يجد المراقبون السياسيون صعوبةً في قياس كامل تأثير الإنترنت على التغيرات السياسية– وهذه مسألة ظهرت في العالم العربي خلال الربيع العربي. فالثورة الرقمية جاءت بحلم الديمقراطية والحرية الشخصية إلى العالم العربي ولكنها بدّلت أيضًا خصائص أساسية في الثقافة العربية بالرغم من الجذب القوي الذي تمارسه التقاليد والديانات.
وجيل الألفية هو أول جيلٍ ينمو ويترعرع على “الثورة الرقمية” والفسحة التي توفّرها شبكة الإنترنت لممارسة النشاط السياسي والتمكّن من نشر مثاليات العولمة والحرية. وتتمتع مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص بالقدرة على تحدّي القواعد السابقة المترسخة، فقد انتبه العرب إلى الحركة التي بادر بها جيل الألفية الأمريكي للتضامن مع الفلسطينيين ضد السطوة الإسرائيلية على غزة، وهي خطوة لم يُسمع بها قط في تاريخ السياسة الأمريكية. وفي العالم العربي، نجح جيل الألفية بتحدي الأنظمة الديكتاتورية خلال الربيع العربي بالرغم من رد الفعل السياسي العنيف واستحواذ رموز النظام– وتحديدًا الأحزاب الإسلامية – على هذه الحركة. ومع أن التغيرات الثقافية التي أوجدتها وسائل التواصل الاجتماعي لم تلقَ الاهتمام نفسه،إلا أنها تغيرات تدوم لفترة أطول.
بخلاف الربيع العربي الذي وضع عنه المراقبون الغربيون مئات الكتب والمقالات والأفلام الوثائقية، لم تحظَ الثورة الثقافية الأهدأ التي أثارها الإنترنت اهتمامًا يُذكر. والواقع أن هذه الثورة الثقافية تزدهر تحديدًا بسبب قدرتها على البقاء بعيدة نسبيًا عن أنظار المراقبين الخارجيين ورموز الأنظمة الحاكمة على حدٍّ سواء – أقلّه للوقت الراهن.
ويعتبر المغرب حالة ذات أهمية خاصة في هذه الظاهرة. فبخلاف العديد من دول الشرق الأوسط، امتنعت الحكومة المغربية عن تصفية وتنقية استخدام الإنترنت. فجيل الألفية المغربي يستعمل الإنترنت عبر الحواسيب المكتبية والهواتف النقالة (بواسطة خدمة 4G في غالب الأحيان) والأجهزة اللوحية، كما أن غالبية الأماكن العامة كالمقاهي والمطاعم تقدم خدمة إنترنت واي-فاي مجانية نزولاً عند الطلب الكثيف عليها. حتى أن مدينة الجديدة تقدم خدمة إنترنت مجانية ضمن حدود البلدية. والجدير بالذكر هو أن الروابط المتينة القائمة عبر الإنترنت بين الجالية المغربية في فرنسا وأبناء المغرب المقيمين فيه لعبت دورًا خاصًا في رسم معالم التغير الذي طرأ على المعايير والتوقعات. ويحرص الشباب المغربي على تطبيق النظام الليبرالي والديمقراطي الفرنسي في بلادهم بغية الاستفادة من نفس الامتيازات التي تمنحها الديمقراطية الغربية للمغتربين المغاربة وأبناء المهاجرين. فمبادئ الحرية الشخصية، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، والتمثيل السياسي والمحاسبة -أي الديمقراطية الكاملة – جميعها تبدو متاحة على نحو مغر عبر الإنترنت.
تحدّي المنظومة السياسية القائمة
لطالما خدمت وسائل الإعلام الحكومية مصالح المؤسسات السياسية والدينية، متذللةً في تبجيلها للنظام الملكي المحافظ المطلق وفي إشادتها بالإسلام التقليدي المتشدد الذي يأبى التكيف مع واقع الزمن الحديث. وإذا بشباب المغرب الذي يشكل 40 في المائة من إجمالي السكان يسأم من امتناع هذا الإعلام بشكل شبه تام عن تناول المواضيع التي تهمّه، فأوجد عالمًا موازيًا على الإنترنت، عالمًا يرفض الإذعان للقواعد الاجتماعية والسياسية القائمة في المجتمع المغربي.
