لعل بعضاً من أقل الضحايا الذين خلفتهم خلافة “الدولة الإسلامية” ظهوراً هم أطفال مقاتلي المجموعة أنفسهم. والآن، بعد هزيمة التنظيم، تكشف حياة هؤلاء الأطفال الذين يعانون من الصدمات النفسية، والوحدة، والوصم بسبب أعمال آبائهم، عن وعورة الطريق الطويل إلى التعافي في العراق المثقل بالطائفية.
* * *
كركوك، العراق – تعيش عائلة مكونة من ستة أطفال ضائعين بهدوء في شقة صغيرة بين الغرباء في هذه المدينة العراقية الشمالية. وكل صباح، يخرج “رجل البيت”، وهو شاب يبلغ من العمر 18 عاماً، ليبحث عن عمل في قطاع العمالة اليومية حتى يتمكن من دفع الإيجار وإطعام إخواته. وتتصرف شقيقته الصغيرة، البالغة من العمر 12 عاماً مثل أم، فتطهو وجبات الطعام، وتقوم بأعمال التنظيف المنزلي، وتعتني بإخوتها الصغار.
تقع قرية هؤلاء الأشقاء على بعد أقل من ساعة بالسيارة، لكنهم لا يستطيعون العودة -فقد أحرق رجال الميليشيات الشيعة منزلهم لأن والدهم كان ينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلامية، “داعش”. وهم يخشون من التعرض لانتقام جيرانهم السابقين، وقد أصبح الغضب من المتشددين الذين حكموا هذه المنطقة ذات يوم عميقاً جداً.
لذلك، تُرك أطفال سليمان هنا ليدافعوا عن أنفسهم. والدهم في السجن. وأمهم ماتت منذ سنوات. وهم معذبّون بالصدمة بسبب موت أحبائهم في الحرب واضطرابهم العائلي الخاص. وفي منزلهم المؤقت، يحاولون أن يظلوا بعيدين عن ملاحظة الآخرين، ويعيشون مع القلق احتمال أن يعرف جيرانهم الجدد عن صلة أسرتهم بـ”داعش”.
تقول دولت، الفتاة النحيلة ذات الوجه الرصين الذي لا تهتز ملامحه تقريباً، والبالغة من العمر 12 عاماً: “لقد تعبت. أمي تزورني في أحلامي. أشعر بالخوف عندما ينقطع التيار الكهربائي في الليل. أود لو أن والدي وأمي هنا بجانبي”.
هناك الآلاف من أطفال أعضاء “داعش”، الذين أصبح العديد منهم مهجورين، مثل عائلة دولت، الذين يشكلون الضحايا البريئة لصعود “داعش” الوحشي وسقوطه المدمر. وتشير الوصمة التي يحملونها إلى الكيفية التي تمزَّق بها النسيج الاجتماعي العراقي بسبب حكم المتشددين الذي استمر قرابة الثلاث سنوات في جزء كبير من شمال البلاد وغربها.
عندما استولى “داعش”، التنظيم المسلم السُني، على هذه الأراضي في هجومه الخاطف في العام 2014، قام مقاتلوه بذبح المسلمين الشيعة، والأكراد، والمسيحيين، والأيزيديين، والمقاتلين المسلمين السُنة، وأفراد الشرطة والجيش الذين وقعوا في أيديهم. كما دفع التنظيم آخرين إلى الخروج في كثير من الأحيان، إما بتدمير منازلهم أو منحها لآخرين.
طبق “داعش” في المناطق التي استولى عليها نسخة متطرفة من الشريعة الإسلامية على نظرائه من أهل السنة، وقتل العديد ممن انتهكوها أو أولئك الذين عارضوا حكمه. وقد انضم بعض السنّة العراقيين إلى المجموعة الإرهابية، إما بدافع العقيدة أو طلباً للفوائد الاقتصادية التي جلبتها العضوية. لكن العدد الأكبر بكثير منهم كانوا ضحايا للتنظيم. وقام المخبرون بتسليم الجيران والإبلاغ عنهم، مما عرض الأخيرين إلى عقوبات تراوحت من الجلد إلى تلقي رصاصة في الرأس في ساحة عامة.
والآن، بعد أن تمكنت قوات الأمن العراقية وحلفائها من طرد “داعش” من جميع الأراضي التي كان يسيطر عليها تقريباً، أصبح العديد من ضحاياه راغبين في الانتقام.
يقول ضابط شرطة كبير في محافظة نينوى الشمالية، والذي طلب عدم الكشف عن هويته تماشياً مع تعليمات جهازه، إنه يعرف ما لا يقل عن 100 منزل في مدينة الموصل وحولها، من هدمها رجال قبائل غاضبون من أفراد “داعش” الذين يعيشون هناك. وقال إن النار أطلِقت على عائلات مرتبطة بالتنظيم وألقيت القنابل اليدوية على منازلهم. وأضاف أن أعضاء الأقلية الدينية الأيزيدية -الذين خصهم متشددو “داعش” ببعض من أسوأ أعمالهم الوحشية؛ حيث ذبحوا رجالهم واسترقّوا نساءهم- عمدوا إلى الانتقام عن طريق تدمير المنازل في القرى العربية الواقعة في قلب منطقتهم في سنجار.
