كان أبرز ما نجم عن القمة الثلاثية الخامسة بين قادة مصر واليونان وقبرص، في نيقوسيا، الثلاثاء 21 نوفمبر 2017، التأكيد على أن الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط، ستمثل حافزا مهما لزيادة النمو واستقرار المنطقة.
وكشفت القمة أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ورئيس قبرص نيكوس انستاسياديس، ورئيس وزراء اليونان أليكسيس تسيبراس، أدركوا أهمية التعاون الثلاثي في قطاع الغاز الطبيعي والعزم على اتخاذ مبادرات جديدة لتعزيزه.
وفجّر توالي الاكتشافات في منطقة شرق المتوسط، منذ عام 2009، والتي تقدر بحوالي 69 تريليون قدم مكعب، تساؤلا بشأن إذا كانت الثروة الضخمة من الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط ستكون أساسا لمعالجة الصراعات الإقليمية أم مادة ملتهبة لتفجيرها؟
وولدت الإجابة على هذا التساؤل نقاشا ساخنا بشأن تداعيات الاكتشافات على مستقبل الأمن والتنمية في هذه المنطقة، وذهب فريق من المتفائلين إلى أنها ربما تساعد على تطوير أطر للتعاون الإقليمي بين مصر وعدد من دول الجوار، مثل قبرص وإسرائيل، في المدى القريب لتحقيق جملة من المصالح المشتركة في مجال تنمية حقول الغاز وتصدير الناتج منها إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية.
وفي المقابل، أكد الفريق الآخر أن الاكتشافات ستؤدي إلى تأجيج النزاعات القائمة بين دول شرق المتوسط ولا يستبعد نشوب حروب جديدة في سبيل السيطرة على الثروات الهائلة التي تمثلها هذه الاكتشافات.
ويقف بين التيارين فريق ثالث يرى أن المكاسب الاقتصادية الكبيرة تعتمد في نهاية الأمر على تطور الأوضاع السياسية والجيوبولتيكية في المنطقة، التي تشهد حاليا درجة عالية من عدم الاستقرار والضبابية.
توقعات بأن تتفاقم الخلافات العميقة والصراعات المزمنة بين دول المنطقة نتيجة اكتشافات الغاز في المنطقة
وأشار أنصار هذا التيار إلى أنه من غير المحتمل الاستفادة القصوى من اكتشافات الغاز الهائلة في المدى المنظور، وسط وجود مجموعة من التحديات، أبرزها:
* الخلافات العميقة والصراعات المزمنة بين دول المنطقة، والتي ربما تتفاقم نتيجة اكتشافات الغاز في المنطقة، فاستمرار الخلافات المتجذرة بين إسرائيل وكل من لبنان وسوريا، وعدم وجود ترسيم معترف به دوليا للحدود البحرية الإسرائيلية مع مصر ولبنان وفلسطين، يضعان علامات استفهام حول التعاون الإقليمي بشأن هذه الاكتشافات.
وإذا أضيف إلى ذلك، النزاع المزمن بين تركيا وقبرص حول مسألة قبرص الشمالية، وعدم الاستقرار وانتشار الأعمال الإرهابية في كل من سوريا والعراق وليبيا ومصر، يمكن تفهم مدى التعقيدات التي تحيط بالبيئة السياسية والإستراتيجية لتطوير وتصدير الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط.
* تردد الشركات الدولية في ضخ المزيد من الاستثمار في البنية التحتية للطاقة في منطقة شرق المتوسط، نتيجة استمرار عدم الاستقرار الجيوسياسي في المنطقة. كما أن توفير مثل هذه الاستثمارات يواجه تحديات تجارية، مثل إمكانية تراجع الأسعار العالمية للغاز الطبيعي نتيجة زيادة الكميات المكتشفة منه حول العالم، والجدل حول كيفية استغلال الغاز المكتشف في المنطقة، وما إذا كان سوف يتم توجيهه إلى الاستهلاك الداخلي أم إلى التصدير، ومدى تأمين الحماية لجميع منشآت الغاز الطبيعي والبترول في شرق البحر المتوسط، وسط سهولة تعرضها لهجمات من قبل جماعات إرهابية.
ورغم هذه التحديات الصعبة، لا يستبعد أنصار التيار الوسط إمكانية بروز تحالفات إقليمية لتعزيز التعاون والشراكة في مجال الغاز الطبيعي، مشيرين إلى إمكانية نشوء شراكة مصرية قبرصية، وربما إسرائيلية، لتصدير الغاز الطبيعي المكتشف في منطقة شرق المتوسط إلى الأسواق الأوروبية في المستقبل.
ويبدو أن قبرص وإسرائيل، رغم اكتشافاتهما الهائلة من الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط خلال السنوات الأخيرة، غير قادرتين على تنمية وتطوير هذه الاكتشافات دون تنسيق قوي مع القاهرة من أجل إقامة البنية الأساسية اللازمة لتصدير الغاز إلى الخارج، سواء كانت هذه البنية في شكل محطات لتسييل الغاز الطبيعي (عائمة أو أرضية) أو في شكل مد أنابيب الغاز إلى القارة الأوروبية، وهي السوق الرئيسي المتوقع لتصدير الغاز من هاتين الدولتين.
