يقترب النظام السوري من إغلاق ملف الجنوب عسكريا بعد الاتفاق مع المعارضة المسلحة في القنيطرة، لتعود خطوط الاشتباك مع إسرائيل إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، وليثار الجدل حول حدود التفاهمات والرابحين والخاسرين من هذا التحول الكبير في الجبهة الأخطر بالمنطقة.
نص اتفاق القنيطرة على عودة قوات النظام السوري إلى مواقعها التي انسحبت منها بعد عام 2011، وتسلم الشرطة العسكرية الروسية مؤقتا نقاط المراقبة التابعة للأمم المتحدة على خط وقف إطلاق النار، إلى حين عودة الجنود الأمميين (قوات إندوف) الذين انسحبوا من المنطقة عام 2014 بعد فترة من احتجازهم من قبل المعارضة.
ضمن بنود الاتفاق أيضا تسليم فصائل المعارضة أسلحتها الثقيلة والمتوسطة وخروج من يرغب من المسلحين والمدنيين إلى محافظة إدلب، وتسليم “تل الجابية” شمال غرب مدينة نوى (ريف درعا الشمالي الغربي) لجيش النظام لضمان عدم سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليها.
وكانت المعارضة المسلحة قد سيطرت بعد عام 2011 على معظم محافظة القنيطرة (80% منها تقريبا عدا خان أرنبة ومدينة البعث) وشملت منطقة السياج الحدودي (العازلة) وتلك المناطق كانت في معظمها ضمن اتفاقية فض الاشتباك الموقعة بجنيف يوم 31 مايو/أيار 1973 (بعد نحو عام من حرب أكتوبر/تشرين الأول).
وبمقتضى هذه الاتفاقية وافقت دمشق وتل أبيب على تحديد قواتهما بعمق 20 كيلومترا من خطوطهما الأمامية، وفرضت على الجانب السوري ألا ينصب منظومات “سام” للدفاع الجوي ضمن منطقة عمقها 25 كيلومترا.
وإلى جانب احتلالها الجولان في حرب 1967، استولت إسرائيل خلال حرب 1973 على جيب يمتد إلى 40 كيلومترا جنوب غرب دمشق (خط سعسع) شمل مدينة القنيطرة (60 كيلومترا عن دمشق) ونحو 60 كيلومترا مربعا تضم 23 قرية إضافية، وانسحبت منها لاحقا بمقتضى اتفاقية 1974 عدا هضبة الجولان.
وفرضت تل أبيب حزاما أمنيا منزوع السلاح تماما على طول الحدود، عرضه يبدأ بعشرات الأمتار جنوبا، ليصبح بعرض 6 كيلومترات قبالة القنيطرة ثم 10 كيلومترات في جبل الشيخ.
التفاهمات وأمن إسرائيل
اتفاق القنيطرة -الذي جرى إعلانه الخميس 19 يوليو/تموز- بدأ تطبيقه بعيد لقاء القمة التي جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب يوم 16 يوليو/تموز في العاصمة الفنلندية هلسنكي، حيث كان الملف السوري على رأس المواضيع المطروحة.
وأكد الرئيسان ضرورة “دحر الإرهابيين” من جنوب غرب سوريا، وإعادة الوضع في مرتفعات الجولان على أساس اتفاق فض الاشتباك عام 1974 وضمان أمن دولة إسرائيل بشكل وثيق وفق ما ورد في بيان.
ويشير محللون إلى أن القمة أفضت إلى تفعيل الاتفاق حول السماح بعودة قوات النظام إلى حدود الجولان المحتل والمنطقة الجنوبية عموما، بموافقة إسرائيلية وذلك بعيد مفاوضات روسية مع الجانب الإسرائيلي على ذلك.
