إياد العناز
شكلت عملية الانعطاف السياسي بسيطرة قوى المعارضة السورية ودخولها العاصمة (دمشق) فجر اليوم الثامن من كانون الأول 2024، لحظة تاريخية كبيرة ألقت بظلالها على طبيعة واستمرار المصالح والمنافع الدولية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وأخذت أبعادها الميدانية في التأثير على التحالف الاستراتيجي القائم بين روسيا وإيران والنظام السوري السابق، والذي كان عبارة عن سلسلة من الحلقات المتصلة التي ساهمت في أدامة بقاء نظام الأسد لأكثر من عقد من الزمن بعد الثورة الشعبية التي انطلقت في أرجاء المدن السورية في 25 آذار 2011، وامتد تأثيرها وتفاعلها الميداني وتأييدها الجماهيري حتى تمكنت من السيطرة على العديد من أهم المدن والأقضية السورية حتى وصلت إلى أطراف وريف العاصمة (دمشق)، ورغم الدعم والمساندة العسكرية والاقتصادية التي أبداها النظام الإيراني حينها ودفعه للمليشيات والفصائل المسلحة من كتائب ( الزينبين الفاطمين) الباكستانية الأفغانية ومشاركة بعض المليشيات العراقية المرتبطة بقيادة فيلق القدس والحرس الثوري والدعم المساند لمقاتلي حزب الله اللبناني، إلا أن التقدم الكبير لفصائل المعارضة السورية المسلحة كان أكثر وقعًا وتأثيرًا في الميدان السوري.
أمام هذه التفاعلات الميدانية والتطورات العسكرية والتقدم الواسع الذي احرزته قوى المعارضة، جعلت إيران تفكر بكيفية إيجاد الحلول والوسائل التي تديم بقاء النظام الاسدي وتحافظ على وجودها واستمرار مشروعها السياسي ومنافعها ومكاسبها الاقتصادية وادامة تواصلها مع التنظيمات العسكرية والسياسية لحزب الله اللبناني في تنفيذ أصول عقيدتها الأمنية في التمدد والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، واتخذت قرارها السياسي بالتوجه إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد التشاور مع بشار الأسد الذي لم يمانع في أي رأي أو مقترح تقدمه القيادة الإيرانية له بسبب التوافق السياسي بينهما وما تتمتع به إيران من سيطرة ونفوذ على التوجه العام للسياسة السورية كونها القائم على حماية النظام ومنعه من السقوط.
توجه قائد فيلق القدس الإيراني السابق ( قاسم سليماني إلى موسكو والتقى مرتين مع الرئيس بوتين وطلب منه المساعدة في دعم النظام السوري والتحالف بينهما في مواجهة العمليات العسكرية والمواجهات الميدانية لفصائل المعارضة السورية وإيقاف مديات تأثيرها في الميدان.
وحصل أن وافقت القيادة الروسية على دخول الأراضي السورية في منتصف شهر آيلول 2015 ونشر قواتها العسكرية بكافة صنوفها ومعداتها من الأسلحة الثقيلة والصواريخ الموجهة ومنظومات الدفاع الجوي،وابتدأت العمليات العسكرية الميدانية المشتركة مع قطعات الجيش السوري والمليشيات الإيرانية وتبادل المعلومات والتنسيق الميداني المباشر بين مستشاري وقيادات الحرس الثوري الإيراني والقيادات الفاعلة من الجيش الروسي، وأثر الجهد والعمل العسكري الروسي الإيراني على مجمل الأحداث القائمة في سوريا وحصل تراجع من قبل مقاتلي كتائب المعارضة السورية بسبب القصف الجوي والمدفعي للمدن التي كانت تحت سيطرة قوات المعارضة وحرق وتهديم الدور واستهداف المواطنين الأبرياء من أبناء الشعب السوري، الأمر الذي أدى إلى نزوح أكثر من ( 9) مليون انسان وتركهم لأماكن سكناهم ومتاجرهم واسواقهم ومزارعهم بسبب العمليات العسكرية والممارسات القمعية والأساليب الوحشية التي اتبعتها أجهزة النظام الاستخبارية والأمنية.
