لا يملك غيورٌ على سورية إلا أن يُصاب بالدهشة، إن لم يكن الاشمئزاز، وهو يتابع غبطة بعض أنصار نظام بشار الأسد، وراعيه الإيراني، وسعادتهم، بُعَيْدَ إعلان روسيا سقوط طائرة عسكرية لها بنيران الدفاعات الجوية السورية، مساء الاثنين الماضي، ما أسفر عن مقتل 15 جندياً روسياً. مردّ سعادة هؤلاء وغبطتهم أن روسيا حَمَّلَت إسرائيل مسؤولية الحادث، حيث اعتبرت وزارة الدفاع الروسية أن “الطيارين الإسرائيليين جعلوا من الطائرة الروسية غطاءً لهم، ووضعوها بالتالي في مرمى نيران الدفاع الجوي السوري”. لكن جوقة “نظام الممانعة” والتصدّي “للمؤامرة الكونية” على سورية بقيادة الأسد لم تكلف خاطرها إكمال حكاية البيان الروسي الذي احتفلت به، وفيه: إن إسرائيل “لم تبلّغ موسكو بالعملية في اللاذقية، بل فعلت ذلك قبل أقل من دقيقة من الهجوم، وبالتالي لم يكن في الإمكان إعادة الطائرة إلى منطقة آمنة”. إذن، مشكلة الروس لم تكن في قصف إسرائيل أهدافا داخل الأراضي السورية، بقدر ما أنها متعلقة بتنسيق ذلك معهم، والذي من الواضح أنه لم يتمَّ هنا بالشكل المطلوب والمتفق عليه من قبل.
منذ استدعى نظام الأسد المتهاوي، وحليفُه الإيراني المنهك في سورية، روسيا للتدخل عسكرياً في خريف عام 2015، شنّت إسرائيل عشرات الهجمات الجوية والصاروخية على مواقع وأهداف داخل الأراضي السورية، بما في ذلك العاصمة دمشق، وغيرها من المدن الرئيسية الكبرى. صحيحٌ أن وحشية الطيران العسكري الروسي قلبت موازين القوى على الأرض
“دور روسيا محصورٌ في ضمان بقاء سورية ضمن محور التخلف والقمع العربي”
لصالح النظام وحلفائه، لكن كان لافتاً أن الدفاعات الجوية الروسية، ومنظومة صواريخ أس 400 المتطورة، والتي تمَّ نشرها في سورية منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، لم تتصدّ يوماً للطائرات الإسرائيلية التي تسرح وتمرح في الأجواء السورية. هنا يتعلّل بعض اعتذاريي “محور الممانعة” بأن صواريخ أس 400 مخصّصة فقط لحماية قاعدة حميميم الروسية العسكرية جنوب شرق مدينة اللاذقية، غير أن الحقيقة أن معلومات، شبه مؤكدة، رشحت مطلع العام الجاري، مفادها بأن روسيا أقامت نظام دفاع جوي يغطي كامل الأراضي السورية، بما في ذلك دمشق.
أبعد من ذلك، كانت الصحافة الروسية قد نشرت، بعد زيارةٍ قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى موسكو، التقى خلالها، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في شهر مايو/ أيار الماضي، أن الأخير وافق على وقف تسليم سورية صواريخ أس 300، بسبب اعتراض إسرائيل. تبع ذلك لقاء آخر في الشهر نفسه في موسكو بين وزيري الدفاع، الإسرائيلي أفيغادور ليبرمان والروسي سيرغي شويغو، نتجت عنه تفاهمات حول مناطق خفض التصعيد في جنوب سورية، حينئذ، والوجود العسكري الإيراني في المنطقة الحدودية مع الدولة العبرية. المفارقة هنا أن تقارير صحافية روسية وإسرائيلية كانت قد أشارت إلى تفاهماتٍ مشتركة بشأن حرية إسرائيل في التصرّف ضد قواعد عسكرية إيرانية، وأهداف تابعة لها ولحزب الله في سورية، شريطة تنسيق الهجمات الجوية والضربات الصاروخية مع روسيا أولاً. ولعل هذا هو بالضبط ما عناه بيان وزارة الدفاع الروسية أن إسرائيل “لم تبلّغ موسكو بالعملية في اللاذقية، بل فعلت ذلك قبل أقل من دقيقة من الهجوم”. المفارقة الثانية أن الهجوم الإسرائيلي وقع في اللاذقية، بالقرب من قاعدة حميميم الروسية العسكرية، ومع ذلك لم تنطلق صواريخ أس 400 الروسية لاعتراضه، وهو ما يجرّد اعتذاريي الاحتلال الروسي في سورية من ذريعةٍ أخرى يتعللون بها.
ثالثة الأثافي، في هذا السياق، مسارعة روسيا إلى التجاوب مع المساعي الإسرائيلية لامتصاص التوتر المترتب على الحادثة، بل ومحاولة إخلاء ذمّة إسرائيل من المسؤولية، وهو ما نزع
“روسيا دولة احتلال في سورية، جاءت لدعم نظامٍ مجرمٍ ضد مطالب شعبه العادلة”
ورقة التوت الأخيرة التي كان يتستر بها أنصار نظام الأسد من مؤيدي التدخل الروسي العسكري في سورية. بعد يوم من الحادثة، جرت مكالمة هاتفية بين نتنياهو وبوتين، خرج بعدها الأخير، ليعلن في مؤتمر صحافي أنه “يبدو أن هذا الحادث، على الأرجح، سلسلة من الظروف المأساوية، لأن طائرة إسرائيلية لم تسقط طائرتنا”. صحيح أن بوتين أكد، في المؤتمر الصحافي نفسه، أن بلاده ستتخذ ما دعاها “إجراءاتٍ سيلاحظها الجميع” لتعزيز أمن جنودها في سورية، كما أنه “حضّ الجانب الإسرائيلي على عدم السماح بحدوث مثل هذا الأمر مرة أخرى”، ووصف “مثل هذه العمليات من سلاح الجو الإسرائيلي (بأنها) تنتهك السيادة السورية”، غير أنه لا يمكن الحكم على هذه التصريحات إلا من خلال الأفعال لا الأقوال. بل إن نتنياهو توعد، بعد المكالمة الهاتفية نفسها، بمواصلة التحرك ضد إيران في سورية، وقال إن إسرائيل “عازمةٌ على وقف التعزيزات العسكرية الإيرانية في سورية، ومحاولات نقل أسلحة فتاكة إلى حزب الله ضد إسرائيل”.
باختصار، سواء انتقمت روسيا من إسرائيل بطريقة أم بأخرى، وهو غير مستبعد، وسواء وضعت قواعد جديدة للعبة في سورية في مواجهة العربدة الإسرائيلية أم لا، فإن ثمة حقيقتين لا تتغيران. الأولى، أن روسيا دولة احتلال في سورية، جاءت لدعم نظامٍ مجرمٍ ضد مطالب شعبه العادلة، وارتكبت من الجرائم والمجازر بحق الشعب السوري ما يعجر البيان عن وصفه. الثانية، أن روسيا سمحت لإسرائيل، وعلى مدى ثلاث سنوات، بانتهاك الأجواء والسيادة السوريتين، وهذا يدل على أن دورها لم يكن هدفه يوماً التصدّي “للمؤامرة” الصهيونية والإمبريالية الأميركية – الغربية على سورية، كما يزعم أنصار نظام الأسد وامتدادات إيران، بقدر ما أن دورها محصورٌ في ضمان بقاء سورية ضمن محور التخلف والقمع العربي، تحت وصاية إمبريالية روسية. بهذا المعنى، تصبح إيران ومليشياتها في سورية، والأسد ونظامه، مجرّد أدوات تحاول روسيا توظيفها لمصالحها، حتى ولو اقتضى الأمر الاستعانة بمطرقةٍ إسرائيليةٍ لتطويعها، إلى حين انتفاء الحاجة إليهم.
أسامة أبو ارشيد
العربي الجديد