«الجمهوريّة الخامسة» الفرنسيّة تترنّح. ليست المرّة الأولى التي يساق فيها مثل هذا الكلام، وكان بمستطاعها أن تظهر عند كل منعطف قدرتها الإمتصاصيّة لأزماتها، وتجعل من الخطاب المستعجل تهافتها بعضاً من لوازم الإستهلاك الداخلي من ضمن لعبتها، وآلياتها. لطالما طوّرت هذه الجمهورية نظرة إلى مؤسساتها، وإلى مجمل صيغتها الدستورية، على اعتبار أنّها بمثابة التأليف الفطن والمتين الذي استقرّ عليه الأمر بعد تيه طويل وتاريخ من التعثرات، وأقل قليلاً من قرنين من الانقسامات الحادة بين التصورات الأيديولوجية والدستورية المختلفة، وعلى مدار تقلبات النظم، من جمهورية، إلى إمبراطورية أولى، فرجعة ملكية، فملكية دستورية، فجمهورية ثانية، فإمبراطورية ثانية، فجمهورية ثالثة فرابعة.
جعلت «الجمهورية الخامسة» من نفسها الخلاصة لكل هذا، خلاصة الخلاصات، مملكة بشروط جمهورية، برلمانية بمحرّك رئاسي. غزت الشعور بأن ما قبلها كان زمن تأسيس متعرّج، شاق، مزدحم، طويل، وأنّها في المقابل ما به استقرّ الزمن الممأسس، بحيث أنّ الخروج منها مستحيل، ليس فقط مستحيل بل غير جاد من الأساس، ولا يعدو كونه غير شقاوة حنين للحظة سالفة من زمن التأسيس الإنقسامي السابق الطويل.
اليساريون بالتحديد راكموا ثقافة مساجلة مع أساساتها، بوصفها «الانقلاب الدائم» على الجمهورية، لإستعادة عنوان كتاب فرنسوا ميتران السجالي الحاد ضد النظام الديغولي عام 1964. لكنه في كل مرة طرحوا فيها تصورات عن «الجمهورية السادسة» ما كان يتأخر تكشف أضغاث المشاهد المستذكرة والمتخيلة عن اليعاقبة والكومونة والجبهة الشعبية والجمهورية الرابعة، أكثر منها توطئة للتجاوز بإتجاه المستقبل. نوستالجيا تمنع العنصر اليوتوبي من التفتح، تحتجزه في أسر المشهديات الماضية. ليس تفصيلاً بعد كل شيء أن يتحول صاحب كتاب «الإنقلاب الدائم» المشتكي من السمة غير الديمقراطية، بل البونابرتية، لنظام الجمهورية الخامسة، والآتي إلى رئاستها ببرنامج الثورة عليها، وتجاوزها، إلى عنوان للمحافظة عليها، والإستمرار بها، وتجذير النظرة لها على أنّها «خاتمة» التاريخ الدستوري الفرنسي.
جعلت هذه الجمهورية الخامسة على مقاس شارل ديغول، المستفيد من تدهور حال الحكم الإشتراكي في الجمهورية الرابعة وتخلّع مؤسساتها وتعثّرها من مصر إلى الجزائر، والعائد إلى الحكم عام 1958 بخطاب بونابرتي بالفعل ضد «نظام الأحزاب». جعلت هذه الجمهورية على مقاس شخصية استثنائية، لكنها استمرت بشكل أساسي من خلال ترئيس أناس غير استثنائيين، اذا ما وضعنا ديغول وميتران جانباً، أناس «عاديين»، بل «باهتين». بهذه المفارقة استمرّت إلى يومنا. بهذه المفارقة تترنّح اليوم.