كان لكل من روسيا وإيران أهدافها وغاياتها السياسية والاقتصادية من دعم النظام وبقائه، فتم توقيع العديد من الاتفاقيات طويلة المدى ومذكرات التفاهم بينهم، وكان من أبرز ما سعت إليه القيادة السياسية الروسية هي التواجد العسكري والبحري في قاعدتي ( حميميم وطرطوس) وتحقيق مكاسب اقتصادية واسعة في معمل البتروكيماويات بمدينة حمص واستثمارات في قطاعي النفط والفوسفات في الحقول الواقعة بالساحل السوري مقابل مدينة طرطوس عبر اتفاقية للتعاون الاقتصادي أمدها (25) سنة، وإما إيران فاضافة إلى تواجدها الميداني في المدن وتوسع حالة التمدد والنفوذ لمشروعها الإقليمي السياسي، فإنها سعت إلى توسيع منافستها للروس في الاقتصاد السوري، فأوجدت لها استثمارات مالية في قطاع الفوسفات والكهرباء والأسواق المحلية، ووقعت مع الحكومة السورية اتفاقًا لمدة (50) سنة تستثمر به (مليار) طن من معدن الفوسفات، مع تأسيس بنوك إيرانية أهلية خلافًا للقوانين السورية وانتهاكًا للمعايير الاقتصادية التي تهدد البنية التحتية للجانب المالي السوري، وتوسعت في هيمنتها على مقدرات الشعب السوري بالسيطرة على حقل نفط ( حمص) برقم 21 والذي يمتلك احتياطي يقدر ب (100) مليون برميل ويحقق لإيران مكسبًا ماليًا بمقدار (3) مليار دولار.
هذه الاستثمارات والمنافع الاقتصادية والتي كان يستفاد منها النظام السوري ومؤسساته الاستخبارية والأمنية، اثقلت الشعب السوري بديون مالية بلغت ( 30) مليار لكل من روسيا وإيران، ولكنها كانت مقابل الدفاع عن هيكلية النظام واستمرار بقائه في السلطة وقمعه للمعارضة السورية وقياداتها الميدانية والمؤيدين والمتعاطفين معها من أبناء الشعب السوري.
كانت عمليات التنسيق المشترك بين روسيا وإيران قائمة في جميع الاصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية ودأبت محاولات كل منهما للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الثروات الطبيعية والاستثمار المالية والهيمنة السياسية داخل الأراضي السورية وعند أروقة النظام الحاكم ومؤسساته، رغم أن الصراع الروسي الإيراني لم يكن ظاهرًا بالشكل الذي يؤثر على المصالح الإستراتيجية للطرفين في الميدان السوري، إلا أن الروس كانت لهم أولويات تكمن في التواجد العسكري في قاعدة حميميم والبحري في موانئ طرطوس والإشراف على حقول النفط والغاز في السواحل السورية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، في حين أن الإيرانيين كانت لهم أهداف توسعية وغايات أمنية باعتماد سوريا جسرًا مهمًا لنقل المعدات والأسلحة والأموال إلى حليفهم الاستراتيجي ودرة مشروعهم ( حزب الله) اللبناني، مع امتداد دائرة استثماراتهم في جميع القطاعات الاقتصادية والهيمنة على القرار السياسي والإجراءات الاقتصادية التي يقوم بها نظام الأسد.
سعت روسيا إلى تقويض النفوذ الإيراني في سوريا، واحست طهران بهذا التوجه ولكنها لم تتعامل معه بشكل مباشر حفاظًا على علاقتها الاقتصادية مع روسيا خاصة وأنها تعاني من العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها بعد الانسحاب الأمريكي من مفاوضات البرنامج النووي الإيراني في آيار 2018، ولكن المحاولات الروسية تعثرت بعد انشغال موسكو بحربها مع أوكرانيا والتي اندلعت في شباط 2022 وحاجتها للدعم الإيراني العسكري عبر تزويدها بالطائرات المسيرة والصواريخ الموجهه الإيرانية ،مما وسع من دائرة الهيمنة الإيرانية وسيطرة المليشيات المسلحة ومقاتلي حزب الله اللبناني على الأوضاع الداخلية في سوريا وتدخلهم المباشر في السياسات الاقتصادية والمالية التي أثرت على المجتمع السوري واثقلت كاهله بالعديد من الأزمات والكوارث المالية التي أدت إلى زيادة التضخم الاقتصادي وانهيار العملة المحلية واتساع ظاهرة البطالة ووصول معظم المواطنين السوريين إلى حافة الفقر.