لكن دستور العام 2011، شأنه شأن كافة الوثائق الدستورية السابقة، ينصّ بوضوح على وجوب احترام شخص الملك وتنزيهه عن كافة أشكال الانتقاد. وبذلك، تجد كافة الأحزاب السياسية – اليسارية منها واليمينية – ملتزمةً بهذا القانون فتحصر انتقاداتها بالمؤسسات الحكومية كالبرلمان، المفهوم عنها أنها تشكل وسيلة مهذبة وغير مباشرة للتشكيك في قرارات الحكم الصادرة عن الملك.
وهذا الشك في التقاليد الذي يعتبر مفرطًا في الخنوع يعكس في الوقت نفسه تهكمًا إزاء احترام الأقدمية الراسخ في الثقافة المغربية. إذ يتعلم المغاربة في صغرهم التزام الصمت والإصغاء لكبار السن الذين يملكون خبرة أكبر. لكن الخطاب المتداول عبر الإنترنت يخضع لصوت جيل الألفية، والآراء المعبَّر عنها على هذه المنصة تشكل أسلوبًا مختلفًا من الخطاب السياسي.
هناك يلفت جيل الألفية إلى أن منظومة الحكم الملكي خلفت بوعدها بإرساء نظام ديمقراطي وانتقال السلطة تدريجيًا منذ العام 2011. وفيما يواصل الشباب الالتزام بالحكم الملكي باعتباره رمزًا للاستقرار بفعل شرعيته التاريخية والدينية، إلا أن جيل الألفية مستعد أيضًا للانتقاد بشكل أكثر علنيةً المصالح المخلّدة والفساد والمحسوبية المتفشية بين الأحزاب السياسية في المغرب.
زد إلى ذلك أن الشباب يدحضون علنًا العلاقة التقليدية بين الدولة والمجتمع المدعوة “المخزن” باعتبارها قديمة الطراز. ومن هذا المنطلق، يرفضون “البيعة”–وهو حفل تقليدي يعلَن فيه الولاء للملك في اليوم التالي لعيد العرش الذي يقام خلال تموز/يوليو، حيث يجتمع آلاف الموظفين الحكوميين والنخب والممثلين عن الجهات المحلية والوطنية مرتدين جلابيات بيضاء وينحنون للملك الممتطي حصانه. ويعود هذا الطقس إلى بدايات النظام الملكي في المغرب منذ ثلاثة عشر قرنًا خلى، ولكن الشباب يعتبر أن هذا التقليد يرسّخ مفهوم “الأتباع” لا “المواطنة”، فهو يتوقع من علاقته بالدولة أن تتضمن واجبات وحقوق بدل أن تكون مجرد التزام حصري تجاه الدولة.
تحدّي المنظومة الاجتماعية
حرية المرأة: منذ إقرار ما يعرف بمدوّنة الأسرة المغربية عام 2004، نالت المرأة المغربية حريات أكثر من السابق. إذ بات بوسعها الزواج بدون إذن من الوصي على العائلة، ورفض اقتران زوجها بنساء أخريات، والتنعم بمساواة أكبر في الميراث.
لكن القدرة على التواصل مع الآخرين عبر الإنترنت خارج الحدود التقليدية للمساحات الخاضعة للتمييز بين الجنسين دفعت جيل الألفية إلى إخراج المحرمات الجنسية المستمدة من المبادئ الدينية من إطار قيودها التي لا تزال قوية. وبات الرجال والنساء اليوم يواعدون أشخاصًا داخل البلاد وخارجها ويتزوجون من غير المسلمين وينخرطون في علاقات تعتبر حرام. على سبيل المثال، بينما يحق للرجل المسلم الزواج من امرأة غير مسلمة، يحظّر الدين العكس إلا في حال اعتناق الرجل الدين الإسلامي. غير أن الشابات المغربيات يتجاهلن هذا الحظر.
وبينما كان المجتمع المغربي يتقبّل المثليين طالما أن هذه الثقافة أبقيت سرية، بات مثليو الجنس من الذكور والإناث يظهرون على العلن بفضل الثورة الرقمية ويعلنون عن هويتهم الجنسية على الإنترنت بدون الشعور بالدرجة نفسها من الخوف من العقاب. حتى أن المغاربة باتوا يكتبون بصراحة عن هويتهم الجنسية على غرار الكاتب المغربي الفرنسي عبدالله الطايع الذي نشر كتابًا يتحدث فيه عن ميوله الجنسية.
