رغم أن 29 مارس 2019 موعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يقترب يوما بعد يوم، إلا أن معوّقات بالجملة مازالت تحوم حول اتفاق بريكست لا فقط في علاقة بجبهات الرفض الداخلية بل أيضا بالمعنيين بسياسات الاتحاد الأوروبي، حيث مازال لم يتخذّ بعد أي اتفاق للانفصال أو أي بيان للمخطط التمهيدي المرفق به والخاص بالعلاقات المستقبلية بينهما.
ويأمل زعماء الاتحاد الأوروبي في المصادقة على الاتفاق خلال قمة الأحد القادم، واتخذت هذه الخطوة عقب إعلان المجلس الأوروبي على لسان رئيسه دونالد توسك الذي قال إن “فريقي التفاوض من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا توصلا إلى اتفاق حول علاقتهما بعد بريكست في شكل مشروع إعلان سياسي”.
ورغم أن نص الاتفاق الذي أمضت عليه بريطانيا والاتحاد الأوروبي يحدد أسس شراكة واعدة وموسعة في مجالات التجارة والسياسة الخارجية والدفاع والأمن، إلا أن البريطانيين والأوروبيين على حد السواء يتأهبون لمتابعة تداعيات الانسحاب، أولا من خلال مراقبة الفترة الانتقالية التي يمكن أن تمدّد إلى نهاية 2022 أو لما سيترتب من صعوبات في وجه بريطانيا عقب نهاية الفترة الانتقالية في ظل ما أثير من مشاكل ستعانيها بريطانيا بسبب اتفاق “بريكست”.
في زمن التهديد العسكري من روسيا أو من أي مكان آخر سيكون وجود الاتحاد الأوروبي من أهم الضرورات لكن بحضور بريطانيا كعضو كامل فيه
وعلاوة على صعوبات الفترة الانتقالية بما أن بريطانيا ستجد نفسها مجبرة على تطبيق لوائح وإجراءات الاتحاد الأوروبي دون أن يكون لها حق التصويت كعضو فيه، فإن مراقبين يؤكدون أيضا أن اقتصاد المملكة المتحدة سيمنى بخسائر متعددة الأوجه بحيث يصعب حتما تحقيق نمو سريع في أعقاب فقدان مزايا الشركاء الأوروبيين، هذا إلى جانب خسائر تتعلق بنفوذها السياسي والعسكري لأن مجرد مغادرة الاتحاد الأوروبي تعني فقدان مقومات التأثير القوي في رسم السياسات الدولية.
ولهذه الصعوبات الأخيرة، لا يستبعد الرافضون لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن تكون المغادرة مرحلية وأن بريطانيا ستعود إلى رشدها بالعودة إلى محيطها الأوروبي مثلما حصل ذلك في تجارب سابقة في تاريخ المملكة المتحدة.
كل هذه النقاط أثارها الكاتب سايمون جنكيز بتأكيده في مقال بصحيفة الغارديان البريطانية أن “بريطانيا ستعود إلى الاتحاد الأوروبي وأن التاريخ سيثبت ذلك”. ويعود الكاتب إلى تجارب سابقة بتشديده على أن بريطانيا غادرت أوروبا سابقا ثم رجعت إليها مرة أخرى وأن ما يحدث اليوم بعد زوبعة اتفاق بريكست هو فقط حالة من هذه الحالات التي حدثت سابقا.
سوابق تاريخية
من الناحية التاريخية، انسحبت بريطانيا من محيطها الأوروبي في أكثر من مرة، فقد كانت مقاطعة بريطانيا القديمة جزءا لا يتجزأ من الإمبراطورية الرومانية على مدى أربعة قرون قبل أن يضطرها تفكك الإمبراطورية إلى الرحيل، في عام 410م.
وبعد مرور قرنين آخرين، أي في عام 664م، صوتت إنكلترا في “مجلس ويتبي” للانضمام إلى كيان كان يشبه وقتها الشكل الأول للاتحاد (الكنيسة الرومانية الكاثوليكية) الذي شهد خلافات عميقة بين الملكين هنري الثاني وجون. لكن هنري الثامن اختار الانسحاب من الكنيسة في عام 1534م، حيث اختارت إنكلترا النأي بنفسها عن حروب أوروبا الدينية طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
هذا الانسحاب لم يدم طويلا، حيث غيرت إنكلترا، عام 1704م، رأيها وأقحمها حزب “الويغز” الليبرالي الحاكم آنذاك في حرب الخلافة الإسبانية ضد الملك لويس الرابع عشر. ثم عاد المحافظون، الذين تولوا السلطة لاحقا، إلى الانفصال مرة أخرى بعد توقيع معاهدة “أوتريخت” للسلام في عام 1713م. وفي عام 1734، تباهى رئيس الوزراء البريطاني، روبرت والبول، أمام الملكة كارولين بأن 50 ألف رجل قتلوا هذا العام في أوروبا جراء الحروب، لكن لم يكن أحد منهم إنكليزياً.
