غزة خذلها الجميع، تخلى عنها أهل الدار فكيف سينتصر لها الغرباء؟ غزة يتيمة تركت وحيدة على موائد الكبار اللئام الذين لا يرحمون ولا يسمحون للرحمة أن تصلها، محاصرة، مجوعة، مدمرة، مهمشة، ومنسية فوق كل هذا وذاك. تكالبت عليها الدنيا بهدف واحد: تركيعها وتشليحها سلاح المقاومة الذي هو أصلا للدفاع عن النفس وإلحاق بعض الأذى في عدو يتغذى على القتل والتدمير وشعاره «أقتل كي تكون».
حصار غزة يكمل عامه الحادي عشر. كان في البداية أحادي الجانب حتى عام 2013 عندما أطبقت مصر فك الكماشة الثاني فأصبح شاملا.
ممثل الأمين العام في الأرض الفلسطينية المحتلة ومنسق ما يسمى عملية السلام، نيكولاي ملادينوف، حذر مجلس الأمن مرارا من أن غزة تحولت إلى «برميل بارود على وشك الانفجار» وهو ما حدث بالفعل لكن بطريقة إيجابية وخلاقة وموجهة ضد العدو بدل أن تنفجر داخليا وذلك بإطلاق مسيرات العودة. تميزت المسيرات بثلاث ظواهر إيجابية، السير تحت علم فلسطين فقط، والمحافظة على سلميتها، كما ظل طابعها جماهيريا.
ستة أسابيع وقضية غزة تحتل الأولوية على جدول أعمال المنظمة الدولية. لقد أعاد الغزيون ببطولاتهم واستعدادهم العالي للتضحية من أجل فلسطين وحق العودة الإهتمام الدولي بالقضية بعد أن غطت عليها أحداث عربية وعالمية.
سنحاول تـقــديم عـــرض موجــز لمــواقـف آليات عمل الأمم المتحدة وتعاملها مع الملف:
الأمين العام ومبعوثه الخاص
بدأ ملادينوف يحذر من مسيرات العودة المزمع تنظيمها ويظهر تخوفه على الأطفال خاصة وقد أصدر الأمين العام بيانا عشية المسرة الأولى لأول مرة مطالبا بالتهدئة وضبط النفس وتجنب إستخدام القوة والابتعاد عن التحريض والتعبئة والعنف والعمل على تجنيب المدنيين وخاصة الأطفال أي مواقف قد تعرضهم للأذى. وقال في إحدى بياناته المتكررة «يجب على قوات الأمن الإسرائيلية ممارسة أقصى درجات ضبط النفس في استخدام الذخيرة الحية. وتقع على عاتق حماس وقادة المظاهرات مسؤولية منع جميع أعمال العنف والاستفزازات». ونلاحظ أن العنف والاستفزازات رميت على الجانب الفلسطيني ثم ألحقت بحماس. وكأن الاحتلال نفسه ليس عنفا وكأن الحصار ليس عنفا ظالما واستفزازا شاملا.
وفي بيان آخر «دعا الأمين العام إلى إجراء تحقيق مستقل وشفاف في تلك الحوادث وناشد الأطراف المعنية الامتناع عن أي عمل قد يقود إلى وقوع مزيد من الضحايا، وخاصة أي إجراء قد يعرض المدنيين للخطر».
فما معنى دعوة القاتل نفسه إلى إجراء تحقيق مستقل وشفاف؟ وقد ذهب وفد عربي مكون من خمسة سفراء وأثاروا مع غوتيريش مسألة التحقيق وطلبوا منه أن يقوم هو بتشكيل فريق تحقيق مستقل وشفاف، فقال لهم أريد أن أبقي الباب مفتوحا ولننتظر قيام إسرائيل نفسها بالتحقيق. ولم يخرج ملادينوف عن خط مديره في الدعوة إلى قيام إسرائيل نفسها بالتحقيق في جرائمها. غوتيريش وملادينوف يعرفان جيدا أن إسرائيل لا تدين نفسها ولا تلقي بأي لوم على القتلة. على العكس تبجل القاتل وتعتبره بطلا كما قال ليبرمان حول قيام قناص بقتل مدني أعزل بدم بارد: «القناص يستحق شهادة تقدير، والمصور يستحق خفض رتبته».
الأمين العام غوتيريش أصدر بيانا يوم 14 الجاري بعد مجزرة راح ضحيتها 61 بريئا وآلاف الجرحى واستخدم مصطلح يشعر «بالقلق العميق». أما ملادينوف فقد تقدم خطوة صغيرة جدا فقال «يوم أمس كان مأساويا لشعب غزة».
مجلس الأمن
عقد مجلس الأمن مجموعة من الجلسات المفتوحة والمغلقة بناء على دعوة من الكويت، العضو العربي الوحيد في المجلس. وبذل السفير منصور العتيبي مجهودا جبارا للخروج بموقف موحد حتى في حده الأدنى من مجلس الأمن لكن صاحبة الكعب العالي لم تسمح بذلك وعملت فيتو صامتا ثلاث مرات. وفي الحالات الثلاث كان هناك اجماع بين 14 عضوا إلا صاحبة الكعب العالي التي تمسكت بموقف حزب الليكود الذي يضع اللوم على الضحية: المسؤولة على حماس «الإرهابية» التي تستخدم الأطفال دروعا بشرية، والمسؤولية على إيران «راعية الإرهاب» وجيش إسرائيل من أكثر جيوش العالم ضبطا للنفس. وأفضل ما سمعته في جلسات مجلس الأمن ما قاله السفير البوليفي، ساشا سيرجيو لورنتي سوليز: «أطلب المغفرة من الشعب الفلسطيني فبعد 70 عاما من الاحتلال عجز مجلس الأمن عن نصرتكم».
مجلس حقوق الإنسان
وأخيرا صوت مجلس حقوق الإنسان، حيث لا فيتو هناك، يوم الجمعة الماضي على إنشاء لجنة تحقيق مستقلة. ولم تجد الولايات المتحدة من يقف معها في معارضة القرار إلا استراليا. وصوتت 29 دولة مع القرار من بينها بلجيكا وإسبانيا وسلوفينيا والبرازيل والمكسيك وتشيلي وفنزويلا، بينما صوتت 14 دولة أوروبية بـ «امتناع» من بينها بريطانيا، وألمانيا وسويسرا. إن التصويت انتصار معنوي قد لا يغير كثيرا من الواقع على الأرض. فهو ليس أول قرار ينشئ فريق تحقيق لكن إسرائيل تعتبر نفسها فوق القانون الدولي منذ ولادتها القيصرية بسبب المظلة التي تزودها بها بريطانيا وفرنسا أولا إلى أن تسلمت المهمة الإمبريالية الأمريكية وخاصة في غياب الحضور العربي الفاعل والموحد.
عبدالحميد صيام
صحيفة القدس العربي