تُظهر عدد من الدراسات الاستقصائية الجديدة أن خُمس المواطنين اليهود في إسرائيل على الأقل منفتحون على فكرة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وإذن، كيف يمكنا التوفيق بين هذا الاتجاه وبين العنف الذي يمارس الآن ضد الفلسطينيين على حدود غزة؟
* * *
ما هو ذلك الشيء في “مسيرة العودة الكبرى” في غزة، الذي يجعل الإسرائيليين يشعرون بالتهديد إلى هذا الحد؟ ما هو الشيء الذي يعمل الإسرائيليون على منع حدوثه بكل هذا النشاط؟ يرمز سياج غزة إلى جوهر الدولة اليهودية التي تأسست من خلال تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم وطرد أغلبيتهم إلى خارج حدودها. وقد بنيت الجدران والأسيجة –فوق وتحت الأرض- لمنع هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين من العودة. واليوم، كما كان الحال في الخمسينيات، ما يزال يُنظَر إلى هؤلاء اللاجئين على أنهم “متسللون” خطيرون. ولا يتغير الكثير عندما يأتي الأمر إلى التفكير والممارسات الكولنيالية. وللأسف، علينا الاعتراف أيضاً بأنه حتى عندما تصبح الفظاعات أكبر مما يمكن تحمله، فإن رد الفعل الإسرائيلي العنيف لا يكون مفاجئاً. ويكاد ذلك يكون من نافلة القول؛ وربما تكون حقيقة أنه ليس ثمة ما يفاجئ في هذا النوع من السلوك فظاعة في حد ذاتها؛ أن تكون حالة الطوارئ الماثلة في غزة الآن مجرد شأن تافه وهامشي.
لهذا السبب، كان من المفاجئ للغاية اكتشاف نتائج مسح جديد أجرته مجموعة الخرائط الجغرافية الإسرائيلية Geocartography Knowledge Group بين 500 من اليهود الإسرائيليين، من أجل كتابنا “النكبة بالعبرية”. ويُظهر المسح أن عدداً غير قليل من اليهود الإسرائيليين، أو على الأقل أكثر بكثير مما قد يظن المرء، يدعمون حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
في هذا المسح، سُئل اليهود الإسرائيليون السؤال التالي: “في العام 1948، خلال حرب الاستقلال، تم تحويل أغلبية الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في هذا البلد إلى لاجئين، والذين انتشروا منذ ذلك الحين في كل أنحاء العالم. ويشير حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى إمكانية أن يختار كل لاجئ فلسطيني (أو نسله/نسلها) بين العودة الفعلية إلى المكان الذي عاشوا فيه حتى 1948، وبين أشكال أخرى من التعويض. وربما تكون أهمية الاعتراف بحق العودة هي أن أكثر من سبعة ملايين لاجئ فلسطيني سيختارون العودة إلى إسرائيل. إلى أي حد تدعم أو تعارض حق العودة بالشكل الموصوف”؟
كان القصد من الوصف المفصل وإدراج عبارة “أكثر من سبعة ملايين” لاجئ فلسطيني ضمان أن يفهم المستجيبون للاستطلاع بشكل كامل أهمية الاعتراف بحق العودة وتطبيقه. وتم ذلك بعد أن كان الوصف في مسحَين سابقين أقل صراحة ووضوحا، وهو ما أنتج فيهما أكثر من 20 في المائة من الإسرائيليين الذين يدعمون حق العودة. ومع ذلك، أجاب 16.2 في المائة من المستجيبين في المسح الجديد بأنهم يؤيدون العودة، أو أنهم يدعمونها “شريطة أن يعود اللاجئون وفق ظروف سلمية”.
وفقاً لهذا الاستطلاع، فإن عدد النساء اليهوديات الإسرائيليات اللواتي يؤيدن حق العودة كان أكثر من الرجال بمقدار الضعف تقريباً (17.2 في المائة في مقابل 9 في المائة). ويمكن العثور على رقم متفائل بشكل خاص عندما يتم تقسيم الاستجابات حسب العمر: كان الإسرائيليون من الفئة العمرية ما بين 18 و34 عاماً يؤيدون حق العودة بمعدل عالٍ بشكل خاص (25.9 في المائة)، مقارنة بالبالغين فوق عمر 55 عاماً (15.1 في المائة)، وبأولئك من الفئة العمرية بين 35 و54 عاماً، (7.3 في المائة). وفي الأثناء، كان الإسرائيليون الذي يكسبون دخلا متوسطا أكثر احتمالا بنسبة الضعف تقريبا لدعم حق العودة من أولئك الذين يكسبون دخلا فوق المعدل المتوسط (بنسبة 21.9 في المائة في مقابل 12.7 في المائة).
يرى المرء صورة واضحة ومتوقعة عندما يتعلق الأمر بدرجة التديُّن. وكانت نسبة اليهود العلمانيين المؤيدين لحق العودة أعلى بأربعة أضعاف من اليهود المتدينين المتطرفين (22.3 في المائة في مقابل 5.2 في المائة). كما عُثِر على فرق مثير للاهتمام أيضاً بين اليهود من الجيل الثاني، وبين اليهود الذين وُلد أباؤهم في أوروبا، والإسرائيليين الذين ينحدر آباؤهم من أصل المزراحي (اليهود الشرقيين). ويؤيد الأولون حق العودة بمعدل عالٍ يصل إلى (22.6 في المائة) مقارنة بأولئك المولودين لوالدين مهاجرين من أوروبا (14.1 في المائة)، وأولئك الذين ولدوا لوالدين من المزراحي (11.7 في المائة).