ولكن المتغيرات السياسية والأحداث والمواجهات العسكرية التي عاشتها الأراضي الفلسطينية ومن بعدها ما جرى من عمليات عسكرية ميدانية وجوية من قبل القوات الإسرائيلية تجاه الجنوب اللبناني واستهداف القيادات السياسية والعسكرية والأمنية لحزب الله، ثم الحدث الأكبر الذي شكل انتكاسة كبيرة لروسيا وإيران بسقوط النظام السوري وفرار رئيسيه إلى موسكو.
تعاملت روسيا مع الحدث السياسي السوري بحالة من الانضباط الميداني وراعت فيه مصالحها ومستقبل تواجدها على الأرض السورية وحفاظها على استثماراتها الاقتصادية، فالتزمت الصمت وعملت على معاونة الأسد في بداية انطلاق مقاتلي هيئة تحرير الشام والفصائل المتجحفلة معها باتجاه مدينة حلب صباح يوم 27 تشرين الثاني 2024 إلا أنها أدركت حقيقة الأوضاع الميدانية وأن أي فعل عسكري من قبلها سيكلفها الكثير وسيكون الثمن باهضًا من دماء الشعب السوري دون أن يغير من العمل العسكري المتقدم مقاتلي المعارضة أو يقف زحفه، وأعلنت أنها لم تخسر شيئا بل عملت وحسب ما ادعته وسائل إعلامها السياسي وهيئاتها الدبلوماسية والعسكرية على أن وجودها كان ضمن سياستها في منطقة الشرق الأوسط، وهي الآن لا ترغب لأحداث أي حالة من الفوضى ولا مواجهة أي طرف في الداخل السوري، وعملت على سحب بعض من قطعاتها العسكرية الميدانية إلى قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، واتسمت تصريحات المسؤولين الروس بالإيجابية حول التغيير السياسي السوري، مما حدى بقائد الحكومة الانتقالية احمد الشرع للتصريح بأنه مع ( بقاء علاقات استراتيجية مع روسيا على أساس سيادة واستقلال سوريا وقرارها السياسي).
في حين كان الموقف السياسي الإيراني مغاير لما قامت به الأوساط السياسية الروسية، فالقيادة الإيرانية تفاجأت بالتخلي السريع لروسيا عن علاقتها ودعمها لنظام الأسد، رغم ادراكها للموقف الروسي من أحداث تغيير في البنية السياسية للنظام وسعيه لتنفيذ القرار الأممي (2254) والتزامه بمقررات الاجتماعات التي كانت تعقد بالعاصمة الكازخستانية ( أستانا) وبحضور رؤوساء ( روسيا وتركيا وإيران) وممثلين عن الائتلاف الوطني السوري، وأنها أحست أن هناك تعاونًا أو تفاهمًا روسيًا تركيًا حول الوضع السياسي السوري بعيداً عنها أو أنها استبعدت منه، وهو الأمر الذي آثارها كثيرًا والذي اتضح بعدها عندما أشار المرشد الأعلى علي خامنئي في 11 كانون الأول 2024 و في أول خطاب له بعد سقوط النظام السوري بأن الجهات التي وراء التغيير هي (الولايات المتحدة وإسرائيل ودولة جارة لسوريا بأنها هي المحركة الرئيسية وراء هذه الأحداث)، وكان يقصد في اشارته إلى تركيا،
وهذا ما يمكن أن نستعيد فيه ما حصل قبل سنة من سقوط الأسد عندما استبعدت إيران من الاجتماع الأمني العسكري الثلاثي الذي استضافته روسيا بمشاركة ( تركيا وسوريا).
وتوسعت دائرة الخلاف بين روسيا وإيران بعد الحديث الذي ادلى به الرئيس بوتين في 19 كانون الأول 2024 في المؤتمرالصحفي السنوي للكرملين والذي تحدث فيه عن الأوضاع السورية وأشار إلى أن مدينة حلب كان فيها ثلاثون ألف مقاتل من عناصر الجيش السوري والمليشيات الإيرانية لكنهم لم يتمكنوا من الصمود ومواجهة (350) مسلحًا قدموا لحلب، والذي أثار الإيرانيين أنه قال ( بعد أن كانوا الإيرانيون يطالبون بالدخول إلى سوريا باتوا يطلبون مساعدتنا لإخراجهم منها)، وأكد أن القوات الروسية في في قاعدة حميميم ساعدت إيران بإخراج ( 4) الآف إيراني تابع لهم، وهذا ما أحرج النظام الإيراني ومؤسساته الأمنية والاستخبارية عندما كانت تتحدث عن وجود مستشارين لها من فيلق القدس والحرس الثوري في سوريا، وجاء الرد الإيراني مخالفًا للوقائع الميدانية والتعاون الاستراتيجي الروسي الإيراني في سوريا عندما أشار الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي أحمديان بأنهم ( لم تكن في سوريا اصلًا حتى منسحب منها)؟؟.
