شاركت إيران بشكل رئيسي في عملية صياغة الترتيبات الأمنية داخل العراق منذ سقوط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 2003؛ حيث استثمرت علاقاتها القوية مع التيارات الشيعية، وفرضت نفسها رقمًا مهمًا على الساحة العراقية. لكن اللافت للانتباه في هذا السياق، هو أن النفوذ الإيراني في العراق بدأ يظهر إلى العلن أكثر من أي وقتٍ مضى مع تصاعد حدة الحرب التي يشنها التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، والتي شاركت فيها الميليشيات الشيعية المسلحة المدعومة من إيران والمعروفة بوحدات “الحشد الشعبي”، بشكل أثار مخاوف عديدة حول التأثير الإيراني المتزايد في العراق الذي قد يُعزز الانقسامات الطائفية، ويدعم تمدد تنظيم “داعش” داخل وخارج العراق.
ويبدو أن ذلك هو ما دفع اتجاهات عديدة إلى ترجيح اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية نحو محاولة تقييد نفوذ إيران في العراق، لا سيما بعد الوصول لاتفاق نووي محتمل قبل 30 يونيو 2015، وإن كان ذلك لا ينفي حالة الارتباك التي تبدو عليها السياسة الأمريكية تجاه التطورات الطارئة على الساحة العراقية وموقف القوى الإقليمية منها وعلى رأسها إيران.
توجه جديد؟
وفي هذا السياق، يناقش الكونجرس الأمريكي مشروع قانون يقضي بالتواصل مع قوات “البيشمركة” الكردية والعشائر السنية، ويفرض على حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي شروطًا مقابل تخصيص مساعدات بقيمة 715 مليون دولار من ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لعام 2016، بهدف مساندة القوات النظامية العراقية في الحرب ضد تنظيم “داعش”، وهو ما دفع الحكومة وحلفائها من التيارات الشيعية إلى توجيه انتقادات قوية لهذا القانون الجديد.
ومن بين الشروط التي حددها القانون منح الأطراف العراقية “غير الشيعية” دورًا في قيادة الدولة في غضون الشهور الثلاثة الأولى بعد إقرار القانون، والتوقف عن دعم الميليشيات الشيعية التي ارتكبت انتهاكات طائفية في المناطق المحررة من تنظيم “داعش” خلال الفترة الماضية، على أن يتم تجميد نحو 75% من المساعدات لبغداد وتوجيه 60% منها مباشرة إلى الأكراد والسنة في حالة عدم الالتزام بذلك.
سياسة غامضة:
لكن رغم إبداء دوائر عديدة في واشنطن تخوفها من تنامي النفوذ الإيراني في العراق، إلا أن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما ما زالت تتبني سياسة غامضة ساهمت في تشجيع طهران على ممارسة المزيد من التأثير داخل العراق. وتتمثل أبرز مؤشرات ذلك في:
1- رؤى أمنية متضاربة: أظهرت تصريحات العديد من المسئولين الأمريكيين إزاء الميليشيات الشيعية تضاربًا واضحًا في تأثير هذه الميليشيات على الأوضاع الأمنية في العراق، فقد أبدى وزير الدفاع أشتون كارتر -في إفادة له أمام مجلس الشيوخ- مخاوفه من أن تُشعل تكريت الفتنة الطائفية في العراق، في حين اعتبر رئيس أركان الجيش الأمريكي الجنرال مارتن ديمبسي (الذي أُحيل للتقاعد) أن إيران يُمكن أن يكون لها دور إيجابي في الهجوم لاستعادة مدينة تكريت طالما لم يؤدِّ التدخل الإيراني إلى توترات مع السنة. بينما اعتبر مارك بيرى الخبير العسكري ومحلل السياسات الخارجية بوزارة الدفاع الأمريكية أن الدور الإيراني في العراق يوفر على الولايات المتحدة الكثير من المشاكل.
2- دعم أمريكي غير مباشر: مع أن واشنطن لا تُشارك في العمليات العسكرية التي تخوضها القوات العراقية لاستعادة مدينة تكريت من سيطرة تنظيم “داعش”، إلا أن الضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت مواقع “داعش” ساهمت، بشكل غير مباشر، في تحقيق مكاسب للميليشيات الشيعية، التي ارتكب بعض عناصرها، حسب اتجاهات عديدة، انتهاكات عديدة بدا جليًا أنها لم تلق اهتمامًا كافيًا من جانب واشنطن.
3- توازن طائفي غير مستقر: تسعى إدارة أوباما إلى تأسيس نظام سياسي قائم على التوازن الطائفي داخل العراق، إلا أن ثمة عقبات عديدة تحد من إمكانية تحقيق ذلك، في ظل العنف الطائفي الذي تنتهجه الميليشيات الشيعية، والضرر الذي تُلحقه بالتركيبة السكانية في العراق لصالح إيران.
دور إيراني محدود في المستقبل؟
ربما يمكن القول إن سيطرة تنظيم “داعش” على مناطق عديدة في العراق قد مثل فرصة سانحة لطهران من أجل تعظيم نفوذها، لا سيما في ظل تغاضي واشنطن عن هذا النفوذ المتنامي لانشغالها بمواجهة التنظيم. إلا أن ذلك لا ينفي أن مرحلة ما بعد “داعش” قد تشهد تراجعًا في النفوذ الإيراني، وذلك لاعتبارين رئيسيين: يتمثل الأول، في تصاعد تأثير العديد من القوى والحركات السياسية العراقية المعارِضة للوجود الإيراني، نتيجة الممارسات الطائفية، وانتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الميليشيات الشيعية، وهو ما يمكن أن يحظى بدعم دولي وإقليمي خلال المرحلة المقبلة. وينصرف الثاني، إلى تزايد معارضة الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي لأي نفوذٍ إيراني مؤثر في المنطقة، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووي المحتمل، وهو مسار ترجحه اتجاهات عديدة ترى أن وصول رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض في المرحلة القادمة يمكن أن يدفع واشنطن إلى تبني سياسة جديدة لتحجيم النفوذ الإيراني في العراق.
خلاصة القول، لقد فرضت التطوراتُ الجديدة التي طرأت على الساحة العراقية والمتمثلة في سيطرة تنظيم “داعش” على مناطق واسعة في شمال العراق بداية من 10 يونيو 2014، دورًا إيرانيًّا أكثر قوةً في العراق، إلا أن ذلك ربما ينتج تحديات أمام إيران، خاصة بعد أن أصبحت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران تشكل خطرًا كبيرًا على سيادة العراق، بشكل ربما يدفع اتجاهات عديدة إلى التحرك في الفترة القادمة من أجل العمل على تحجيم الدور الإيراني في العراق، رغم أن ذلك يواجه عقبات عديدة لا تبدو هينة.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية