خلف مشهد تكدس آلاف العمال العالقين في الرياض بانتظار من يطعمهم أو يعيدهم إلى بلدانهم بعد إفلاس شركات، تكمن مؤشرات على تحولات مهمة بالمملكة العربية السعودية اقتصاديا واجتماعيا، صنعت بيئة طاردة لملايين المقيمين، ونهاية عصر الرفاه.
في تأكيد لهذه الظاهرة، يشير موقع “بيزنس إنسايدر” إلى أن أكثر من ثمانمئة ألف مغترب غادروا المملكة نهائيا منذ نهاية 2016 حتى أبريل/نيسان الماضي، بمعدل زاد بقليل على 1500 مغادر يوميا.
ومنذ بداية عام 2016 لم يعد ملايين العمال الأجانب في السعودية يجدون البيئة الملائمة للعمل والكسب وتحسين أوضاعهم، وأصبحت الإقامة هناك عبئا على معظمهم؛ جراء السياسات الاقتصادية وسياسة التقشف وفرض الضرائب و”السعودة” غير المدروسة.
أزمة تلد أخرى
وتشهد المملكة مخاضين عسيرين على الصعيدين السياسي والاقتصادي، خلخلا البنى القديمة وأسس دولة الرفاه جراء الإجراءات التي فرضها ولي العهد محمد بن سلمان لإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي ضمن ما يعرف برؤية 2030.
وتقوم هذه الرؤية على إجراءات تقشفية وفرض ضرائب ورسوم والتخلي عن الدعم في عدد من القطاعات الإستراتيجية، بينها رفع أسعار المياه والكهرباء والوقود، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، والتخلي عن العمالة الأجنبية في عدة قطاعات.
ومؤخرا، أثارت الزيادات الكبيرة في فواتير الكهرباء -التي تجاوزت 250% وفق مصادر صحفية سعودية- انتقادات واسعه لدى السعوديين أنفسهم، ومثلت عامل إحباط آخر للمقيمين، وسببا جديدا لدفعهم إلى المغادرة.
ووفق إحصاءات عام 2017، يبلغ عدد الأجانب بالمملكة نحو 11.7 مليون شخص، يعمل 7.4 ملايين منهم، في حين يمثل المرافقون نحو 4.3 ملايين شخص، ويبلغ متوسط دخل العمالة الأجنبية أقل من 266 دولارا شهريا.
وإضافة إلى الرسوم والزيادات في الأسعار، أقرت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بداية عام 2018 قرارا يمنع الأجانب من العمل في 12 نشاطا تجاريا جديدا، أضيفت إلى قطاعات أخرى منعوا من مزاولتها سابقا لتنقطع أسباب الرزق لعشرات الآلاف.
ومع الركود الذي يعانيه القطاع الخاص، وإفلاس مئات الشركات -بينها شركات كبرى في قطاع التشييد- تأخر دفع أجور عشرات الآلاف من العمال ولعدة أشهر، وغادر معظمهم البلاد في ما يشبه عمليات الإجلاء دون الحصول على مستحقاتهم.
ولعل السبب الرئيسي في “الهروب الكبير” -كما أطلقت عليه مواقع معارضة-فرض رسوم شهرية منذ بداية 2018 على المرافقين للعمال الوافدين بمئة ريال شهريا للفرد، لترتفع إلى مئتين منذ الأول من يوليو/تموز الجاري، وتصل إلى أربعمئة ريال في 2020.وستوفر هذه الرسوم نحو عشرين مليار ريال (نحو خمسة مليارات دولار) خلال السنوات الثلاث المقبلة.
وأقرت السلطات السعودية مطلع 2018 الأداء على القيمة المضافة بنسبة 5% على العديد من المنتجات والخدمات، وهي إجراءات غير مسبوقة، بعد أن فرضت منتصف عام 2017 ضريبة على التبغ والمشروبات وسلع أخرى.
ومجمل هذه المتغيرات السياسية والاقتصادية الجارية انعكست سلبا على الجوانب المعيشية في المملكة، وشكلت بيئة طاردة للوافدين، فلم يعد متاحا بالنسبة لمئات آلاف العاملين مجابهة الظروف الحياتية الصعبة، مع الأعباء المتزايدة وجمود الرواتب وارتفاع الأسعار والخدمات، ومن ثم اختاروا الرحيل الطوعي وأحيانا الإجباري.
