لا تزال إدارة الرئيس ترامب تتحدث عن خطتها للسلام في الشرق الأوسط. فقال الرئيس ترامب في اتصال أجراه مع الحاخامات والقادة اليهود قبل عيد “روش هاشناه”: “لقد أوقفت مبالغ طائلة من الأموال التي كنا ندفعها للفلسطينيين والقادة الفلسطينيين. وإذا لم نتوصل إلى اتفاق، لن ندفع المال. وقد سألت عدداً من المفاوضين السابقين “هل اتخذتم مثل هذه الخطوة في السابق؟ هل جرّبتم استخدام المال كأداة في هذا الصدد؟” فأجابوا “لا يا سيدي، فقد حسبنا في الأمر قلة احترام.” فقلت “لا أعتقد أن في الأمر قلة احترام على الإطلاق”…. وأظن فعلاً أننا سنتوصل إلى اتفاق”.
إلا أنّ السياق الذي سيبرم فيه “الاتفاق النهائي” بات أسوأ من أي وقتٍ مضى.
فمن غير المؤكد ما إذا كانت الهدنة الهشة بين إسرائيل وحركة “حماس” في غزة ستزول أو تستمر، فالصراع الأخير الذي وقع بين الطرفين عام 2014 دام لأكثر من 50 يوماً. ولا يزال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يمتنع عن دفع الأموال لغزة بالرغم من الظروف المروعة فيها بهدف الضغط على “حماس” في الوقت الذي يرفض فيه إجراء محادثات مباشرة مع إسرائيل، ويرفض أيضاً التعامل بشكل مباشر مع إدارة ترامب لأنها اعترفت بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقلت السفارة الأمريكية إليها.
ومع أن الرئيس ترامب أفاد بأن قراره بشأن القدس يعني أن الإسرائيليين “ربحوا جائزة كبيرة” وقد آن الأوان للفلسطينيين “للحصول على أمر جيد جداً لأن دورهم سيحين تالياً”، يشكك الفلسطينيون في نوايا الإدارة الأمريكية. وسواء كان الفلسطينيون محقون أم لا، يرون في قرار الولايات المتحدة قَطع مساعداتها لوكالة الأونروا بـ 5/6 خطوةً تستهدفهم شخصياً. وبالرغم من وجود سبب منطقي لتحدّي الأونروا – أو حتى الاستغناء عنها – تؤّمن هذه الأخيرة 13 ألف وظيفة في غزة وتسدد مبدئياً تكاليف المدارس والبرامج الغذائية للأطفال. وبما أن الوضع في غزة مذرٍ أساساً، إذ على أربع ساعات من الكهرباء في اليوم فحسب وتصل نسبة البطالة فيها إلى 49.1% ولأن نسبة 95% من المياه فيها غير صالحة للشرب ولأنها لا تملك الكمية الكافية من الوقود لتشغيل محطات تكرير مياه الصرف الصحي، فإن قطع المساعدات عن الأونروا يزيد الوضع السيّء سوءاً.
وتجدر الإشارة إلى أن 60% من سكان غزة الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة عاطلون عن العمل، واقتصادها بات على شفير الانهيار. ولذا يخيَّل للمرء أن هذه هي اللحظة المؤاتية لنقل الأموال المقتطعة عن الأونروا إلى صندوقٍ جديد في “البنك الدولي” هدفه إرساء الاستقرار في غزة. ولكن عوضاً عن ذلك، قامت الإدارة الأمريكية، في إطار مسعاها الأكبر لخفض المساعدات الخارجية، باقتطاع 200 مليون دولار من المساعدات الثنائية إلى الفلسطينيين، مع العلم أن هذه المساعدات لم تكن مخصصةً لا لـ”السلطة الفلسطينية” ولا لحركة “حماس”، بل للبرامج الإنسانية.
وإذا وضعنا جانباً دور هذا كله في تنمية الفكرة الفلسطينية عن العدائية الأمريكية، ندرك أنّ هذا الواقع هو على الأرجح آخر ما يريده الإسرائيليون. ذلك أن رئيس الوزاء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومؤسسته الأمنية يدركان أنه إذا لم يكن لدى الفلسطينيين ما يخسرونه، ستكون احتمالات انفجار الوضع مرةً أخرى مرتفعةً جداً وستؤول إلى وضع لا رابح فيه. ففي النهاية، تستطيع إسرائيل هزيمة “حماس” عسكرياً، ولكن ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ليس لدى إسرائيل أي رغبة في إعادة احتلال غزة.
ومع تضاؤل احتمال المساعي الدبلوماسية والحاجة إلى تغيير الواقع على الأرض لإعادة الإيمان بوجود الاحتمالات، وبما أن الدروس الماضية تبيّن أنه يجب استخدام المساعدات لتعزيز التنمية والحد من الاحتكاكات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، نقترح على الكونغرس الأمريكي ثلاث توصيات لإعادة جدولة المساعدات المالية البالغة 200 مليون دولار للعام 2018 بطريقة توجِد بيئة اقتصادية وسياسية وأمنية أكثر استقراراً في غزة والضفة الغربية.
أولاً، نقترح استخدام تلك المساعدات لإزالة موضوع المياه عن طاولة المفاوضات. ففي الماضي ليس بالبعيد، لم تَؤل المفاوضات حول المياه لا إلى غالب ولا إلى مغلوب، نظراً إلى كمية المياه المحدودة بين المتوسط ونهر الأردن. أما اليوم، وبفعل المكاسب التكنولوجية المحققة في مجال تحلية المياه، وبفعل آليات استخدام المياه وإعادة استخدامها، لم تعد المفاوضات على المياه عبارة عن مقايضات ثنائية. في المقابل، يمكن للمفاوضات أن تركّز على تحديات أبسط بكثير تتعلق بالتوزيع والتسعير.
ولكن ما معنى ذلك من حيث الممارسة؟ يمكن للمساعدات الأمريكية إلى غزة أن تموّل مشروع حقل شمسي صغير يولّد الطاقة اللازمة لتشغيل محطة تكرير الصرف الصحي في غزة، وتدعم الوحدات الشمسية لتحلية المياه الموجودة داخل المجتمعات المحلية والمدعومة من “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (MIT)، وتوسّع محطة الوقود الشمسي التابعة لليونيسيف في منطقة خان يونس في غزة، وتطلق مراحل إضافية من المشروع الطارئ لمعالجة مياه الصرف الصحي في شمال غزة المموّل من “البنك الدولي”، وتصلح البنية التحتية المائية المتضررة من جرّاء الحروب الثلاثة التي مرّت عليها. كما أن المياه مرتبطة مباشرةً بالكهرباء، وإحراز التقدم على مستوى المياه والصرف الصحي سيؤدي إلى إمداد أفضل ومتوقع أكثر للطاقة. وثمة إمكانية حقيقية بتأمين طاقة متجددة صغيرة النطاق في كافة أنحاء غزة، وبالتالي تزويد المجتمعات المحلية بالطاقة مع تقليص خطر العراقيل المرتبطة عادةً بمحطة توليد الطاقة في غزة.
ثانياً، يجب استخدام المساعدات الأمريكية لتوسيع التجارة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشكل كبير. فلنأخذ مثلاً بمدينة جنين الواقعة في شمال الضفة الغربية: منذ 15 عاماً، قررت إسرائيل أن فتح معبر يتيح للعرب الإسرائيليين التسوق في الضفة الغربية سيساهم في تحقيق الاستقرار، مع أن الانتفاضة الثانية كانت جارية. وقد نجحت الحسابات الإسرائيلية، فالارتفاع في التجارة الفلسطينية أدى إلى انخفاض نسبة البطالة في شمال الضفة الغربية من نسبة 50% المسجلة عام 2003 إلى ما دون الـ20% حالياً. إذ أن هذه القنوات التجارية المتينة أتاحت فرصاً مستدامةً أمام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم وارتقت بمستوى الحكم المحلي وعززت الأمن الشامل للفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء. وفي العام 2003، كانت جنين بؤرةً للتفجيرات الانتحارية خلال ذروة الانتفاضة الثانية، أما اليوم فباتت واحدة من المدن الفلسطينية الأكثر نجاحاً.
ويمكن بالفعل تكرار نموذج جنين، فالمساعدات الأمريكية كفيلة بالمساهمة في إنشاء مناطق تجارية مشابهة في مدينة قلقيلية في الضفة الغربية حيث يستطيع التجار وأصحاب المحال التجارية والمؤسسات الصغيرة من الفلسطينيين أن يبيعوا منتجاتهم مباشرةً إلى الشريحة الواسعة من العرب الإسرائيليين المقيمين على بعد أميال قليلة. ومن الممكن أيضاً أن ينجح نموذج جنين في غزة، لا سيما وأنّ لمصانع النسيج الفلسطينية علاقات مع المصممين الإسرائيليين والأسواق الأوروبية. وكانت غزة تزوّد الكمية الكبرى من الفاكهة والخضار الطازجةفي إسرائيل. ويمكن استئناف هذه العلاقات في غضون أشهر عند فتح معبر كرم أبو سالم بشكل مستدام وقابل للتنبؤ وفتح معابر تجارية إضافية من بيت حانون أو غيرها.
ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في غزة هو قطاعها التكنولوجي الناشئ إنما المتنامي، حيث تحتضن البؤرة التكنولوجية المعروفة بمؤسسةGaza Sky Geeks الشركات الفلسطينية الناشئة وحيث تعمل الشركات الأكبر والأقوى على تطوير المشاريع مع شركات تكنولوجية في إسرائيل وخارجها. والواقع أن قطاع التكنولوجيا في إسرائيل يضم أكثر من عشرة آلاف وظيفة شاغرة يمكن ملؤها بواسطة فائض خرّيجي اختصاصات التكنولوجيا المتقدمة في الضفة الغربية وغزة.
ثالثاً، يعتبر التعليم من أهم الأسس اللازمة لبناء مستقبل أفضل. ولطالما انتقد الإسرائيليون والأمريكيون “السلطة الفلسطينية” لأنها لا تعلّم شعبها من أجل السلام. لماذا إذاً لا نحث الجامعات الأمريكية والمنظمات غير الحكومية على الانخراط في رفع مستوى النظام التعليمي الفلسطيني وتهيئة الفلسطينيين لاقتصاد القرن الواحد والعشرين؟ لقد قدّمت جامعة بارد تدريباً طويل الأمد للمدرّسين في “جامعة القدس”، وبموجبه يستطيع المدرّسون والمدراء نيل شهادة ماجستير أمريكية في التعليم وتبوّؤ مناصب قيادية في مدارسهم. تصوّروا لو أنّ برمجة التعليم والتمويل الموجّه من الناس إلى الناس أتاح لخيرة الشباب الفلسطيني أن يتعلّم في الجامعات الإسرائيلية ويجري دورات العمل التدريبية في الشركات الإسرائيلية المتخصصة في التقنية العالية ويدخل في برامج الإقامة الطبية في المستشفيات الإسرائيلية.
إنّ الولايات المتحدة محقّةٌ في تشكيكها بـ”السلطة الفلسطينية” في الضفة الغربية وفي رفضها الحازم لحكم “حماس” على فترة طويلة في غزة، لكن هذا لا يعني التخلي عن الفلسطينيين. وصحيحٌ أن إدارة ترامب لم تنوِ التخلي عنهم، لكن هذا هو للأسف الانطباع الذي تركته لدى معظم الفلسطينيين. وثمة عدد كافٍ من الأطراف الفاعلة الطيبة عند كلا جانبَي الخط الأخضر، وهي أطراف تطمح إلى منطقة أكثر ازدهاراً وسلاماً. وإذا وضعت الولايات المتحدة يدها بيد هؤلاء، استطاعت أن تأخذ ما نجح منذ اتفاقية أوسلو وتتخلى عمّا فشل لتسير إلى الأمام.
معهد واشنطن