هذه النتائج المدهشة تدعمها نتائج مسوحات واستطلاعات رأي أخرى. وكان الأول من هذه المسوحات قد أجرته أيضا مجموعة رسم الخرائط الجغرافية لكتاب “النكبة بالعبرية” في آذار (مارس) 2015. وفي ذلك الاستطلاع، سُئل 500 يهودي إسرائيلي السؤال التالي: “هل ستدعم أنتَ شخصياً حق عودة الفلسطينيين إذا كان الاعتراف بذلك الحق لا يتضمن اقتلاع اليهود الإسرائيليين من المنازل التي يعيشون فيها حالياً”؟ وقد استجابت نسبة 20 في المائة بالإيجاب، مقارنة بنسبة 60.8 في المائة من الذين أجابوا بالنفي.
وفي مسح أجراه معهد سميث لصالح التلفزيون الاجتماعي الإسرائيلي في تموز (يوليو) 2017، سُئل 400 يهودي يعيشون في شمال إسرائيل السؤال التالي: “هل تؤيد أم تعارض حق العرب في العودة للعيش في المناطق التي كانوا يعيشون فيها قبل العام 1948″؟ وقد استجاب نحو 26 في المائة بشكل إيجابي. ومن الممكن أن يكون ارتفاع هذا المعدل بشكل خاص قد نبع من صياغة السؤال، الذي لا يوضح بالضبط من هو الذي سيعود. وبعبارات أخرى، فإن السؤال لا يذكر أن هؤلاء اللاجئين يعيشون حالياً خارج حدود الدولة. ومن المثير للاهتمام ملاحظة أنه في ذلك المسح أيضاً، كان عدد النساء اللواتي أيدن حق العودة ضعف عدد الرجال: (30 في المائة في مقابل 17 في المائة).
كيف يمكننا إذن أن نوفق بين الرد الإسرائيلي العنيف والحازم المتمثل في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في غزة، وبين النتائج المتسقة للمسوحات المختلفة، والتي تُظهر أن نحو خُمس اليهود الإسرائيليين منفتحون على إمكانية عودة اللاجئين الفلسطينيين؟
من وجهة نظرنا، تنبع الفجوة من الطرق المختلفة التي تُناقَش بها قضية العودة في المجال العام. وقد ظل الخطاب العام السائد في إسرائيل حول حق العودة متناقضاً. وينظر الكثيرون إلى العودة على أنها تعادل تعرض اليهود لمحرقة أخرى –لعبة محصلتها صفر. وبعبارات أخرى، تعني عودة الفلسطينيين أن لا يعود لليهود الإسرائيليين مكان في البلد. وقبل بضعة أيام سألنا عدنان محمد، وهو لاجئ من قرية اللجون، خلال زيارة إلى قريته المدمرة، عما سيحدث لليهود الذين يعيشون في كيبوتس ميجيدو (الذي بني على أنقاض قريته)، في حال تم تحقيق حقه في العودة. وقد أثارت إجابته انتباه المستمعين: “إننا لا نريد أن نتسبب للآخرين بنفس المعاناة التي نعيشها، وسوف نعثر على طريقة للتسوية على هذه الأراضي”.
يتبين أنه عندما يُسأل الإسرائيليون عن حق العودة كحق إنساني أساسي –غايته العيش بسلام في إسرائيل- فإن عددا معقولا منهم يجيبون بإلإيجاب.
تستحق قضية تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين إجراء نقاش منفصل وعميق، وهو ما كان يكسب زخماً خلال السنوات الأخيرة. وتجدر ملاحظة أن مطالبة الفلسطينيين الثابتة بالاعتراف بحق العودة وتطبيقها لم تكن مصحوبة أبداً بمطلب طرد اليهود. بل على العكس، حيث يُربط تحقيق حق العودة بالظروف الديمغرافية والثقافية التي تغيرت منذ النكبة. وبذلك، تمثل إجابة عدنان الفهم السائد بين الفلسطينيين –سواء كان ذلك بين اللاجئين أو أولئك الذين يعيشون على أرضهم التاريخية. لن تكون العودة مصحوبة باقتلاع قسري للناس من البيوت التي يعيشون فيها.
من أجل تعزيز العدالة والمصالحة في إسرائيل، يجب علينا أن نطور خطابا يعترف بالمظالم التي وقعت في الماضي ويسعى إلى التعايش. وليست هناك أي جدوى من الحديث حول “حقوقهم” في مقابل “حقوقنا”. ولا يفعل مثل هذا الجدال سوى تشجيع بناء الأسيجة وخلق التبرير لفتح النار على كل شخص يقترب منها. علينا الآن أن نستخدم نوعا جديدا من اللغة، والذي يشمل كل سكان البلد ولاجئيه. وسوف يكون ذلك بداية عملية تهدف إلى جعلنا نتوقف عن أن نكون مستوطنين ومحتلين، من أجل العيش هنا معاً –إلى جانب كافة سكان هذا البلد ولاجئيه.
إلينور برونشتاين*؛ وإيتان برونشتاين أباريشيو
الغد