هل فات أوان تأجيل الاستفتاء على انفصال كردستان؟ رئيس الإقليم مسعود بارزاني ربط التأجيل بضمانات يستحيل أن تقدمها بغداد أو أي طرف إقليمي ودولي. يريد ضمانات لإجراء هذا الاستحقاق بعد أشهر أو سنة. أي بعد انتهاء الحرب على «داعش». هذه الحرب هي الذريعة التي يلجأ إليها معظم المعارضين وليس الرافضون بالمطلق. يرون أن الظروف ليست ملائمة. لو قدموا هذه الضمانات اليوم مثلاً لا تعود هناك حاجة إلى استفتاء على استقلال ينشده جموع الكرد. لأن الضمانات تعني ببساطة الموافقة سلفاً على انفصال الإقليم. وعلى رغم اصطفاف حشد من المعترضين الذين تتفاوت لهجات مواقفهم، لم يعد بامكان الزعيم الكردي التراجع. صدقيته وقيادته ومستقبله على المحك. يرى ومعظم مواطنيه أن الظروف التي لا تلائم الآخرين اليوم هي نفسها تلائم أهل كردستان. وقد تساءل قبل مدة متى يكون التوقيت مناسباً؟ فكلما عبر الكرد عن رغبتهم في تأسيس كيانهم المستقل كانوا يواجهون بمقولة أن الظرف ليس مناسباً! وقد رفع غلاة خصومه نبرة التهديد والتلويح باستخدام القوة ولجأوا إلى التخويف من بحور من الدماء في الإقليم. وساق كثيرون اتهامات له بأنه يريد التغطية على فشل إدارته وتجديد رئاسته بعدما انتهت ولايته قبل سنتين ويرفض تسليم الراية.
غالبية الكرد ترى إلى الظروف الحالية إذاً فرصة قد لا تتكرر. كان مصير مثل هذا الاستفتاء في السنوات والعقود الماضية بيد أربعة أطراف إقليمية أثبتت قدرتها على إحباط أي محاولة في هذا الاتجاه. فالدول الأربع تركيا وإيران والعراق وسورية يتوزع فيها الكرد مكوناً كبيراً لا يستهان به. وكانت ولا تزال ترفض مجرد التفكير في تغيير جغرافيتها وخريطتها. ولا حاجة إلى التذكير بما عاناه هذا المكون ولا يزال من اضطهاد وعذابات ومرارات منذ تقسيم المنطقة بين الانتدابين الفرنسي والبريطاني إثر سقوط السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. فضلاً عما عاناه تحت نير السلطنة أيام سطوتها. ولا حاجة إلى التذكير بمحاولاته الفاشلة لإقامة دولة مستقلة على غرار باقي شعوب المنطقة. لكن الظروف تبدلت اليوم في كردستان وفي مناطق شمال شرقي سورية. وتبدلت في الشرق الأوسط كله. فقد عاش الإقليم، منذ حرب تحرير الكويت، في شبه استقلال عن العاصمة العراقية. كما أن ما تعانيه البلدان الأربعة التي كانت من أشد المعترضين على انفصال الكرد حد من قلص خياراتها وقدراتها.
العراق يعيش تفككاً داخلياً قد لا يكون له علاج لا في المستقبل القريب ولا البعيد. وفوز الكرد بدولة مستقلة سيتفاقم هذا التمزق بين مكوناته. سيعزز حراك أهل السنة العرب لإقامة فيدراليتهم وإن بدا أوانها قد فات. أحزابهم وقواهم السياسية مشتتة ولا قدرة لها على المساهمة في منع المساس بوحدة البلاد، مثلما هي عاجزة عن فرض رؤية واحدة لإدارة المحافظات الغربية والشمالية. حتى أن بعض العشائر العربية نادى بأن يشمله الاستفتاء للتخلص من سطوة القوى الشيعية التي تستأثر بالسلطة. وكذلك لن يكون وقع التصدع سهلاً على تحالف القوى الشيعية المتصدع أصلاً. فبعض أحزابهم يحاول التملص من قبضة إيران. كما أن انقسام «حزب الدعوة» تكرس عملياً على وقع الاتفاق الذي أبرمه «حزب الله» مع «داعش» لنقل مقاتلي «التنظيم» من الحدود اللبناني – السورية إلى مناطق محاذية لحدود العراق. لذا لا تملك بغداد من أدوات القوة لمنع الاستفتاء أو الانفصال. ومهما ساقت من اعتراضات واتهامات للكرد بأن الدستور منحهم نسبة مشاركة تفوق نسبتهم السكانية في البلاد، وهم يحتلون مواقع مهمة في الدولة من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الأركان وعدد من الوزراء… فإن قادة الإقليم يردون بأن مواقعهم صورية لا سلطة قرار لها. كما أن الحكومة المركزية منعت وتمنع عنهم حصتهم من الموازنة العامة. في أي حال موضوع الاتهامات المتبادلة طويل ومعروف، ويتحمل الطرفان المسؤولية عما آل إليه الوضع. فالكرد أفادوا من مشاكل نظام المحاصصة الذي أرساه الأميركيون إثر الغزو وعززوا مواقعهم في الإقليم. وأفادوا أيضاً من «تحالفهم» الظرفي مع الأطراف الشيعية. مثلما أتاحت لهم المساهمة الفاعلة في الحرب على «داعش» فرصة مد سلطتهم إلى مناطق متنازع عليها.
وسورية ليست أفضل حالاً. إنها تعيش اليوم على وقع تقاسم خريطتها مناطق نفوذ بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية. وتعيش تركيا على وقع أزمات في عدد من الجبهات داخلياً وخارجياً ليس أولها وآخرها قضية الكرد الذين عادوا وإياها إلى تجديد الحرب والقتال في أكثر من مكان. وهي أمام منعطف تتحول فيه هوية الدولة وشبكة علاقاتها التقليدية. حتى بات يخشى أن يدمر حزب العدالة والتنمية كل ما بناه في السنوات الأخيرة. إضافة إلى ذلك قد لا تحتمل وقف تدفق مئات آلاف البراميل يومياً من كردستان عبر خط جيهان. ناهيك عن أن حجم التجارة التركية مع الإقليم يربو على ثمانية بلايين دولار سنوياً. فهل تجازف حكومة «حزب العدالة والتنمية» بهذه المكاسب الاقتصادية؟ يقود ذلك إلى أن دول المنطقة المعترضة لن يكون يسيراً عليها تنفيذ تهديداتها بعمل عسكري منسق لمنع الكرد من تحقيق استقلالهم. بل إن الحضور العسكري الروسي والأميركي تحديداً في المنطقة لن يكون خارج أي حسابات أو مغامرات من هذا القبيل. فاعتراض واشنطن على توقيت الاستفتاء وليس على حق الكرد في تقرير مصيرهم ومستقبلهم. وكذا موقف أوروبا عموماً. ويمكن وضع هذه المواقف الدولية المعترضة اليوم في خانة مسار تاريخي منذ اتفاق «سايكس – بيكو»، أي رفض تغيير الخرائط. إذ لا تحتاج هذه الدول، في عز الحرب على «داعش»، وقبل ذلك في ظل التحولات الدولية الكبرى، وفي ظل الصراع على بناء نظام دولي وإقليمي، إلى مزيد من المشاكل قد تنجم عن إعادة رسم حدود جديدة للدول في المشرق العربي. فمثل هذه المغامرة قد ينسحب على دول أخرى. هذا التنوع الديموغرافي والاتني والمذهبي في المشرق ليست إيران أو تركيا بعيدتين عنه. كما أن تلويح أنقرة بحصار اقتصادي لكردستان ووقف التعاون في مجال الطاقة إذا انفصلت قد لا يجد صدى. فالمجتمع الدولي لن يتفرج على طوق خانق يقود إلى تجويع الناس ويهدد حياتهم. وتبقى واشنطن أقرب حليف للكرد صاحبة الكلمة العليا ولن تسمح بتوجيه ضربة عسكرية إليهم. بل يمكنها الضغط عليهم لتأجيل إعلان الدولة… إلى حين.
تبدو إيران أكثر المعترضين تشدداً. لكنها تخوض اليوم حروباً لترسيخ مشروعها في الشرق الأوسط كله، من العراق إلى لبنان مروراً بسورية وما بقي من فلسطين و… اليمن أيضاً. ولا بد لها في النهاية من النظر في مصالحها الخاصة. وعلى رغم موقفها العلني الرافض بشدة والمحمل بالوعيد والتهديد، قد لا تكون مستعدة لفتح جبهة جديدة ومشاكل إضافية. فلها أكرادها أيضاً وقد لا يسكتون في حال التحرك ضد كردستان. وهم يهادنون اليوم لأن لهم مصلحة في المشاركة في الصراع على سورية. ولذا قد لا تجد أيضاً مبرراً لتدمير شبكة مصالحها مع الإقليم. وكانت سباقة في نجدته بالسلاح عندما توجه إليه «تنظيم الدولة» غداة احتلاله الموصل. فعلاقاتها مع السليمانية مقر سلطة حزب الاتحاد الوطني، تاريخية لا يمكن المغامرة بها. مثلما قد لا يصح هذه المرة الرهان على تأليب الكرد بعضهم على بعض، كما حدث في مناسبات وظروف أخرى. صحيح أن حزب الاتحاد يبدي بعض أجنحته اعتراضاً على توقيت الاستفتاء، ويصر على ترتيب البيت الداخلي للكرد. وكان اقترح قبل ثلاثة أشهر «خريطة طريق» لحل المشاكل في الإقليم والتفاهم مع بغداد. لكن الصحيح أيضاً أن الحزب يرفع منذ يوم تأسيسه شعار العمل من أجل كيان مستقل للكرد. وهو يشارك رسمياً في المجلس الأعلى للاستفتاء. وقد زار ممثله مع وفد المجلس بغداد ودول الجوار وبينها طهران للتسويق لهذا الاستحقاق. حتى القوى الإسلامية لا تعترض كلها. فالاتحاد الاسلامي الكردستاني (رابع قوة في الإقليم) وأحزاب إسلامية أخرى، تنادي بالاستفتاء، باستثناء «حركة التغيير» (القوة الثانية) التي تخوض صراعاً مع قيادة الإقليم. عموماً يصعب على جموع الكرد أن يقفوا بخلاف عواطفهم وطموحاتهم التاريخية بإقامة وطن قومي. وقد لا تنجح وساطة الجمهورية الإسلامية بين بغداد واربيل لإعادة المياه إلى مجاريها. هل تنجح وإيران تهدد كل يوم وهدفها طي صفحة الاستفتاء وليس تأجيله؟
يبقى أن الاستفتاء لن يقود إلى إعلان الاستقلال في اليوم التالي. سيستغرق الأمر أشهراً وربما أكثر من سنة. ثمة مشاكل وقضايا يجب أن تحل بالتفاهم بين اربيل وبغداد، مثل قضايا النفط والمياه والحدود النهائية والمناطق المتنازع عليها، إضافة إلى مستقبل العرب المقيمين في الإقليم ووضع الكرد في باقي محافظات العراق… أي أن 25 أيلول هو موعد للاستفتاء وليس موعداً لإعلان الدولة المستقلة. حتى كركوك لن تعني مشاركتها في هذا الاستحقاق أنها ستؤول تلقاءياً إلى أراضي الدول الجديدة. بل إن مصيرها والمناطق المتنازع عليها، كما قال بارزاني، يخضع للمادة 140 من الدستور. لكن حقيقة الموقف الكردي أن المدينة وهذه المناطق التي ساهمت «البيشمركة» في تحريرها من «داعش» ستبقى بيد الكرد… وهذا ليس وحده ما سيؤسس لنزاعات وحروب في المستقبل القريب والبعيد. ذلك أن انفصال كردستان، مهما هوّن الأمر أهل الاستفتاء العتيد، سيسهل على المعترضين من دول الطوق ترسيخ أقدامهم في ما استحوذوا حتى الآن واقتطعوا من المشرق العربي. وسيفتح الباب واسعاً، بعد دحر «داعش» أيضاً، لصراعات جديدة مذهبية وطائفية. فهل يكون الحدث المسمار الأخير في خريطة «سايكس – بيكو» لتنشأ خرائط بديلة للمشرق كله؟