بيد أن الإنترنت فتح المجال أيضًا أمام ازدياد نسبة الاستغلال الجنسي. فالكثير من النساء المغربيات يبحثن عبر الإنترنت عن عمل في مجال الدعارة في دول الخليج، ويحكى عن عائلات وآباء يشجعون فتياتهم على الهجرة إلى دول الخليج للعمل في الدعارة.وفي المقابل، أصبح رجال الخليج يقصدون مدن المغرب كالرباط والدار البيضاء ومراكش وأكادير لممارسة السياحة الجنسية.
وقد بدأ السكان الأكبر سنًّا بالتصدي لهذا التغير في القواعد والمعايير. ففي العام 2013، قام شابٌ وشابة من مدينة الناظور الشمالية المحافظة بتبادل القبل في العلن بعد خروجهما من المدرسة، وانتشر فيديو عناقهما على موقع يوتيوب، وجاءت ردود الفعل متضاربة ما بين مهلّلٍ مطالِبٍ بتعزيز الحرية الشخصية، وما بين شخصيات دينية تطالب الدولة بمعاقبة الشاب الذي افتُرض أنه عالق في اللاوعي تحت تأثيرالإعلام الغربي.
ومع أن الدولة عمدت بالفعل إلى توقيف الثنائي، إلا أن هذا العمل أدى إلى نشوب حملة عالمية لإطلاق سراحهما كما وإلى إقامة “اعتصام تقبيل” أمام مقر البرلمان بالرباط في ما شكّل تحديًا للنزعة الدينية المحافظة. فما كان من الحكومة أمام هذه الضغوط إلا أن أفرجت عن الولدين وأسقطت التهم.
صياغة خطاب ثقافي بديل
منذ إحياء القومية الأمازيغية في شمال أفريقيا والناشطون الأمازيغ في المغرب ينادون برواية تاريخية مخالفة عن النظرة السائدة للتاريخ المغربي الأولي. إذ يعتبر هؤلاء أن الجيوش العربية غزت شمال أفريقيا خلال القرن السابع وسيطرت عليها بحدّ السيف وليس نتيجة اعتناق سكانها الإسلام سلميًا في ما يسمّى بالفتوحات.
والواقع أن هذه الفكرة تتعارض بشدّة مع المفهوم العربي الأوسع بشأن نواحٍ رئيسية معينة من الهوية المغربية، وبالتحديد يعتبر القوميون الوجود الإسلامي في المنطقة أسوأ أشكال الاستعمار التي مرّت على أمازيغ المنطقة. وقد ساعد الإنترنت في الدعوة إلى إقرار اللغة الأمازيغية (تامازيغت) لغةً رسمية مكرسة رسميًا في الدستور الصادر عام 2011. ولكن أكثر خطواتهم فظاظةً كانت المناداة بالصداقة مع إسرائيل حيث قاموا بإنشاء جمعيات إسرائيلية أمازيغية مجادلين بأنه يوجد العديد من الأمازيغ اليهود الذين ساهموا بشكل ملحوظ في الثقافة وأن إسرائيل – على غرار الأمازيغ – هي ضحية النزعة الإسلامية والعربية الشمولية. بيد أن الكثير من القوميين العرب المغاربة يجدون في هذه الحجج ما يقارب الخيانة للمغرب والإسلام ويعتبرون أن أصحابها يستحقون الاعتقال. ولكن الإنترنت سمح بنشر أفكار الثقافة المضادة هذه، وثمة جيلٌ جديد من القوميين الأمازيغ يطوّر عبر منتديات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي هذه الرواية المضادة التي تزداد تماسكًا يومًا بعد يوم.
نتيجة الصدمة التي خلّفها الفشل الظاهري للربيع العربي، غفل الكثيرون عن التغيرات المتزايدة التي أحدثها الإنترنت في المجتمع المغربي، فيما لا يزال ردّ رموز النظام مجهولاً – وخصوصًا تلك الشخصيات الدينية التي قد تختار ما يكييف تعاليم الإسلام مع القواعد الاجتماعية الجديدة لجيل الألفية أم مضاعفة مطالباتها بإرساء نظام اجتماعي محافظ تحت سيطرة الدولة. مع ذلك، وبصرف النظر عن المستقبل السياسي في المغرب والعالم العربي، فالثورة الثقافية موجودة. جيل الألفية المغربي يريد مستقبلاً على هواه يلبي احتياجاته ولا يستوفي التطلعات التي تفرضها ديانة أو ثقافة ما. وبفضل الإنترنت، وجد هذا الجيل منصةً للتعبير عن هذه الاحتياجات، والأرجح أنه سوف يواصل رسم العالم الحقيقي من حوله.