أثار التعاون الفرنسي- الروسي الأخير بشأن تقديم مساعدات إنسانية في سوريا ردود فعل رافضة لتقارب باريس وموسكو، حيث وصلت حدة الانتقادات الموجهة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى حدّ اتهامه بالانخراط في حملة دعائية تروّج لصورة روسيا.
في هذا الصدد، نشرت صحيفة الـ”غارديان” البريطانية مقالا تحليليا مطوّلا عن تعاون فرنسا الأخير مع روسيا بتقديم مساعدات إنسانية في سوريا، وارتباط ذلك بمدى نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جرّ ماكرون وتوظيفه في حملة دعائية مرفوضة أوروبيا تروّج لصورة روسيا، من أجل تأمين أموال “إعادة إعمار” سوريا من الغرب.
وقالت ناتالي نوجايريدي كاتبة المقال “في الحادي والعشرين من يوليو، هبطت طائرة شحن عسكرية في مسلك للطائرات بمدينة شاتورو وسط فرنسا، حُمّلت بـ50 طنا من المساعدات الإنسانية متكونة من إمدادات طبية وخيام واتجهت إلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية في سوريا وهي القاعدة التي شنّت منها القوات الروسية هجمات عنيفة على المدن والأحياء السورية منذ عام 2015 لدعم نظام بشار الأسد الوحشي”.
وأكدت ناتالي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يُحاول العودة إلى الساحة السورية برعاية ومباركة من موسكو عبر بوابة المساعدات الإنسانية، التي تعتبر المنفذ الوحيد الذي يسمح له بالدخول، وهو ما اعتبره أغلب المراقبين سقوطا أخلاقيا وتراجعا فاضحا غير مبرّر عن الموقف الفرنسي الرسمي والشعبي على مدى أعوام من الحرب السورية.
واعتبرت الصحيفة أنه من عدة نواح، “كانت هذه هي اللحظة التي باع فيها إيمانويل ماكرون نفسه إلى بوتين في سوريا”، مؤكدة أن هذه المهمة المحرجة لم تهز فقط صورة فرنسا وحدها، لأن القصة توحي بأشياء أخرى تؤكّد الانتكاس الغربي الأوسع، متسائلة “كيف يمكن للديمقراطيات أن تضحّي بسهولة بالمبادئ، وكيف تستفيد الأنظمة الاستبدادية من هذا الضعف؟”.
وأشار نفس التقرير إلى أنه قد تم الاتفاق، على هذه العملية المشتركة، بين ماكرون وبوتين خلال اجتماعهما في شهر مايو في سانت بطرسبرغ، وفقا لبيان فرنسي- روسي مشترك، أكّد أن المساعدات ستوجّه إلى سكان الغوطة الشرقية، إحدى ضواحي دمشق التي حاصرتها قوات النظام وقصفتها الطائرات الروسية بشكل كبير.
وتعدّ الغوطة الشرقية المكان الذي استخدمت فيه قوات الأسد الهجوم المزعوم بالأسلحة الكيميائية في شهر أبريل الماضي، وهي جريمة أنكرتها الدبلوماسية الروسية في مختلف المحافل الدولية.
وشددت كاتبة المقال على أنه كان من المفترض أن يتم توزيع المساعدات رسميا بإشراف الأمم المتحدة، ليتبين لاحقا أن هذا غير صحيح عبر نفي الأمم المتحدة أيّ دور لها في العملية، وأن الجيش الروسي والسلطات السورية هما من أشرفا على توزيع الإمدادات الطبية.
وأكدت أن فرنسا سمحت لنفسها بأن تكون جزءا من حملة دعائية روسية سورية تهدف إلى عرض التعاون مع دولة أوروبية دأب دبلوماسيوها على مدى سبع سنوات على إدانة سياسات الأسد وبوتين في سوريا، مؤكدة أن سبب موافقة ماكرون على المساعدة في التلميع “الإنساني” لمشاركة روسيا في سوريا “غير واضح”.
