واشنطن تعلن فشل مسار أستانا، فترد موسكو بعرقلة مسار جنيف. انسداد شبه كامل في العملية السياسية في سوريا. التجاذب السياسي بين واشنطن وموسكو في أعلى مستوياته منذ 2011 عام انطلاق الثورة السورية. هكذا تسير الأزمة السورية نحو مفترق طرق ذي مخارج متعددة وسيناريوهات كثيرة معقدة.
عودة واشنطن للعب دور نشط على الساحة السورية، ورغبتها في منع موسكو من الإمساك بجميع خيوط الأزمة السورية، من خلال الدخول على خط إدلب، دفع الأخيرة لتصعيد لهجتها ضد واشنطن، فيما بدا أنها تشن حملة منظمة على المستويين العسكري والدبلوماسي، تهدف إلى مواجهة التحركات الأمريكية في منطقة شرق الفرات، ردا على التدخل الأمريكي في إدلب.
برز ذلك من خلال تنظيم وزارة الدفاع الروسية، عرضاً واسعاً للتطورات في سوريا، دعي إليه الملحقون العسكريون الأجانب، وممثلو البعثات الدبلوماسية. وقد رافقت ذلك تصريحات قوية صدرت من الكرملين، حملت إدانة لخطط إقامة كيانات بديلة في شمال سوريا، من خلال خطط مشبوهة!
اللافت أيضاً تجاهل موسكو التام لتصريحات المبعوث الأمريكي إلى سوريا، جيمس جيفري، حول التوجه إلى إنهاء مساري آستانا وسوتشي، إذا فشلت جهود تشكيل اللجنة الدستورية قبل حلول منتصف الشهر الجاري. وكان جيفري قد أشار إلى أن واشنطن قد تستخدم آليات جربتها في العراق، في إشارة إلى احتمال فرض مناطق حظر جوي في الشمال.
التجاهل الروسي للتلويح الأمريكي، بموازاة تصعيد لهجة الاتهامات، هدفه مواجهة لجوء محتمل لواشنطن إلى مجلس الأمن.
موسكو تتمسك بأستانا وتلعب بورقة سوتشي
يسعى الروس من خلال أستانا وسوتشي إلى فرض واقع جديد على الأرض، عسكريا عن طريق استنفار جميع القوى والإمكانات، وحشد جميع الحلفاء والشركاء، واستثمار ذلك بأقصى الحدود. وسياسيا من خلال تحويل مسار الحل السياسي في سوريا من جنيف لأستانا، بهدف الحيلولة دون أن يكون للأمريكان الكلمة الفصل في المسألة السورية.
يرفض الروس الضغوط الأمريكية المستمرة، من أجل إخراج الإيرانيين من سوريا، وجر نظام الأسد للعملية السياسية تحت مظلة الأمم المتحدة في جنيف.
وزير الدفاع الروسي قال إن موسكو تدرس اتخاذ التدابير اللازمة لزيادة القدرات القتالية للقوات المسلحة الروسية، بالتزامن مع خطة الولايات المتحدة الأمريكية، الانسحاب من معاهدة التخلص من الصواريخ النووية متوسطة المدى. وهذا تصعيد آخر سوف يكون له انعكاساته المباشرة على الوضع في سوريا.
واشنطن تعود بقوة للساحة السورية وتحاول الدخول على خط إدلب
واشنطن تعود للساحة السورية بقوة، من خلال زيادة كمية وكفاءة قواتها في المرابطة في المنطقة، سواء في البحر المتوسط أو الخليج العربي، هذا من الناحية العسكرية. وسياسيا بتعيين السفير جيمس جيفري، السياسي المخضرم الخبير بمنطقة الشرق الأوسط، كمبعوث خاص بالقضية السورية. جيفري بدأ مشواره الجديد بسلسلة من التحركات الدبلوماسية والزيارات المكوكية للدول المعنية بالأزمة، نتج عنها اجتماع المجموعة المصغرة حول سوريا.
الأمريكان الذين أعطوا الروس الضوء الأخضر من أجل فرض المصالحات، والمضي قدما في الحسم العسكري في دمشق والغوطة وحمص ودرعا، انتظروا تعاوناً أكثر من طرف الروس بخصوص إخراج الإيرانيين من سوريا. لكن الروس فضلوا دعم حلفائهم الإيرانيين عوضاً عن الاستجابة لطلب الأمريكان.
رغم كل شيء تمضي واشنطن قدما في تنفيذ استراتيجيتها الجديدة في سوريا، القائمة على ثلاثة محاور رئيسية هي:
محاربة الإرهاب:
زادت في الأيام الأخيرة وتيرة العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وصدرت بعض التسريبات الاعلامية تتحدث عن عزلة البغدادي قائد التنظيم، وعجزه عن إدارة شؤون تنظيمه بسبب ملاحقة قوات التحالف له.
لكن من الصعوبة بمكان الحديث عن حسم حقيقي ونصر كامل في هذا المجال، حيث لا يزال تنظيم الدولة “داعش” يحظى بقوة معتبرة، تجعله قادرا على الاستمرار في القتال، والسيطرة على مساحات واسعة، تمكنه من المناورة والحركة في مناطق نفوذه بين غرب العراق وشرق سوريا. مما يطرح ظلالا من الشكوك حول نوايا الطرف الأمريكي في القضاء نهائيا على فصيل إرهابي يستمد منه التحالف الدولي شرعية وجوده.
