يميل الرئيس التركي في تصريحاته ومواقفه العلنية إلى تقسيم العالم ما بين عالم خير وعالم شر انطلاقًا من مفاهيمه الخاصة ومصلحته الشخصية. فكل من يسانده في طموحاته، المشروعة منها وغير المشروعة، يندرج ضمن الخانة الأولى، في حين أن أي مقاومة أو معارضة بما في ذلك الميل إلى الهيمنة على الغير واضطهادهم فتصنَّف بالشر وتحديدًا بالإرهاب.
بالنظر إلى المرحلة التي تلت معارك حلب وجنوب دمشق واجتياح الجيش التركي لبلدة عفرين واحتلالها، يتّضح أن معركة إدلب ستؤتي بتغييرات هامة ومعقدة في الأزمة السورية على المستويين الإقليمي والدولي. وإذ تبدو التحالفات والمصالح مُقْدِمةً على تبدل مع بدء هذه المعركة الجديدة، يصبح من الواجب فصل الموقف المعلن للدولة التركية بشأن دورها في تلك التبدلات عن إنسانيتها المزعومة.
ولا بد من قراءة نوايا أردوغان في هذا السياق بالذات. فمع أن أردوغان كان يروّج مؤخرًا لموقف واضح بظاهره من مستقبل شمال سوريا، إلا أن مَن يراقب مواقفه الداخلية والإقليمية والدولية حيال الأزمة السورية على مدى السنوات الماضية يجد أن مجموعة أوسع من التصرفات المقبولة تقوم على منفعته الشخصية. من هنا، لا يجدر بالأطراف الفاعلة الدولية في كل من أوروبا والولايات المتحدة أن تعتدّ بالقيمة الظاهرية لتلك الادعاءات، لا بل سيكون من المفيد للشعب السوري لو نظر المجتمع الدولي إلى أبعد من الخطاب الإنساني الذي تنادي به الدولة التركية وكوّن فهمه وردّه على نوايا تركيا في سوريا بالاستناد إلى تحركات تركيا الماضية على أرض جارتها الجنوبية.
في مقاله الصادر في صحيفة “وول ستريت جورنال” تحت عنوان “على العالم إيقاف الأسد“، يرسم أردوغان عن إدلب صورةً مصممة لجذب اهتمام الجماهير الدولية وتحديدًا الغربية، إذ يجادل بأن “جبهة النصرة” (“هيئة تحرير الشام”) هي “جزءٌ من سكان إدلب” وأن طريقة تركيا الوحيدة في التعامل مع جهود مكافحة الإرهاب التي تتطلبها هذه الجيوب يمكن أن تمنع سفك الدماء غير الضروري.
بيد أن هذه الفكرة، بتركيزها على تنظيم إرهابي واحد، تُبهم وتشوش على العدد الكبير من التنظيمات المتطرفة المتشعبة التي تعمل تحت تسميات مختلفة في إدلب. فهذه التنظيمات التي تشابه “القاعدة” في عقيدتها تتألف من نحو عشرة آلاف عنصر على الأقل. وتشكل قدرتها على مواصلة عملياتها في إدلب تهديدًا على الصعيدين الإقليمي والدولي أكبر مما تكشف عنه رسائل أردوغان. والحقيقة المعقّدة والمقلقة في إدلب هي – علاوةً على النسبة الكبيرة من المدنيين – أن مجموعة متنوعة من التنظيمات الإرهابية المتشعبة التي دُحرت من مناطق أخرى من سوريا احتشدت في إدلب، والمجتمع الدولي يملك معلومات محدودة عن نطاق عملياتها أو مدى اندماجها العام في سكان تلك المنطقة.
بالنتيجة، ستكون معركة إدلب معقدة وحافلة بالتحديات. لكن أردوغان يزيد تسييس الوضع بفعل نظرته الانتقائية لما يستتبعه “الإرهاب” وللخطوات الأنسب إزاء هذا التهديد. كما أن تاريخ تركيا في سوريا لا يوحي بأن قواتهما العسكرية ستعملان كقوة رصد ورقابة لحماية مواطني إدلب من انتهاكات حقوق الإنسان.
