خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أنه يميل إلى جبهة بوتين-شي، على الحليف الأوروبي، وهي ليست المرة الأولى التي يعبّر فيها ترامب عن مثل هذا الموقف، الذي اعتبره كثيرون أنه يمثل تمرّدا على النظام العالمي التقليدي. لكن، هناك من سار في اتجاه مغاير وقدم قراءة أخرى تستمد حيثياتها من قوة جديدة بصدد التشكل، وهي القوة الأوراسية، بقيادة روسيا والصين.
النزعة الأوراسية الصاعدة، في حال نجحت، ستمنح موسكو بكين بشكل خاص، أدوات جديدة في السياسة الخارجية يمكنهما توظيفها ضد واشنطن بما قد يمثل تهديدا للولايات المتحدة على المدى البعيد، في منطقة آسيا الباسيفيك، مقارنة بالاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة.
وتشير القراءات التي تربط بين مواقف ترامب من الصين وروسيا والنزعة الأوراسية الصاعدة إلى أن هذا التوجه ليس جديدا، حيث بدأ الحديث عن نقل مركز ثقل الاستراتيجية الأميركية إلى آسيا يتكرّس منذ تقرير لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأميركي في يونيو عام 2012.
ويرى الخبراء إلى أن العمل بهذه الخطة، التي ظهرت ملامحها في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، مازال قائما في عهد خلفه دونالد ترامب، لكن ما اختلف هو أسلوب التعبير.
ويقول الباحث في الشأن الآسيوي إيميل ايفادلياني، إن الصين وإيران وروسيا هي البلدان المحورية في الأرض الأوراسية وواشنطن لها علاقات متوترة جدا معها كلها، وهو ما يحد من قدرتها على الحيلولة دون تكون تحالف مصلحة بين بلدان المنطقة.
الأوراسية الجديدة
خلال الفترة السوفييتية ألقت النزعة الكونية الشيوعية بظلالها على الأوراسية الروسية، حيث شجعت الشيوعية النفوذ الروسي المباشر للانتشار ليس فقط في أوراسيا بل في كل مكان من العالم.
وتريد الحكومة الروسية الحالية إعادة تنشيط مفهوم الأوراسية. وهذا المفهوم، ظهر كحركة فلسفية في عشرينات القرن العشرين. وتوجد عدة تعريفات للأوراسية لكن أبرزها ترى روسيا على أنها لا هي بالثقافة الأوروبية ولا الآسيوية بل هي مزيج مثالي للثقافتين معا. وينطوي المبدأ الأوراسي على هوية جغرافية وفلسفية محددة لروسيا.
وتنقسم الأوراسية إلى مدرستين الأوراسية الكلاسيكية والأوراسية الجديدة، ومن أبرز منظّري المدرسة الثانية، التي ظهرت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ألكسندر دوغين (ولد في 1962)، المعروف بأنه العقل الاستراتيجي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وعلى الرغم من أن الأوراسية الجديدة لدوغين، مثلها مثل الأوراسية الكلاسيكية، معادية للغرب بشدة، فإن ثقلها الأكاديمي أكثر تواضعا، في حين أن ثقلها الاستراتيجي مؤثّر.
تدرك موسكو، التي تمر بوضع اقتصادي صعب جراء العقوبات الدولية أنه وضعها في منطقة أوراسيا أضعف بكثير من وضع الصين من الناحية الاقتصادية، في حين تملك نقاط قوة مؤثرة في المجالات السياسية والعسكرية والدبلوماسية.
لذلك، تطمح روسيا لأن تكون الوسيط الأمني والدبلوماسي الرئيسي في أوراسيا بينما تترك الصين للعب دور الزعيم الاقتصادي. وكما قال أحد المراقبين “ستكون الصين هي المصرف، وروسيا هي السلاح الكبير”، في استنساخ لسيناريو أوروبا في القرن التاسع عشر حين كانت فرنسا تتصرف كزعيم سياسي بينما ألمانيا الغربية هي المحرك الاقتصادي.
وبعدما تنازلت موسكو عن المبادرات الاقتصادية للصين، تسعى الآن من أجل لعب دور المهندس الرئيسي للنظام السياسي والأمني الأوروبي الآسيوي الذي يعكس مصلحتها الخاصة ويتطابق مع المصالح الأساسية للقوى الكبرى للقارة. هذا النوع من النظام السياسي الذي تتخيله روسيا لمنطقة أوراسيا ككل هو بشكل أساسي واحد من مجموعة من القوى، ويمنح الأفضلية للعلاقات بين عدد قليل من الدول الكبرى: روسيا والصين والهند وباكستان وإيران وربما تركيا.
وبما أن منطقة أوراسيا تشمل أقوى الدول غير الغربية، فإنه يتم تصور المنطقة على أنها نقيض للنظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب، لكن إلى أي مدى يمكن أن يتفاهم الروس والصينيون لترسيخ هذا النظام، وهل تقبل بكين بالفكرة الروسية القائلة إن التفوق الصيني يجب أن يكون مقيَّدا ومتوازنا ضمن النظام الجماعي.
صعود الأوراسية الصينية
يقول الباحث إيميل ايفادلياني، تريد الحكومة الروسية الحالية إعادة تنشيط مفهوم الأوراسية لكنها إلى حد الآن فشلت إلى حد كبير حيث أن مشروع الاندماج الجديد المسمى “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” ليس كيانا قويا ولا يمكنه التنافس مع أوروبا أو منطقة آسيا الباسيفيك.