حصار إيران:
تبدو واشنطن هذه المرة جادة أكثر من أي وقت مضى في حصار إيران وتحجيم دورها العابر للحدود، خصوصا في سوريا والعراق. وذلك بالتعاون والتنسيق وتبادل الأدوار مع إسرائيل التي تتولى مهمة استهداف المواقع الايرانية الحساسة في سوريا.
مقابل ذلك يسابق الايرانيون الزمن من أجل تثبيت وجودهم في سوريا. اقتصاديا من خلال تأسيس الشركات وتوقيع الاتفاقيات الرسمية مع نظام الأسد، وأشخاص مقربين النظام. ودينيا من خلال فتح الحسينيات وبناء الأضرحة والمزارات. وثقافيا من خلال فتح الجامعات والكليات التي تنشر المذهب الرسمي الإيراني، والمراكز الثقافية وتنظيم اللطميات في شوارع وأسواق العاصمة دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية، وخصوصا في مناطق الساحل السوري.
تفعيل العملية السياسية في سوريا
تمسك واشنطن بالورقة الأساسية التي يعتمد عليها مستقبل سوريا، حيث تربط إعادة الإعمار في سوريا بالتغيير السياسي. السفير الأمريكي الخاص جيمس جيفري أكد على ذلك بقوله: “إن إعادة إعمار سوريا وعودة اللاجئين يرتبطان بتطور العملية السياسية هناك”، وأضاف جيفري: “حتى الآن، لم يحدث تغيير كبير.. دمشق والروس والإيرانيون يريدون عودة اللاجئين وتدفق أموال إعادة الإعمار والاعتراف بشرعية النظام، لكن هذا لن يحدث في ضوء الوضع الحالي”.
وأشار المسؤول الأمريكي إلى أن “البحث جار في بدء تطبيق عملية سياسية جديدة، بموافقة جميع الأطراف، ووفق الاتفاقات السابقة، لدفع العملية السياسية إلى الأمام”، وتابع: “القوات الأمريكية ستبقى في سوريا حتى القضاء على (داعش) وانسحاب القوات الإيرانية”.
معادلات أنقرة الحرجة في الحفاظ على التوازنات الحساسة
تتفق أنقرة مع واشنطن على أن عنوان الحل السياسي النهائي في سوريا هو مسار جنيف وتحت مظلة الأمم المتحدة، وتتطابق رؤى البلدين في أن الحسم العسكري في سوريا مرفوض تماما، وأن اقتحام إدلب من خلال عملية عسكرية شاملة، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، من أجل القضاء على المعارضة الوطنية السورية غير مقبول، ولن يمنح السوريين إلا مزيدا من العنف والدمار وعدم الاستقرار.
في المقابل تتفق أنقرة مع موسكو على أن دعم واشنطن اللامحدود للميليشيات الانفصالية الارهابية في شرق وشمال سوريا، سوف يؤدي إلى إنشاء كيان جديد يهدد أمن سوريا ووحدتها. وأن سيطرة الأمريكان على مناطق سوريا المفيدة، الغنية بالبترول والغاز والمحاصيل الزراعية من القطن والحبوب والبقوليات، سوف يمهد الطريق أمام مليشيات بي كا كا، لكي تفرض أمرا واقعا على الأرض، يمهد لتأسيس دولتها المزعومة. الأمر الذي لن يقتصر على تمزيق سوريا فحسب، بل إلى تهديد الأمن الاستراتيجي لدول الجوار وفي مقدمتها تركيا أيضا، تحت مسميات الفيدرالية وغيرها.
السفير الأمريكي الخاص بسوريا جيمس جيفري صرح قائلا: “لن نسمح للروس بدخول إدلب”. حيث لا توجد قوة محتلة دخلت أرضاً وخرجت منها إلا من خلال تفاهمات دولية. رغم ذلك فإن الروس يدفعون جيش النظام والإيرانيين إلى ما يشبه التحرش الدائم بإدلب، فماذا وكيف سيكون الرد الأمريكي؟
استضافت أنقرة، الأسبوع الماضي، اجتماع فريق العمل المشترك الثالث حول سوريا، بين وفدي تركيا والولايات المتحدة، وترأس نائب وزير الخارجية التركي سداد أونال، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري، وفدي البلدين.
تركيا والولايات المتحدة كانتا قد توصلتا إلى اتفاق يتضمن إنشاء 3 آليات عمل ثنائية، على أن يكون فريق العمل الأول متخصصا بالعمل المشترك حول تنظيم “فتح الله غولن”، والقضايا القنصلية بين الجانبين.
وتُعنى المجموعة الثانية بالملف السوري وقضايا التعاون لهزيمة تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” والمجموعات الإرهابية الأخرى، حيث سيقوم الفريق ببحث كيفية التزام واشنطن بتعهداتها التي قطعتها لتركيا حول منبج، وتوفير الأمن للمناطق المحررة من تنظيم “داعش”، ومسألة الحل السياسي في سوريا. أما فريق العمل الثالث فيهتم بمسألة الحرب المشتركة ضد منظمة “بي كا كا”.
في ظل تضاؤل حظوظ تشكيل اللجنة الدستورية، واستحالة تحقيق المبعوث الأممي إلى سوريا، دي ميستورا، أي تقدم قبيل نهاية مهمته بحلول نهاية العام، وقلة الخيارات المتاحة أمام المبعوث الجديد، يبدو المسار السياسي في سوريا شبه مقفل حاليا.
القدس العربي