وكان البريطانيون يقدمون دعما لحلفاء أوروبيين مختارين، لكنهم رفضوا القتال إلى جانبهم، حتى انجذبت بريطانيا إلى الحرب ضد نابليون بونابرت. ثم انتصرت بريطانيا في معركتي “ترافالغار” و”ووترلو”، وأقيم ميدان كبير في وسط لندن ومحطة قطارات شهيرة في المدينة أيضا، يحملان اسم المعركتين، كذكرى لقضية أوروبا الموحدة حديثا.
ومن التجارب الأخرى التي تشير إلى انغماس بريطانيا في محيطها الأوروبي أنها ساعدت في مؤتمر فيينا عام 1815م في تأسيس مؤتمر “محفل أوروبا”، الذي أسس لتحالفات بين القوى الكبرى لحل النزاعات المستقبلية للقارة بشكل سلمي. لكنها سرعان ما فقدت اهتمامها بهذه المبادرة، وركزت على التجارة مع صديقها القديم “بقية العالم”، أو الإمبراطورية. ثم أعادت مشاركتها في حرب القرم، لكنها انسحبت لترك أوتو فون بسمارك، المستشار الألماني المنافس لبريطانيا آنذاك، يستمتع بتفوقه العسكري هناك. ثم أعلن رئيس الوزراء البريطاني المحافظ آنذاك اللورد ساليسبري سياسة بريطانية تجاه أوروبا قائمة على العزلة، وتبنى سياسة “إنزال الخطاب لمنع القارب من الاصطدام” بدول أوروبية أخرى.
في عشرينات القرن الماضي انجرفت بريطانيا إلى حرب كبرى لتساعد على تحقيق رغبة فرنسا في الانتقام من ألمانيا، مما نتج عنه صعود أدولف هتلر. وعندما وعد رئيس الوزراء البريطاني ستانلي بالدوين عام 1934 “بالتحرر من أي التزامات خارجية، وعدم إعادة التسليح مرة أخرى”. كانت هذه ذروة عصر الابتعاد عن أو “مغادرة” أوروبا، وكانت النتيجة هي حرب عالمية ثانية.
بعد نهاية الحرب عام 1945، ولدت أوروبا جديدة، لتشارك بريطانيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو). ولكنها امتنعت عن الانضمام إلى السوق المشتركة في عام 1957، ثم غيّرت رأيها بعد 6 سنوات، وانضمت في العام 1973. وقد أشادت رئيس الوزراء البريطانية الشهيرة مارغريت تاتشر بالقانون الأوروبي الموحد في عام 1986 ووصفته بأنه “سوق واحدة دون حواجز، مرئية أو غير مرئية، مع إمكانية الوصول المباشر بدون عوائق إلى 300 مليون من أغنى الناس في العالم”.
تعود على المغادرة
بنفس التحركات القديمة المتذبذبة عادت بريطانيا في معاهدة ماستريخت عام 1992 إلى ترددها القديم، بسبب انجراف الاتحاد الأوروبي إلى إنشاء “اتحاد أقرب وأقوى”، مما أزعج بريطانيا في علاقة باستقلاليتها ليرفض رئيس الوزراء المحافظ جون ميجور الانضمام إلى منطقة اليورو والإطار الاجتماعي للاتحاد الأوروبي.
وبنفس الطريقة تقريبا يحدث الانفصال بمقتضى اتفاق بريكست عام 2016 لتكون هذه هي المرة التاسعة التي تغادر فيها بريطانيا “الاتحاد الأوروبي”.
ويؤكد سايمون جنكينز أن دروس الماضي بدأت تتضح بتشديده على إمكانية عودة بريطانيا للاتحاد الأوروبي مستندا، للمادة 49 من معاهدة لشبونة التي تنص على أنه بإمكان أي دولة أن تتقدم بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مرة أخرى. ولذلك سيكون الضغط العام للعودة مرة أخرى أكبر، إذا ثبتت قسوة قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ويعتقد جنكينز أن إنشاء الحدود والحواجز من المرجح أن يكون أمرا مكلفا وغير مريح، إلا أنه سيغذي غضب هؤلاء الذين يريدون الانضمام للاتحاد الأوروبي مرة أخرى.