ورغم أن روسيا تنفي الاتفاق مع واشنطن أو تل أبيب على إبعاد إيران من سوريا، فإن تقارير تفيد بأن القوات الإيرانية والأخرى التابعة لحزب الله انسحبت بطلب روسي لأكثر من 40 كيلومترا عن خطوط المواجهة لتسهيل تنفيذ الاتفاق.
عودة الحديث عن اتفاق فض الاشتباك والرجوع لخطوطه الأساسية -رغم سيطرة المعارضة المسلحة بما فيها جبهة النصرة (فتح الشام لاحقا) طوال 7 سنوات يشير -وفق مراقبين- إلى توجه روسي أميركي لإحياء مسار السلام بين دمشق وتل أبيب ضمن سياق “صفقة القرن” لكن الوجود الإيراني في سوريا يبقى العقبة الكأداء في وجه هذا المسار.
الرابحون والخاسرون
في موازين الربح والخسارة، يبدو النظام السوري الرابح الأكبر من الاتفاق بعودته إلى كامل محافظة القنيطرة وقبلها درعا، إلا من جيوب صغيرة يسيطر عليها تنظيم الدولة في حوض اليرموك (ريف درعا الجنوبي الغربي) وأخرى تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (تضم جبهة النصرة أساسا وفصائل أخرى).
ويشير مراقبون إلى أن الاتفاق -الذي جرى بحرص روسي كبير وتخطيط بدأ منذ فترة- جنّب النظام معركة كبيرة على حدوده الجنوبية مع إسرائيل، كانت ستشكل خطرا محدقا عليه إذا تدخلت فيها إسرائيل بكامل قوتها.
وحاول النظام منذ عام 2014 استعادة بعض القرى والبلدات والمواقع الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة بالقنيطرة، لكن التدخل الإسرائيلي بالقصف المدفعي والصاروخي لفائدة مقاتلي المعارضة -كما يقول النظام- منع تحقيق أي تقدم كبير.
وبحسمه جبهة الجنوب (القنيطرة ودرعا أساسا) وقبلها حمص، وسيطرته على الحدود مع لبنان ومعظم الحدود مع العراق، يكون النظام قد حصّن ما تصفه المعارضة بـ “المفيدة” ليتجه لا حقا إلى جبهات في إدلب، وإلى الشمال السوري وسط أنباء على اتفاقات مع الأكراد بعودته تدريجيا إلى تلك المناطق.
ومقابل الاتهامات التي تسوقها المعارضة بأن عودة النظام ستحقق أمن إسرائيل بالجنوب -وهو الذي لم يطلق أي رصاصة منذ 1973- كما يقولون، يرد أنصار النظام بأن فصائل المعارضة المسلحة نفسها لم تطلق أي رصاصة على إسرائيل خلال نحو 7 سنوات من وجودها على الحدود مع الأراضي الفلسطينية، وكان التعاون بين الجانبين قائما في المؤونة والسلاح والعلاج.
ويؤكد محللون أن إسرائيل اختارت في النهاية عدم التصعيد بالموافقة على الاتفاق، وراهنت على عودة قوات النظام إلى الحدود وعلى منظومة أمن طويلة الأمد بضمانات أميركية وروسية، وأسقطت في المقابل خيار الرهان على معارضة بدأت في التفكك والتلاشي وفقدت ظهيرها الأميركي والغربي.
ورغم تأكيدها الدائم على ضرب أي تحرك إيراني في سوريا، فإن تل أبيب اختارت التفاهمات الروسية معها والقائمة على إبعاد إيران من خط المواجهة بالجنوب السوري، مع عدم تقييد يدي إسرائيل في أي تحرك عسكري ضدها.
وفي المقابل، يزيد اتفاق القنيطرة من أوجاع المعارضة المسلحة التي خرجت مجددا لتصبح الخاسر الأكبر بإحدى أهم الجبهات التي كانت تعول عليها، ويجد الرافضون له أنفسهم في الطريق إلى إدلب بانتظار تفاهمات جديدة.
المصدر : الجزيرة