وكان من المفترض قيام الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بزيارة موسكو نهاية شهر كانون الأول 2024 للتوقيع على وثيقة التعاون الاستراتيجي والتي كانت جاهزة للتوقيع في مدينة قازان خلال قمة بريكس التي عقدت في الثاني والعشرين من تشرين الأول 2024 ، لكن رئيسي البلدين اتفقا في اجتماع في عشق آباد على أن يتم إبرامها خلال الزيارات الثنائية، إلا انها تأجلت من قبل القيادة الروسية، ولكن لمنع أي حديث حول وجود خلاف حول المتغيرات السياسية في سوريا وموقف كل من إيران وروسيا منها، فقد أعلن عن زيارة مسعود بيزشكيان الى موسكو في 17 كانون الثاني 2025 للتوقيع على اتفاقية للتعاون الشامل مع الرئيس فلاديمير بوتين.
أن السياسة الروسية وما عُرف عنها من رؤية واضحة لمصالحها بعيداً عن حلفائها فإنها استبقت تطور الأحداث في سوريا ومع انتظار مجئ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإنها أعلنت نفسها شريكة في مكافحة الارهاب بسوريا ومنطقة الشرق الأوسط، مع ارسال خطابات ورسائل اعلامية رسمية حول تعزيز خطوط التواصل مع قيادة هيئة تحرير الشام والحكومة الانتقالية السورية، لبقاء مصالحها واستمرار استثماراتها الاقتصادية وتواجدها العسكري في قاعدتي طرطوس وحميميم .
أن الروس يعلمون جيدًا ان الوفود التي تمثل الاتحاد الأوربي وبعض الدول الغربية قد اشترطت المساعدة في اعمار سوريا باخراج القوات الروسية من سوريا ومحو إدراج هيئة تحرير الشام من القائمة العالمية الإرهاب، وهذا ما أعلنته رسميًا ( كايا كاريس) المسؤولة العليا عن السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوربي، ولكنها تعلم جيدًا انها لازالت تمتلك التأثير الميداني في بعض اقطار الوطن العربي ( العراق ومصر والسودان والجزائر وليبيا) والقاعدة العسكرية في مدينة بنغازي، ولا زالت مفاتيح العلاقة مع الغرب والحلف الأطلسي عند أي مفاوضات تتعلق بوقف القتال في أوكرانيا، وأصبح الأمر واضحًا بعد التصريح الاخير للرئيس الأمريكي ترامب ( أن مشكلة أوكرانيا أصعب من مشكلة الشرق الأوسط).
وتبقى العلاقة الاستراتيجية الروسية الإيرانية رهينة بتطور الأحداث والمتغيرات السياسية في العالم ومنها الشرق الأوسط، وستبقى معاهدة التعاون الاستراتيجي بين روسيا وإيران هي الفيصل الرئيسي في تحديد مسار العلاقة المستقبلية بينهما وإزالة حالة الخلاف في بعض القضايا الاقليمية والدولية، مع استمرار إيران بنهجها وسياستها الحالية بالتهدئة وعدم إظهار القوة ودعم أسس علاقتها مع الدول المجاورة لها وأهمها الدول العربية الخليجية والمحيط العربي وخفض حالة التوتر مع الدول الأوربية، مع تهيئة الظروف السياسية للتعامل القادم مع الرئيس ترامب واستمرار الاتصال مع المسؤولين في سلطنة عمان حيث اللقاءات المفاوضات التي سبق وأن جرت مع ممثلي الإدارة الأمريكية في العاصمة (مسقط) وفتح قنوات جديدة لأي حوار قادم يخدم قواعد السياسة الإقليمية الإيرانية.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية