيت التوترات شديدة بين الأكراد ومعظم الميليشيات الأخرى في المنطقة. ومن تجربتي من خلال زيارتي للمنطقة قبل سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» عليها، يمكنني القول أن اليزيديين في سنجار لم يكونوا مساندين لسيطرة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على سياستهم المحلية، ولكنهم كانوا بحاجةٍ ماسة إلى الحماية الكردية كونهم واقعين بين المحاور الإرهابية في تلعفر والبعاج والحدود السورية. ومنذ الفشل الذي منيت به البشمركة التابعة لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» عام 2014، تسعى اليوم القوات اليزيدية، مثل حزب «وحدات مقاومة سنجار»، إلى تحقيق استقلالية أكبر في حكمها المحلي، كما أنشأت مجلس إدارة ذاتي خاص بها بمساعدة «حزب العمال الكردستاني» و «وحدات حماية الشعب». بيد أن القوات اليزيدية في «وحدات مقاومة سنجار» افتقرت إلى القوة العسكرية اللازمة لتحرير القرى اليزيدية جنوب سنجار، في حين أن القوات اليزيدية الموالية لـ«الحزب الديمقراطي الكردستاني» عانت من الإحباط على مدى العامين الماضيين كنتيجة لاتخاذها مراكز دفاعية ثابتة تحت قيادة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على بعد أقل من 30 كليومتراً من منازلها. وبالنسبة لـ «إقليم كردستان»، فعلى الرغم من أن السيطرة على البلدات اليزيدية أصبحت عادةً سياسية، إلّا أنّ تحرير هذه البلدات لم يُعتبر جديراً بتكبّد عددٍ كبير من الضحايا.
دور الجهات الفاعلة الخارجية
اقتحمت تركيا وميليشيات «وحدات الحشد الشعبي» المدعومة من إيران هذا المشهد المعقّد خلال النصف الأول من هذا العام. وهناك وجهان للمصلحة التركية في هذه المسألة. أولاً، أثارت أدوار «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» في سنجار قلق تركيا لأن المنطقة توفر على ما يبدو للجماعات المناهضة لتركيا جسراً برياً بين قواعدها في «كردستان العراق» و«كردستان سوريا» المعروفة باسم روج آفا. وقد تعاونت تركيا مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على إغلاق الحدود بين روج آفا و[مناطق] «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، وبدت سنجار وكأنها تمنح وسيلةً لـ «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» لتخطي هذه العقبة. وفي الواقع يثير تنامي القوة العسكرية لـ «حزب العمال الكردستاني» داخل «إقليم كردستان» قلقاً عميقاً لدى كل من الأتراك و«الحزب الديمقراطي الكردستاني». ولربما كان من المغري تصعيد الضغط على «حزب العمال الكردستاني» في سنجار هذا الصيف نظراً لأن الرئيس رجب طيب أردوغان كان بحاجةٍ إلى مصادر إلهاء عسكرية لاسترضاء هيئة الأركان العامة التركية.
إلا أن المشكلة التي تواجهها تركيا هي أن معقل «حزب العمال الكردستاني» و «وحدات حماية الشعب» و «وحدات مقاومة سنجار» اليزيدية في سنجار ليست هدفاً سهلاً. فخلافاً للصورة التي يتم ترويجها عن سنجار بأنها “أشبه بنسخة عن جبل قنديل”، ليست سنجار حصناً منيعاً ذو دفاعات جبارة كتلك الموجودة فيي معسكرات «حزب العمال الكردستاني»، بل إن الصعوبات التي تقف في طريق أي هجوم على سنجار هي سياسية بالدرجة الأولى. فالمعارك التي دارت بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«حزب العمال الكردستاني» في تسعينات القرن المنصرم، تركت لدى القيادات الكردية اليوم انطباعاً عميقاً بأن «حزب العمال الكردستاني» هو خصمٌ متعصب وماهر. بالإضافة إلى ذلك، فإن إراقة دماء «حزب العمال الكردستاني»، الذي هو دم كردي، لن يلقى ترحيباً سياسياً في «إقليم كردستان». ولهذه الأسباب، فضّل «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أولاً الإستعانة بالأكراد السوريين المدرّبين على يده، أو من يُعرفون بـ “بشمركة روج آفا”، من أجل عزل جبل سنجار والمناطق المحيطة به عن الحدود السورية، وبالتالي عن المساعدات التي تقدمها «وحدات حماية الشعب». وقد فشل هذا الجهد عندما دعمت «وحدات حماية الشعب» «وحدات مقاومة سنجار» اليزيدية وقوات «حزب العمال الكردستاني» على السفوح الشمالية لجبل سنجار. فاستعانت «وحدات حماية الشعب» بمائتَي جندي وثمانية دبابات وأربعة وعشرين مدفعاً مضاداً للطائرات لصدّ “بشمركة روج آفا” في سلسلة من المناوشات في أوائل آذار/مارس 2017. وكانت حساسية الأكراد السوريين واضحة تجاه خطر انفصال سنجار عن قاعدة دعمها السورية – في إشارة إلى التزام «وحدات حماية الشعب» بمكانتها البارزة في العراق.
ووفقاً لما أخبرني به أحد كبار مسؤولي الأمن الأكراد في نيسان/أبريل 2017، يكمن ثاني أفضل حل بالنسبة لـ«الحزب الديمقراطي الكردستاني» في تدخّل تركيا ضد «حزب العمال الكردستاني» في سنجار. ففي أعقاب العمليات التركية المكثفة بالطائرات بدون طيار التي انطلقت على الأرجح من مخيم «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في سحيلة على بعد 90 كم من الناحية الشمالية الشرقية، نفّذت تركيا ضربات جوية معبّرة على مواقع «وحدات مقاومة سنجار» و «حزب العمال الكردستاني» في سنجار في 25 نيسان/أبريل 2017. وبدا أن “بشمركة روج آفا” ستشن في وقت وشيك هجوماً جديداً مدعوماً من تركيا قبل زيارة الرئيس أردوغان إلى البيت الأبيض في 16 أيار/مايو، ولكن احتمال حدوث مسعى كبير من قبل القوات الجوية والقوات الخاصة التركية تلاشى لاحقاً. وأحد التفسيرات لذلك هو أن التزويد المكثف للاستخبارات المستهدفة التي تملكها الولايات المتحدة إلى تركيا قد حوّل انتباه تركيا نحو حملة جديدة تستهدف قيادات «حزب العمال الكردستاني» في قنديل، حيث تسارعت الغارات الجوية منذ أواخر أيار/مايو 2017.
«قوات الحشد الشعبي» والحدود السورية
وفّرت العملية التي أطلقتها «وحدات الحشد الشعبي» نحو الحدود السورية-العراقية في 12 أيار/مايو 2017 زخماً جديداً للتدخل التركي المحتمل. وشهدت العملية التي دامت سبعة عشر يوماً توغّل ميليشيات «منظمة بدر» و«كتائب حزب الله» المدعومة من إيران إلى عمق 100 كم داخل الصحراء التي تفتقر إلى دفاعات تُذكر ما بين مواقع انطلاقها بالقرب من تلعفر والحدود السورية. وبالنسبة لتركيا، يرتبط أحد المخاوف الرئيسية بتوسّع القوات الوكيلة لإيران داخل الطرف الشرقي من مسرح العمليات شمال سوريا. ومع زحف قوات الأسد نحو وادي نهر الفرات في سوريا إلى الجنوب الغربي، أثار تقدّم «وحدات الحشد الشعبي» مخاوف إضافية من تهيؤ الأسد وإيران للسيطرة على الترتيبات الأمنية والسياسية في شرق سوريا في مرحلة ما بعد [اندحار] تنظيم «الدولة الإسلامية». وإذا أبرمت إيران صفقة مع «وحدات حماية الشعب»، على سبيل المثال، سوف تكسب طريقاً غير مباشر بين إيران ودمشق، وإن كان ذلك عبر المناطق الكردية السورية. وقد يمنح ذلك خيارات إضافية لـ «وحدات حماية الشعب» إذا ما فترت علاقتها مع الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الرقة.
وبنفس القدر من الأهمية، من وجهة نظر تركيا، أنّ تَقدُّم «وحدات الحشد الشعبي» قد أدّى إلى وضع الميليشيات الشيعية العراقية في احتكاك مباشر مع قوات «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» و «وحدات مقاومة سنجار» اليزيدية في موقع سنجار البارز. وقد شهد تقدّم «وحدات الحشد الشعبي» سيطرة القوات العراقية على المُجمّعات اليزيدية التي اختار «الحزب الديمقراطي الكردستاني» عدم تحريرها، كما شهد تشكيل «وحدات الحشد الشعبي» كتيبتين على الأقل من “قوات السيطرة” اليزيدية التابعة لـ«وحدات الحشد الشعبي». وبدأت القوات اليزيدية المرتبطة بـ«الحزب الديمقراطي الكردستاني» تعاني من الانشقاقات في صفوف عناصرها الذين أخذوا ينضمون إلى «وحدات الحشد الشعبي» خلال شهر أيار/مايو. وفي النهاية، وصلت «وحدات الحشد الشعبي» إلى الجبهة الممتدة على طول 35 كم بين مدينة سنجار والحدود السورية الخاضعة لسيطرة «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» و «وحدات مقاومة سنجار» اليزيدية.
ولكن ما حدث بعد ذلك ربما قد فاجأ الأتراك. فلبضع سنوات كانت الرواية السائدة في أنقرة وأربيل هي أن بغداد وطهران تدفعان [الأموال/الرواتب] لـ«وحدات مقاومة سنجار» وتدعمانها عبر مطار القامشلي الخاضع لسيطرة «وحدات حماية الشعب». ومع ذلك، عندما تقدمت قوات «وحدات الحشد الشعبي» نحو جنوب سنجار، ظهرت أدلة على تضارب الأهداف. فقد بدأت «وحدات الحشد الشعبي» في استدراج المجندين اليزيديين بعيداً عن «وحدات مقاومة سنجار»، بينما بذل «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» كل ما في وسعيهما لمنع انتقال هؤلاء العناصر. وكما أشار ماثيو باربر، “هناك مجال واحد يتفق فيه الخصمان اللدودان «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«حزب العمال الكردستاني» وهو أنه ينبغي إبعاد سنجار عن بغداد. وكانت رسالة «حزب العمال الكردستاني» إلى السكان اليزيديين المحليين “أنتم ليسوا جزءاً من العراق”. ولـ [«قوات الحشد الشعبي»] رسالة عكسية.
توقعات لسنجار
لقد تفادينا مشكلتين في سنجار هذا الربيع والصيف، وهما تصعيد تركي كبير ضد «حزب العمال الكردستاني» واحتمال وقوع قتال بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«وحدات الحشد الشعبي». فهل سيبقى هذان الاحتمالان بعيدين أم أن تأخّرهما هو الهدوء قبل العاصفة؟ بعد تحرير الرقة وبعد أن تصبح «وحدات حماية الشعب» أقل أهميةً للولايات المتحدة، قد تتصرف تركيا و «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بحزم أكبر في سنجار. وإذا أمكن عزل المنطقة عن سوريا، فإن محاولة شن هجوم آخر ومخطط بشكل أفضل من قبل “بشمركة روج آفا” وبدعم من القوات الخاصة التركية وقوات «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وأسلحتهما الثقيلة ستكون أمراً ممكناً. أما أحد العوامل التي يجب أن تراعى فهو استعداد «وحدات الحشد الشعبي» للتدخل ومساعدة «وحدات مقاومة سنجار»، واختبار استعداد اليزيديين المحليين لمقايضة «حزب العمال الكردستاني» و «وحدات حماية الشعب» بمصدر حماية آخر. إن مخاطر تكبّد حكومة بغداد أي انتكاسات عسكرية أو أن تكون محل استغلال سياسي سوف تلقي ظلال قاتمة على أي تصعيد عسكري تركي في سنجار.
أما بالنسبة لتركيا، فقد تشمل الحصيلة المثلى استخدام القوة الناعمة لإخراج «حزب العمال الكردستاني» و «وحدات حماية الشعب» من سنجار، والإستفادة من التهديد بالقوة، ولكن ليس استخدامها الفعلي. وقد يشمل ذلك مزيجاً من الضغوط الأمريكية والدولية، والتحفيزات الكردية و/أو العراقية بالحكم الذاتي، والضمانات الأمنية لليزيديين المحليين. وسوف تبقى أنقرة مستعدةً لعقد صفقة “سنجار مقابل بعشيقة”، حيث سيؤدي انسحاب «حزب العمال الكردستاني» و «وحدات حماية الشعب» من سنجار، بوساطة بغدادية، إلى انسحاب تركي من قاعدة بعشيقة، التي ستشكل انتصاراً كبيراً في العلاقات العامة لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في العام الانتخابي المقبل. وثمة خيار آخر يمكن أن تدعمه تركيا، وهو “آلية أمنية مشتركة” ثلاثية بين العراقيين والأكراد واليزيديين، مثل نقاط التفتيش المشتركة والمقر الرئيسي التي كانت تحت إدارة الجيش الأمريكي في سنجار قبل عام 2011.
مايكل نايتس
معهد واشنطن