الآن، يقبع الآلاف من العراقيين في السجن بسبب الاشتباه في وجود علاقات لهم بتنظيم “داعش”، كما قُتل عدد غير معروف من أعضاء التنظيم في الحرب. ويعني هذا احتمال ترك عشرات الآلاف من الأطفال من دون أرباب ذكور لأسرهم، ومن دون وجود ربات أسر إناث أيضاً في كثير من الأحيان.
الوصمة ضد الأطفال قوية
حتى العائلات الممتدة ترفض في بعض الحالات استقبال أبنائها من أولاد أعضاء “داعش” المهجورين، حسب قول مسؤولة إغاثة في وكالة دولية عملت على إيجاد بيوت لإيواء هؤلاء الأطفال. وقد يقلق الأقارب من تعرضهم للوصم هم أنفسهم، أو أنهم يتعرضون لضغوط من قبائلهم حتى لا يقبلوا هؤلاء الأطفال بينهم، على حد قول المسؤولة التي تحدثت شريطة عدم ذكر اسمها لأنها غير مخولة بالحديث عن عمل الوكالة.
يعيش معظم أطفال أعضاء تنظيم “داعش” العراقي بين مئات الآلاف من الناس الذين ما يزالون يقبعون في مخيمات النازحين الذين شردهم القتال الذي استمر على مدى ثلاث سنوات، والذي أسقط خلافة “داعش” في نهاية المطاف. ويعيش أكثر من 1.000 طفل مع أمهات معتقلات في سجون مكتظة أو في مراكز احتجاز للأحداث.
كما يعيش بضع عشرات من أطفال أعضاء “داعش” في دور الأيتام. وتؤوي إحدى الدور في بغداد، أبناء الجهاديين الأجانب الذين جاءوا من الخارج للانضمام إلى التنظيم، والذين ماتوا الآن أو أصبحوا في السجون. وقد أقامت الشرطة نقاط تفتيش في جميع الشوارع المؤدية إلى هذه الدور. وكانت هناك بالفعل محاولة فاشلة واحدة على الأقل لمهاجمة دار للأيتام.
غالباً ما يكون الأطفال العالقون في قلب هذا الاستياء من “داعش” مصابين بصدمة عميقة، سواء من حياتهم مع مجموعة “داعش” أو من الحرب نفسها.
في ملجأ آخر للأيتام في الموصل، قالت فتاة عراقية بعمر 9 سنوات وتُدعى أمواج أن والدها قُتل وهو يقاتل في صفوف “داعش”. ثم أصيب منزلها في القصف الذي قتل والدتها وثلاثة من أشقائها. وقد شاهدت جثة والدتها وهي تُستخرَج من تحت الأنقاض.
وبدت الفتاة شاردة ومطاردَة بالهواجس، وعيناها تتجولان، وكثيراً ما كانت قريبة من البكاء، وصوتها مسموع بالكاد. وفي دار الأيتام، تعتني أمواج بإخوتها الثلاثة -محمد، وهواشم، وتحرير.
وقالت إنها تتذكر والدها عندما كان يعطيها النقود لتشتري رقائق البطاطا والصودا. وهي تحلم بأن يأتي إلى دار الأيتام ليأخذها إلى منزلها. وتحلم بأمها وهي تمشط شعرها.
تحمل دولت، وشقيقها صالح وأشقاؤهما -عبد الله، 16 عاماً؛ وآدم البالغ من العمر 8 أعوام؛ وأختهم أميمة، 6 أعوام؛ والصغير داوود البالغ من العمر 4 أعوام- على أكتافهم ثقل المآسي المتعددة التي عانوا منها منذ أن استولى “داعش” على بلدتهم خارج مدينة الحويجة، في العام 2014.
وقد عانى هؤلاء الأطفال على يد “داعش”، وأيدي أعداء “داعش” وأيدي والدهم نفسه.
انضم والدهم إلى المجموعة وعمل في إصلاح مولدات الكهرباء للمتشددين. ثم انضم أخٌ أكبر أيضاً إلى التنظيم وقتل وهو يقاتل مع “داعش”. وقُتلت أخت أكبر سناً بقنبلة على جانب الطريق أثناء محاولتها الفرار من منطقة “داعش”.
كما أن الاضطراب العائلي شتت شملهم ومزقهم أيضاً: فقد ظهر أن والدهم كان يستغل إحدى بناته جنسياً. وواجه صالح أباه وعاشا لأشهر كأعداء تحت سقف واحد. وقد تشاجرا وتضاربا مرات عدة. وقال صالح إنه فكر حتى في قتل والده ليلاً، “لكنه كان مستيقظاً ومسدسه إلى جواره”.