وتتطلع الدولتان إلى مصر في المدى القصير، باعتبارها طريق رئيسية لتصدير الغاز من حقولهما المكتشفة في شرق المتوسط، فالقاهرة لديها بالفعل بنية أساسية مهمة لتصدير الغاز الطبيعي المسال، تتمثل في محطتين لتسييل الغاز في مدينتي ادكو ودمياط على البحر المتوسط. كما أن هاتين المحطتين لا تعملان حاليا بكامل طاقتهما لتوقف مصر عن تصدير الغاز منذ عام 2014، ولعدم وجود فائض لديها في ظل ارتفاع الطلب المحلي على الغاز.
لا يستبعد أنصار التيار الوسط إمكانية بروز تحالفات إقليمية لتعزيز التعاون والشراكة في مجال الغاز الطبيعي
وبالتالي، يمكن لكل من إسرائيل وقبرص الاستفادة من هاتين المحطتين لتصدير الغاز المنتج من حقلي “ليفياثان” الإسرائيلي و”أفروديت” القبرصي، إذا تم ربط هذين الحقلين بهاتين المحطتين من خلال شبكة أنابيب نقل الغاز المصرية.
ما يدعم هذا الرأي أن تعاون مصر مع إسرائيل وقبرص في مسألة تصدير الغاز يسهم بشكل ملموس في تحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية والسياسية للقاهرة، مثل زيادة الرسوم التي تفرضها على عبور الغاز عبر أراضيها، وتعزيز المكانة الإقليمية.
وتتطلع دول أوروبية حاليا إلى الاستفادة من غاز شرق المتوسط لتلبية احتياجاتها في مرحلة ما بعد عام 2020، أي بعد انقضاء الفترة الزمنية للعقود طويلة المدى، التي كانت تربط معظم دول الاتحاد الأوروبي مع النرويج وروسيا.
لذلك لم يكن غريبا أن يؤكد الرئيس المصري، في القمة الثلاثية الأخيرة، على أن آلية التعاون بين مصر واليونان وقبرص تستهدف استمرار دور الدول الثلاث في المستقبل لضمان أمن واستقرار المنطقة. كما أن وجود تأييد قوي من جانب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لتعزيز الشراكة بين دول شرق المتوسط في مجال تعظيم الاستفادة من موارد الغاز الطبيعي، يلعب دورا مهما في هذا الفضاء.
وتطرح زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بينس إلى مصر وإسرائيل المقررة في أواخر ديسمبر المقبل، عدة أفكار لتطوير سبل التعاون والشراكة بين مصر واليونان وقبرص وإسرائيل في مجال الغاز الطبيعي.
ويعود الاهتمام الأميركي بالتعاون الإقليمي في مجال الغاز الطبيعي بمنطقة شرق المتوسط، إلى تفكير واشنطن في تدشين مقترحات سياسية بشأن سبل التعاون الإقليمي تلتحف برداء اقتصادي، ومن وراء ذلك يمكن حماية مصالح الشركات الأميركية العاملة في المنطقة وقطع الطريق على التطلعات الجامحة للشركات الصينية والروسية.
وتمتلك شركة نوبل إنرجي الأميركية حصة في حقل أفروديت القبرصي، تبلغ حوالي 70 بالمئة، بينما تمتلك مجموعة ديلك الإسرائيلية النسبة المتبقية، وتمتلك شركة نوبل إنرجي الأميركية نسبا متفاوتة في حقول الغاز الطبيعي الإسرائيلية المكتشفة حديثا في شرق المتوسط.
ومن الممكن أن يساهم التعاون بين مصر واليونان وقبرص في تحويل منطقة شرق المتوسط إلى منطقة رخاء مشترك، على خلفية ثروات الغاز الطبيعي الضخمة المتواجدة بالمنطقة.
ما يضاعف من أهمية هذا الاستنتاج أن التعاون لن تستفيد منه هذه الدول الثلاث فحسب، وإنما سيمثل فائدة كبيرة لكل من إسرائيل والولايات المتحدة.
ومن الطبيعي أن تؤدي الشراكة الإستراتيجية المتنامية بين الدول الثلاث إلى زيادة قلق تركيا، فهذه الشراكة سوف تقوي كثيرا من قبرص، التي كان ضمها ولا يزال حلما تركيا، منذ تقسيم جزيرة قبرص في عام 1974 إلى قسمين؛ شمالي قبرصي تركي وجنوبي قبرصي يوناني.
وتحرم تركيا مع عوائد كثيرة يمكن أن تجنيها في حالة تصدير الغاز الطبيعي من قبرص وإسرائيل عبر أراضيها. وربما تقود الشراكة الثلاثية المتنامية إلى خلق بؤرة توتر جديدة في المنطقة، لأن تركيا تنظر إليها باعتبارها موجهة ضد مصالحها القومية، وهو ما يجعل التوتر مخيما على هذه المنطقة لفترة طويلة.
د.أحمد قنديل
صحيفة العرب اللندنية