وكانت وسائل إعلام روسية يسيطر عليها الكرملين مثل “سبوتنيك” و”آر.تي”، القناتين اللتين انتقدهما ماكرون علنا في عام 2017، قد سارعت للحديث عن هذه الأخبار باستفاضة واهتمام كبيرين، بينما لم تحظ المسألة في فرنسا باهتمام يذكر، حيث انصبّ التركيز بشكل تام على فضيحة بنالا، حارس الأمن في جهاز ماكرون الذي ضرب محتجين خلال مظاهرات في باريس، وهو ما شتتّ الانتباه عن تحوّل سياسة ماكرون المذهل في سوريا بحسب الصحيفة.
موسكو تنجح في إبعاد الأوروبيين
ذكّر نفس التقرير التحليلي، بأنه جرت العادة ألاّ تنظم الرئاسة الفرنسية جلسات إحاطة منتظمة، مما يترك المجال مفتوحا لقصر الإليزيه في اختيار الإجابات عندما تتم المساءلة العلنية للمواضيع الحساسة وتوجيه الأسئلة التي غالبا ما تكون غير سارة في مثل هذه القضية.
وأكدت ناتالي أن خطورة المسألة تتجاوز حدود فرنسا، مرجّحة أن إمكانية تشكيل الثنائي ماكرون وبوتين في سوريا تنذر بالمزيد من الاستسلام الغربي لسياسة النظام وروسيا، ممّا يعني كارثة كبيرة في ملف حقوق الإنسان عقب مأساة قتل فيها ما يقرب من نصف مليون إنسان وشرّد خلالها الملايين كلاجئين.
ووصفت الصحيفة فرنسا بأنها قد تكون عبر التصرف غير المدروس، أول ديمقراطية غربية تسمح لنفسها أن تستخدم في تدريبات روسية عالية المستوى حققت بالكاد مكسبا صغيرا لبوتين.
ونقلت الـ”غارديان” تساؤلات البعض عن فحوى الخطأ في تقديم المساعدات الإنسانية من خلال الجيش الروسي؟ مجيبة بأنه، “حتى لو تمت العملية لمرة واحدة، فهي فاقدة للأساس الأخلاقي. وكان فرنسوا ديلاتر ممثل فرنسا في الأمم المتحدة قد تساءل، في يناير الماضي، عن مصداقية البيانات التي تقدمها الحكومة السورية أو من يدعمونها في مجال توزيع المساعدات الأممية، ومع ذلك تغاضت مبادرة نقل المساعدات إلى الجيش الروسي الموجود على الأرض عن ذلك. وشدد التقرير على القول إن موسكو والنظام السوري عمدا إلى إبعاد الأوروبيين وإبقائهم خارج إطار ما يحدث حقيقة في سوريا وإنهما عملا على أن تسود في المجتمعات الغربية منذ زمن بعيد مصطلح “سوريا المرهقة”، وهو مفهوم يعتمد بالأساس على تعزيز الشعور الأوروبي بالعجز في مواجهة الرعب الذي لا يمكن وقفه والعقد المستعصية، وتعمّق الارتباك والرضا أيضا بسبب انتشار الأفكار اليمينية المتطرفة والصعود القوي لليمين في أوروبا؛ إيطاليا وفرنسا والنمسا، والكل يؤيّد تصرفات بوتين في سوريا ويدعمنها، مما زاد في ضبابية الفهم الأوروبي للحقيقة.
في سياق متصّل، شدد تقرير الصحيفة على أن مواقف الرئيس الأميركي من الملف السوري لم تساعد في تحسن الأوضاع، مرجحة أن يكون هدفه الوحيد في سوريا هو حماية إسرائيل فقط من التهديد الإيراني الإقليمي غير مبال تماما بمعاناة المدنيين السوريين.
