أمريكا وفلسطين: أما آن أوان تشييع الأوهام إلى مدافنها؟

أمريكا وفلسطين: أما آن أوان تشييع الأوهام إلى مدافنها؟

اختار جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي أن تكون «المؤسسة الفيدرالية»، وهي واحدة من أكثر مؤسسات الولايات المتحدة دفاعاً عن النزوعات والقوانين المحافظة، هي الجهة التي تحتضن أول خطاب متشدد يلقيه حول سياسة الولايات المتحدة تجاه المحكمة الجنائية الدولية. كما اغتنم الفرصة وخصص جزءاً من خطابه لإعلان قرار الإدارة بإغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وذلك لأن السلطة الوطنية الفلسطينية ما تزال ماضية قدماً في دعوة المحكمة للتحقيق في سياسة الاستيطان الإسرائيلية، وأعمال العنف التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة.
واعتبر بولتون أن المحكمة غير شرعية أصلاً، وأن الولايات المتحدة ودولة الاحتلال ليستا في عداد الموقعين على ميثاق روما الذي أنشأ المحكمة في سنة 2002، كما أن السلطة الفلسطينية ليست دولة رسمية بعد. وهدد مستشار الأمن القومي بمقاضاة المحكمة في المحاكم الأمريكية، وتجميد معاملاتها المالية، وحظر دخول قضاتها، وكذلك استصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي تحدّ من صلاحياتها. كل هذا، وسواه، بسبب اعتزام المحكمة التحقيق في قضايا منسوبة إلى أمريكا في أفغانستان، وإلى إسرائيل في فلسطين المحتلة، تتصل بجرائم الحرب والإبادة وانتهاك حقوق الإنسان.
ومن المعروف أن هذا الموقف الأمريكي السلبي تجاه المحكمة الجنائية ليس جديداً، بل يعود إلى زمن تأسيسها وإلى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، وبالتالي لا جديد فيه عملياً سوى أن بولتون يعلن اليوم سياسة أكثر وعيداً وتهديداً، وعلى نحو يليق حقاً بذهنية فريق الصقور الذي انتمى إليه على الدوام. ولا جديد، أيضاً، في أحدث خطوة عدائية تجاه الشعب الفلسطيني، والتي لا تستهدف مؤسسة السلطة الوطنية وحدها في الواقع، بل تسعى إلى الإجهاز على ما تبقى من قيمة رمزية اكتسبتها منظمة التحرير الفلسطينية في تمثيل الشعب الفلسطيني على النطاق المحلي والعربي والدولي.
ومن الواضح أن إغلاق مكتب المنظمة يقطع شوطاً إضافياً في النهج الذي اختطته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي ابتدأ من تشجيع حكومة الاحتلال أكثر فأكثر على الاستهانة بالقانون الدولي وتوسيع الاستيطان ومصادرة الأراضي والتنكيل اليومي بالمواطن الفلسطيني، وانتقلت إلى الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال خلافاً للقرارات الأممية التي سبق أن التزمت بها الولايات المتحدة ذاتها. وكان طبيعياً أن تتمثل الخطوات اللاحقة بوقف المساهمة الأمريكية في تمويل الوكالة الدولية لغوث اللاجئين، ثم قطع المساعدات حتى عن مشافي القدس المحتلة، في غمرة تلويح جاء على لسان ترامب نفسه يربط هذه الإجراءات الزجرية بموافقة الفلسطينيين على «صفقة القرن» التي يواصل المقايضة بها جاريد كوشنر، مستشار الرئيس وصهره.
ولعل أبرز الدروس، التي يتوجب أن تستمدها السلطة الفلسطينية من هذه العدائية الفاضحة لدى ترامب وفريقه، سوف يكون إعادة النظر جذرياً في الاجتهادات الفلسطينية التي ارتأت وضع كل البيض في سلال البيت الأبيض وحده، والمراجعة الجذرية لكل ما اقترن بها من خيارات قاصرة وخاطئة، والانتقال إلى أشكال أرقى من المقاومة والصمود والوحدة الوطنية، وعلى نحو أكثر جدية وإخلاصاً وفاعلية. لقد سقطت الأوهام مراراً، وآن أوان تشييعها نحو مدافنها، مرة وإلى الأبد.

القدس العربي