ويرى أن هناك تنافسا صينيا روسيا، مشيرا إلى أن “مشروع الاندماج الروسي طويل المدى المصمم لفائدة المنطقة الأوراسية كان ناجحا نسبيا إلى حدود 2013 عندما كشفت الحكومة الصينية النقاب عن فكرتها الاقتصادية والسياسية الجديدة التي تشمل كامل المنطقة الأوراسية، ونعني بذلك مبادرة الحزام والطريق”.
جغرافيا، تحاصر طريق الحرير الصيني في وسط آسيا وفي شمال القطب الشمالي، روسيا التي يبدو حتى الآن أن رد فعلها هو القبول بذلك “الحصار”. حيث يبدو أن موسكو قد حسبت أن الفوائد المحتملة تفوق المخاطر.
وفق ايفادلياني فإن الأوراسية الصينية، وعلى خلاف الأوراسية الروسية، تتحدى في النهاية ما يمكننا تسميته النزعة الأطلسية، وهو وضع بنت فيه الولايات المتحدة مظلة أمنية عبر الأرض الأوراسية للحيلولة دون بروز أوراسيا موحدة.
وفي المقابل، يرى غريغوري شتراكس، الباحث في كلية جاكسون للدراسات الدولية، أن موسكو وبكين، رغم التنافس الواضح بينهما، إلا أن كل طرف يحتاج إلى الآخر في هذا النظام. فعلى الرغم من الشكوك المتزايدة تجاه موسكو، فإن اختراق الصين لمنطقة آسيا الوسطى تحت شعار مشروع “طريق الحرير” لم يؤد حتى الآن إلى إلحاق ضرر كبير بالمصالح الروسية.
ويجادل ايفادلياني بأن الرؤية الصينية للأرض الأوراسية تلقي بظلالها تدريجيا على الرؤية الروسية، إذ ترى الصين بصفتها قوة قارية مزايا التنقل عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط إلى أوروبا، بينما لا تملك موسكو القدرات اللازمة لمعارضة بكين، بينما يصف غريغوري شتراكس، روسيا بأنها دولة رافدة على طول طريق الحرير الصيني.
وتستفيد روسيا من ذلك المشروع، لا سيما عندما تعبر الشحنات الصينية المتجهة إلى أوروبا من خلال كازاخستان ثم تمر عبر شبكة السكك الحديدية الروسية.
وتستمد روسياا قوتها من دول آسيا الوسطى، وهي منطقة تقع تحت الهيمنة العسكرية الروسية، والتي تتعامل بحذر في ما يتعلق بدعوات الصين إلى إنشاء منطقة تجارة حرة، خوفا من أن يلتهم التنين الصيني اقتصاداتها. بالإضافة إلى مشاعر العداء التي يكنها سكان آسيا الوسطى، ولا سيما في كازاخستان وقيرغيزستان، تجاه اللصين والتي تفوق بكثير أي استياء قد يشعرون به تجاه “الإمبريالية الروسية”، على حد تعبير شتراكس.
وآسيا الوسطى ليست المنطقة الوحيدة التي يتقاطع فيها طريق الحرير مع المصالح الحيوية لموسكو التي تضع رؤيتها بشكل متزايد على القطب الشمالي، الذي من المحتمل أن يكون القوس الثالث المكمل لمبادرة الحزام والطريق، بالإضافة إلى الممر القاري عبر أوراسيا والطريق البحري الهندي- الهادئ.
وأعلنت الصين أنها دولة قريبة من القطب الشمالي وتهدف إلى بناء طريق الحرير القطبي. ويبدو أن روسيا تشعر بتناقض تجاه طموحات الصين في القطب الشمالي الذي يعد بمثابة ملاذ حرج لأمن روسيا وهويتها الوطنية. لكن، يتطلب تطوير القطب الشمالي استثمارات ضخمة. ويبدو أن الصين هي المصدر الواقعي الوحيد للتمويل.
ويتمركز أكبر استثمار للصين في روسيا، وهو مشروع “يامال” للغاز الطبيعي المسال، في ساحل منطقة القطب الشمالي السيبيرية، حيث حصلت بكين على حصة كبيرة وقدمت 12 مليار دولار كقروض، حتى مع خضوع المشروع للعقوبات الأميركية.
العلاقة بين الصين وروسيا يعززها الارتباط الشخصي الواضح بين بوتين وشي، وهما يلتقيان عند رؤية الولايات المتحدة كخصم مشترك ومواجهة النظام العالمي التقليدي، بتوجهاته ومبادئه الأوروبية “المثالية”.
على المدى البعيد تمثل الصين إشكالية أكبر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، من روسيا، ومما مثله الاتحاد السوفييتي سابقا خلال الحرب الباردة. كان السوفييت يتنافسون مع الولايات المتحدة عسكريا ولم يحاولوا إقامة مشاريع اقتصادية كبيرة أو طويلة الأمد.
ويوضح إيميل ايفادلياني ذلك قائلا “صحيح أنه كان على الولايات المتحدة أن تصرف موارد عسكرية واقتصادية كبيرة لوقف النفوذ السوفييتي، لكن الخطر السوفييتي مع ذلك بقي عسكريا فحسب إذ لم تكن الشيوعية تملك جاذبية والاقتصاد السوفييتي كان في حالة من الفوضى”. وبالنظر بعيدا كان من المتوقع بأن تكسب الولايات المتحدة الحرب الباردة، أما اليوم فالتوقعات مختلفة بالنسبة للمنافسة مع الصين.
العرب اللندنية