في المقابل، يجب الأخذ في الحسبان بمصالح الدولة التركية الشخصية في موقفها من إدلب، شأنها شأن نوايا أي قوى إقليمية أخرى معنية بالصراع. لطالما عمد أردوغان إلى استغلال الصورة الإنسانية التي تعطيها نسبة اللاجئين الكبيرة في بلاده لأغراض سياسية، في الوقت الذي لم تُظهر فيه تصرفاته حرصًا يُذكر على صالح السوريين في سوريا في ما يتعدى دورهم في خدمة أهدافه الشخصية كطرف إقليمي فاعل.
في الوقت الراهن، تستوجب استراتيجية أردوغان منه الوقوف بوجه حلفاء الأمس – أي روسيا والنظام السوري – للحرص على اضطلاع تركيا بدور فاعل في رسم معالم حدودها الجنوبية حيث تقع إدلب. ولكن لا يجدر بأي هيئة دولية معنية بصون حقوق الإنسان أن تثق بالتبريرات الإنسانية التي يستعملها أردوغان. ولا يجوز أيضًا السماح له بابتزاز ضمير المجتمع المدني خدمةً لمخططاته السياسية على حساب ما هو الأفضل لمواطني إدلب وسوريا ككل.
وتعتبر عفرين المثال الأبرزعن ضلوع الدولة التركية في سوريا، إذ لا يمكن نسيان التناقض الذي حصل هناك بين خطاب أردوغان الإنساني وتحركات الجيش التركي على الأرض. فقد رفع عدد من المنظمات الإنسانية الدولية عدة تقارير عن مختلف الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون خلال المعركة وبعدها، بما فيها القصف الذي استهدف المستشفى الرئيسي في عفرين وأعمال النهب التي ارتُكبت هناك. وقد صدر التقرير الأحدث عن الأمم المتحدة في 13/9/2018 تحت عنوان “تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية” وهو يوثّق استهداف الجيش التركي للمدنيين الأبرياء في عفرين من خلال مئات المقابلات. وقد بررت الدولة التركية تلك الهجمات الجوية والبرية التي وقعت خلال عمليات “غصن الزيتون” في مطلع العام 2018 تحت ذريعة محاربة الإرهاب. بيد أن عفرين تبرهن أنه لا يمكن اعتبار القوات التركية بديلاً جديرًا بالثقة عن القوات الروسية أو قوات النظام السوري في إدلب.
فضلاً عن ذلك، أظهر أردوغان اهتمامًا محدودًا بالمشاكل الإنسانية متى توافقت سياسات نظام الأسد مع أهدافه الاستراتيجية الخاصة. فهو لم يعرب عن سخطه حينما تعرض عدد كبير من المدنيين للقتل أو أرغم على النزوح في دوما وداريا وجنوب دمشق بسبب حملة النظام المزعومة ضد الإرهاب. ومن الصعب رؤية الاختلاف بين تلك الحالات وحالة إدلب باستثناء أنه ليس من مصلحة أردوغان أن يتقدم النظام السوري باتجاه الحدود التركية.
تعتبر مسألة إدلب قضية شائكة على نحو غير معقول بالنسبة لأي شخص من المجتمع الدولي مهتم بتفادي سفك الدماء بشكل لا داعي له. لكن الحل ليس بتجاهل واقع أن إدلب تشكل حاليًا قاعدة لعدد من التنظيمات الإرهابية وأن الكثيرين من الثلاثة ملايين مدني فيها يعانون هم أيضًا تحت حكم تلك التنظيمات. ولا يجدر بالمجتمع الدولي الأخذ بالقيمة الظاهرية لتوصيات طرف معني مثل أردوغان انطلاقًا من أفعاله الشخصية، بل يجب على الأطراف التي تقدّم المصالح الإنسانية على المصالح السياسية أن تعمل على ضمان حقوق المدنيين السوريين حتى مع تطهير إدلب من التنظيمات المتطرفة.
معهد واشنطن