ولكي ينتقم، كما يقول صالح، قام الأب بتسليمه إلى “داعش” بسبب بيعه السجائر التي كانت محظورة في ظل حكم المتشددين. وقام المتشددون بجلد صالح.
ثم هرب الفتى المراهق إلى الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد في آذار (مارس) 2016؛ حيث احتجزه المقاتلون الأكراد لمدة ستة أشهر للاشتباه في انتمائه إلى “داعش”. وقال صالح إنهم علقوه من السقف من يديه وضربوه على باطن قدميه بخرطوم مياه.
تم تزويج الشقيقة التي تعرضت للاستغلال الجنسي لمقاتل من “داعش”، والذي لم يلبث حتى قُتل فيما بعد؛ وهي الآن، بعمر 14 عاماً، متزوجة مرة أخرى، زوجة ثانية لشرطي، وتعيش في مخيم للنازحين.
في الأثناء، عثر “داعش” على زوجة جديدة لوالدهم؛ حيث أجبر امرأة شيعية على الزواج منه. وقد أحضرت المرأة التي كان زوجها قد قتل بدوره أطفالها الأربعة معها.
بعد شهرين من ذلك، استولت القوات العراقية على الحويجة. فحلَق الأب لحيته ليتخلص من علامات انتمائه لـ”داعش” وهرب مع عائلته، مختبئين بين عشرات الآلاف من الناس الآخرين الذين فروا من المدينة.
لكن زوجته الجديدة سلَّمته، وأخبرت المقاتلين الأكراد عند نقطة تفتيش بأنه من “داعش”. وقام المقاتلون بضربه، ثم جروه بعيداً -وكانت تلك آخر مرة يراه فيها أي من أفراد عائلته. وغادرت الزوجة الجديدة مع أطفالها. كانت قد أقامت معهم لفترة وجيزة فقط ولم تكن تريد أن تكون لها أي علاقة بالعائلة التي أُجبرت على الانضمام إليها، حتى أن دولت وأشقاءها لا يعرفون اسمها.
تم تحويل الأطفال إلى مخيم للنازحين؛ حيث عاشوا ما يقرب من عام. وأخيراً، رتب زوج شقيقة أخرى لهم استئجار شقة لهم في حي كردي فقير في مدينة كركوك.
بالعيش في محيط من الجيران الذين ينتمون إلى مجتمع محلي كان “داعش” قد اضطهده بوحشية، يخشى صالح من اكتشاف أمرهم. وفي الوقت نفسه، حذرهم أفراد أسرتهم الكبيرة من أن العودة إلى قريتهم حيث ربما يدعمهم أقارب آخرون، ليست آمنة. وقد تم اعتقال زوج شقيقة أخرى لهم قبل شهر بعد أن تعرّف عليه أحدهم في الشوارع كعضو في “داعش”.
يقول صالح: “في كثير من الأحيان أكون على وشك البكاء. أشعر بالإرهاق. أشعر وكأنني أصبحت في سن الثلاثين بعد كل شيء مررت به”.
ودولت أيضاً جُرِّدت من طفولتها. في شقتهم في كركوك، تطهو الصغيرة ثلاث وجبات في اليوم؛ وعندما يكون أشقاؤها الأصغر سناً في المدرسة، تقوم بتنظيف المنزل، وترتب السرير، وتغسل الصحون والملابس. وهي تزعم أنها تستطيع الآن أن تطهو العدس والبطاطا والدجاج، على الرغم من أنها تعترف بأنها لا تصنع الأرز دائماً بالشكل الصحيح.
ثمة لحظات تضيء فيها ابتسامة وجه دولت، وتحل مؤقتاً محل نظرتها الشاردة. وتتحدث عن كيف أنها كانت تحب المدرسة ذات مرة، وأنها ما تزال تأمل في أن تصبح طبيبة أو معلمة.
وعلى المدى الأقرب، تأمل دولت في الزواج. ففي المناطق الريفية في العراق، ما يزال زواج الفتيات الصغيرات أمراً شائعاً. وقالت إنه سيكون من المسموح لها دينياً، بمجرد الزواج، أن تضع المكياج. وقالت: “أود الذهاب إلى محل لتصفيف الشعر. لم أذهب قط إلى صالون لتصفيف الشعر. أنا أحب أن يكون شعري طويلاً، ولكني أود أن أصبغه بلون مختلف”.
لكنها عندئذٍ تعود إلى الطفلة الصغيرة التي هي عليها -التي تتوق إلى اللعب، وتأسف على أعبائها، والتي، على الرغم من كل شيء، تفتقد والدها.
“إنه عزيز جداً عليّ…. أريده أن يعود إلينا”، همست، حتى لا يستطيع صالح أن يسمع.