ماكرون هو مشكل دولة مركزية ومنحازة حكومياً في الوقت نفسه إلى الأغنياء، الأمر الذي ظهر، بالتجربة، أنه يستثير «حساسية» هائلة، وغير محصورة في فئة اجتماعية واحدة، ضد شخص الرئيس الحالي، بمثل ما يستثير تصدّعات العقد الاجتماعي
الخلخلة التي تتعرّض لها في هذه الأيام تتعلّق إلى حد كبير بمفارقة رئاسة الجمهورية فيها. المقامة على مقاس ديغول، لكن التي لا يمكن أن يتأمن لها ديغول أو ميتران كل الوقت. وفيما رضي أمثال شيراك واولاند وحتى ساركوزي، «بالقسمة»، قسمة أنّهم عاديون، وبالدرجة الأولى يعيدون لـ«نظام الأحزاب» موقعه ضمن نسق الجمهورية الخامسة، ذهب ايمانويل ماكرون إلى الوجهة الأخرى. كان أصدق من سواه من المتحدرين من اليسار، إذ لم يطرح تجاوز «الخامسة» إلى «جمهورية سادسة» أبداً. بالعكس، طرح نفسه كمؤمن بنجاعة مؤسسات «الخامسة» وأنّها بالفعل تأليف لا غنى عنه ولا بديل، بين فرنسات منقسمة من وقت الثورة، وعلى امتداد القرنين الماضيين، بل أنّه هو، ماكرون، سيزيد هذا المسار التوحيدي حيوية، ويكون «توحيداً» لديغول وميتران معاً في شخص واحد، وللعاصمة والأقاليم في شخص واحد، وللمدن والأرياف في واحد، ولفرنسا اللادينية وفرنسا المتدينة في واحد، ولفرنسا التقدمية وفرنسا الرجعية في واحد. طرح نفسه كإبن للجزء الصالح من الإستبلشمنت، ما سماه «نظام الكفاءات» في الجمهورية الذي سمح لشاب طموح مثل أن يصعد بسرعة إلى أعلى دون أن يعشش مطولاً في «السلك»، سلك الهرمية الحزبية أو الوظيفة العمومية. واعتبر أن الجزء الطالح من هذا الاستبلشمنت هي الأحزاب ذات المنشأ الأيديولوجي، التي لا هي تستطيع تفعيل أفكارها الأيديولوجية، ولا هي تجرؤ على طرح هذه الأفكار جانباً. طرح نفسه كمختلف عن العاديين والباهتين، عن ديستان وشيراك وساركوزي واولاند. هذا الطموح الزائد لا يمكن اغفاله عند النظر إلى هذا المنسوب العالي من شخصنة المشكل معه في الحراك الحالي، من دون أن يكون بالمتسع في نفس الوقت اختزال هذا الحراك في هذه الشخصنة. هذه الشخصنة تتخطى بحد ذاتها «المشكلة ماكرون» وتطال مشكل رئاسة الجمهورية في «الخامسة»، ومشكل الدولة المركزية نفسها التي طرحت الجمهورية الخامسة كتجذير وتوسيع واستدامة لها. فالمشكل ماكرون هو مشكل دولة مركزية ومنحازة حكومياً في الوقت نفسه إلى الأغنياء، الأمر الذي ظهر، بالتجربة، أنه يستثير «حساسية» هائلة، وغير محصورة في فئة اجتماعية واحدة، ضد شخص الرئيس الحالي، بمثل ما يستثير تصدّعات العقد الاجتماعي.
في كتابه الصادر عام 2015، بعنوان «الحكم الصالح»، يوضح المفكر السياسي الفرنسي بيار روزانفالون كيف أن فكر عصر الأنوار ثم الثورة الفرنسية قام على السعي المبالغ به نحو التجريد، نحو الابتعاد عن «الشخصنة»، التي يحاذر أن يغذيها غموض القوانين وكثرتها وتباينها، والتي تنزع بالنتيجة نحو الاعتباطية. كان المثال الأعلى للأنوار والثورة هو «قانون» يسود، يكاد يكون بشكل آلي، على قاعدة بساطة القوانين، وقلّتها قدر الإمكان، وثباتها. لاحقاً، تابع التيار الليبرالي في فرنسا القرن التاسع عشر البحث عن «اللاتشخص» هذا، فوجد ضالته في تعظيم أمر «البرلمانية»، فيما بحث اليسار عن «اللاتشخص» في تعظيم أمر «الجماهير الشعبية» قبل أي شيء، هذا مع منعرجي «شخصنة» قوية، جسدهما نابليون الأول ونابليون الثالث.
يشدّد روزنفالون على أنّ المسار تبدل في القرن العشرين، وأكثر فأكثر مع «الجمهورية الخامسة»، فهذه أعادت الإعتبار لـ«الشخص» وللسلطة التنفيذية على حساب «التشريع»، لكنها دخلت بعد ديغول في مفارقة أن الرئاسة الاستثنائية فيها يتولاها عاديون، وفي اضطراب المثالات الباحثة عن حلول لأزمتها، بين من يحيي تقليد «الأمير الصالح» المستعاد من «مرايا الأمراء» في العصور الوسطى، وبين من يشتاق إلى نموذج «المنتخب المحض» في بدايات الثورة الفرنسية حيث كان الانتخاب فعلا منقطعا عن الترشيح، بل كانت شرعية انتخاب شخص مقرونة بعدم سعيه لهذا المنصب لا ببرنامج ولا بدعاية. ايمانويل ماكرون هو من هذه الوجهة «حدوتة أمير صالح» لم تدم كثيراً، في حين ما زالت أسطورة «المنتخب المحض» لها وقعها في الجموع، بأشكال ضمنية أو مجاهر بها.
القدس العربي