لكنه لا يستبعد أيضا أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى شيء آخر. فقد انهارت مبادرة “محفل أوروبا”، وكذلك معاهدة لوكارنو لعام 1925، بسبب تناقص أهميتها وسط خلافات دبلوماسية لأوروبا المتغيرة باستمرار. ومن بين السيناريوهات المتوقعة مستقبلا سيكون أخطرها الاتجاه إلى الحرب. لكنه يعتقد أن حلف الشمال الأطلسي “الناتو” سيبقى كما هو.
وسيكون في زمن التهديد العسكري من روسيا أو من أي مكان آخر وجود الاتحاد الأوروبي من أهم الضرورات في ظل وجود بريطانيا كعضو كامل فيه. أما السيناريو الأكثر احتمالا وفق “الغارديان” فهو أن أوروبا نفسها تتغير وتتقاسم، لأن فضاءها الاقتصادي يجب أن يتكيف مع السياسات المتغيرة والاقتصاديات والثقافات في دولها. حيث من الواضح أن الاتحاد الأوروبي أصبح غير حساس، وهش لأن جميع المعاهدات الكبرى في أوروبا – ويستفاليا، أوتريخت، فيينا، فرساي، يالطا – لم تدم لأكثر من جيلين.
ومن المخاطر التي تهدد تماسك الاتحاد الأوروبي أن تحاكي الدول الشعبوية في أوروبا الشرقية بريطانيا وتغادر أيضاً، مما سيؤدي إلى حدوث حالة من عدم الاستقرار في منطقة اليورو ككل. كما أن القبائل الأوروبية، التي تعاني من اضطهاد حكومات دولها، قد تجد الفرصة سانحة للانفصال، مثل السلوفاكيين والسلوفينيين قبل ذلك والكاتالونيين، والكورسيكيين والاسكتلنديين اليوم.
ويشير التاريخ إلى أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يتطور إلى إمبراطورية رومانية مقدسة جديدة: كونفيدرالية دول، بعضها كبير، وبعضها صغير، وبعضها أكبر بقليل من المدن، مثل موناكو وسان مارينو وليختنشتاين.
وعلى ضوء كل هذه المعطيات يرى جنكينز أن هناك العديد من أشكال الاتحاد الأوروبي التي ستشجع بريطانيا على الانضمام مرة أخرى. خاصة أن أوروبا نفسها شعرت في الكثير من الأحيان بالحاجة إلى بريطانيا، كما حدث في أعوام 1704 و1815 و1914 و1939. لكن بريطانيا استفادت أيضًا من هذا الاندماج.
مسودة اتفاق بريكست
اتفقت بريطانيا والاتحاد الأوروبي من حيث المبدأ على نص يحدد شكل علاقاتهما المستقبلية بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد بمقتضى اتفاق بريكست.
* مبادئ الاتفاق: يسعى الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة “لشراكة طموحة وشاملة وعميقة ومرنة في التجارة والتعاون الاقتصادي وإنفاذ القانون والعدالة الجنائية والسياسة الخارجية والأمن… يكون أساسها التوازن بين الحقوق والواجبات”.
* الاقتصاد: يتفق الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة على تطوير شراكة اقتصادية متوازنة وواسعة النطاق، تشمل منطقة تجارة حرة وتعاونا أوسع على مستوى القطاعات، يعززها بنود تكفل فرصا متكافئة للمنافسة النزيهة والحرة بين الجانبين. تحترم الاتفاقية “تكامل السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي وكذلك السوق الداخلية للمملكة المتحدة وتسلم بتطوير المملكة المتحدة سياسة تجارية مستقلة بخلاف هذه الشراكة الاقتصادية”. سيحتفظ كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة باستقلاله والقدرة على تنظيم النشاط الاقتصادي.
* الرسوم الجمركية: يتوقع الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة “عدم وجود رسوم جمركية أو رسوم أو مصاريف أو قيود كمية في مختلف القطاعات مع ترتيبات جمركية طموحة.. تعزز وتطور المنطقة الجمركية الموحدة المنصوص عليها في اتفاقية الانسحاب والتي تتفادى الحاجة لإجراء فحوصات لقواعد المنشأ”.
* الجمارك: يريد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة “ترتيبات جمركية طموحة” و”يتطلعان للاستفادة من كل الاستعدادات والتكنولوجيات المساعدة المتاحة” ومستعدان للنظر في “الاعتراف المتبادل ببرامج التجار الموثوقين والتعاون الإداري في الشؤون الجمركية والمساعدة المتبادلة بما في ذلك استرداد المطالبات المتعلقة بالضرائب والرسوم”. *أيرلندا الشمالية: “يجدد الطرفان عزمهما على استبدال الحل الخاص بأيرلندا الشمالية باتفاقية لاحقة ترسي ترتيبات بديلة تكفل عدم وجود أي حدود تخضع لقيود على جزيرة أيرلندا على أساس دائم”.