من الرفاه إلى التقشف
بات السعوديون -وبدرجة أقل المقيمون- يعيشون بالفعل واقعا مختلفا عما ألفوه خلال “عصر الرفاه”، حيث الخدمات المجانية ودعم الأسعار والخدمات والوظائف المجزية، والطاقة الرخيصة.
وتشير تقارير تنشرها مواقع المعارضة السعودية إلى أنه وراء الضجيج الذي صنعته هيئة الترفيه -كأحد مقومات رؤية 2030- من خلال الحفلات الفنية والموسيقية المستجدة تختفي مشاكل اقتصادية اجتماعية جمة تضغط بشكل كبير على المقيمين وأصحاب الدخول الضعيفة، وكذلك المواطنون.
وبداية عام 2018، أعلنت السعودية عن أضخم موازنة في تاريخها بقيمة 978 مليار ريال (260.8 مليار دولار)، لكنها سجلت عجزا بقيمة 195 مليار ريال (52 مليار دولار)، وخصصت 31.8% (83 مليار دولار) من الموازنة للقطاعين العسكري والأمني مع مغامرة الحرب المكلفة في اليمن.
وسجلت المملكة ديونا غير مسبوقة بعد تراجع أسعار النفط ونفقات حرب اليمن الهائلة، وصلت خلال عام 2017 إلى 116.8 مليار دولار مقابل 84.4 مليار دولار بنهاية 2016. وشكل الدين السعودي 17% من الناتج المحلي في 2017، مقابل 13.1% في 2016.
ومع تراجع مقومات الرخاء، أصبحت معدلات البطالة المرتفعة بين السعوديين تحديا مستمرا أمام الحكومة، حيث ارتفعت إلى 12.9% في الربع الأول من عام 2018، ويواجه القطاع الخاص صعوبات جمة لتطبيق سياسة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بإعطاء الأولوية للسعوديين وتعويض الأجانب الراحلين.
ورغم التكتم والتعتيم، فإن مظاهر تراجع المستوى المعيشي والفقر في المملكة لم تعد خافية، وينشر ناشطون تباعا صورا لا تبدو للوهلة الأولى في البلد الذي تسبقه سمعته كأكبر منتج للنفط في العالم، حيث تبدو فيها المساكن المزدحمة وشبه المتداعية كأنها في دول فقيرة في الموارد والموازنات.
مقاطع الفيديو الكثيرة منشورة عبر يوتيوب، وأشهرها تلك التي نشرتها “قناة ملعوب علينا”، التي تظهر مفارقات كثيرة لسعوديين وأجانب يعيشون فقرا مدقعا في عشوائيات العاصمة الرياض ومدن أخرى، ولا تختلف عما صوره مسلسل “العاصوف” (ناصر القصبي والمثنى صبح) عن أحياء عاصمة المملكة في حقبة الستينيات.
ويشير ناشطون وتقارير صحفية إلى زيادة الظواهر المرادفة للفقر مثل التسول، حيث يتكرر المشهد في ضواحي الأحياء الفقيرة بأحزمة المدن وحتى وسط المدن الكبرى، في تناقضات صارخة بين غنى فاحش وفقر مدقع.
وفي المدن الكبيرة مثل الرياض، توجد أحياء تعاني الفقر والإهمال، مثل السويدي والجرادية والشميسي، وأيضا أحياء الكرنتينا والرويس في جدة، وفي المدينة المنورة تعيش أحياء سيح والمصانع والزاهدية والمغيسلة وغيرها على حافة الفقر.
وتراهن “رؤية 2030” التي وضعها ولي العهد السعودي على تغيير هذه الصورة وتقليص الاعتماد على الريع النفطي، وإعادة “عصر الرفاه”، لكن مراقبين يرون أن إجراءاتها خلفت آثارا اجتماعية خطيرة يصعب تجاوزها، وأوجعت المواطنين و أغلب المقيمين الذين رحلوا أو يحزمون حقائبهم.
المصدر : الجزيرة