وحافظت فرنسا في السنوات الأخيرة على موقف حازم بشأن حمام الدم في سوريا ودور روسيا فيه، لكنها الآن وفق الصحيفة وبعد أن قام الإليزيه بـ”تبييض” صفحة الجيش الروسي من الناحية العملية، فقد خاطرت بإلغاء أي مبادئ إنسانية أيّدت خياراتها، وهذا يجعلها تبدو مفلسة أخلاقيا.
وتساءلت كاتبة المقال، “السؤال هنا لأي غرض؟” موضّحة أن مصادر في باريس أجابت على ذلك بتأكيدها أن ماكرون يريد “البقاء في اللعبة الدبلوماسية” في سوريا، في ظل إثباته في أكثر من مرة بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب حليف غير موثوق، لذلك استنتج ماكرون أنه بحاجة إلى التقرب من بوتين.
واعتبرت أن بوتين لعب أوراقه بشكل جيد في سوريا، وأبقى الغرب بعيدا عن الأحداث، وأصبح له اليد العليا عسكريا إلى جانب إيران، الحليف الرئيسي الآخر لبشار الأسد.
وأوضح التقرير أنه بعد أن تم سحق آخر بقايا الانتفاضة الشعبية ضد الأسد التي بدأت عام 2011، فإن بوتين عازم على تجنيد الدعم الغربي لما يسمى “خطط المصالحات”، وكذلك المساهمات الغربية في “إعادة الإعمار” في سوريا، وكل ذلك سيحدث تحت سيطرة وإشراف روسيا بعد أن أصبحت وبمباركة أميركية صاحبة القول الفصل في القضية السورية.
ويتطلب الوضع الآن من الأوروبيين أن يكونوا واقعيين حيال اختلال توازن القوى، ومحاولة بناء استراتيجية تهدف إلى منع حدوث سيناريو أسوأ حالة من ذي قبل مع المزيد من القمع والتطرف في سوريا، التي ما زالت تشكل أرضا خصبة للإرهاب.
التجمّل بشعارات حقوق الإنسان
وجزمت ال”غارديان” أنه لا يمكن لروسيا أن تتظاهر بأنها يمكن أن تكون حليفا في المسائل الإنسانية، بعد دورها الرئيسي في الفظائع الجماعية التي حدثت، وبعد استخدام “الفيتو” لأكثر من مرة وغيرها من العقبات الدبلوماسية في الأمم المتحدة بهدف حماية النظام السوري من أي مساءلة أممية.
يشار إلى أن الرئاسة الفرنسية تعاني حاليا من تداعيات قضية بنالا، لكن ينبغي النظر في هذه الفضيحة وفق الصحيفة البريطانية عن كثب، إذ تتعلق بكيفية استجابة ديمقراطية أوروبية رئيسية للجرائم ضد الإنسانية، وأولئك الذين ساعدوا في ارتكابها على نطاق واسع.
ويسعى بوتين إلى البحث عن تواطؤ غربي في تستره على الفظائع في سوريا، وإلى إعادة كتابة التاريخ الحديث عن طريق جذب الدول الغربية إلى سرد يطرح روسيا كقوة محتملة لنشر الخير بدلا من كونها شريكا للأسد في القتل. وكان قد ذهب مؤخرا إلى حد ذكر مشكلة اللاجئين في أوروبا بأنها كسبب إضافي للغرب كي يتعاون معه ومع الأسد، في الوقت الذي اعترف فيه النظام السوري بتعذيب الآلاف حتى الموت في سجونه منذ عام 2011.
وتساءلت الـ”غارديان” عن مصير مواقف الدول الأوروبية، فهل سيتبعون طواعية خطى ماكرون ويصبحون بيادق في لعبة بوتين والأسد لضمان التحقق من مواقفهم كخطوة أولى نحو تأمين الأموال الغربية لإعادة الإعمار.
وشددت على أن ماكرون هو رئيس فرنسي شاب يرغب في قيادة أوروبا، وغالبا ما يظهر ذوقه للفلسفة، بينما كان يتماهى مع بوتين على أمل أن يساعده على منع تهميش دور فرنسا في سوريا.
العرب